موسى: الإخوان كفروا «محمد سليم العوا» بسبب إشادته بالرئيس السيسي    طريقة استثمار 100 ألف جنيه فى الشهادات والذهب بعد انخفاض الأسعار    تنفيذ 5 حالات إزالة ل تعديات على الأراضي بمدينة الإسماعيلية (صور)    مصر وتشاد توقعان مذكرات تفاهم لتعزيز التعاون بمجالات الاستثمار والكهرباء والطاقة    انعقاد اللجنة المصرية - التشادية المشتركة لبحث تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين    سيناتور أمريكي يؤكد وجود أسماء 20 شخصية بارزة متورطة في ملفات إبستين السرية    إيطاليا ضد النرويج.. ريتيجي يتحدى هالاند في تشكيل تصفيات المونديال    زيلينسكي: أوكرانيا تعمل على استئناف تبادل الأسرى مع روسيا    فرنسا يحقق فوزًا سهلا على أذربيجان في ختام تصفيات مونديال 2026    رغم تواجده بالقائمة النهائية، محمد صلاح يغيب عن حفل الأفضل بأفريقيا لهذا السبب    دوري أبطال إفريقيا: طارق قنديل رئيسًا لبعثة الأهلي في المغرب    ضبط زيت طعام مجهول المصدر وملح مغشوش فى حملة بالإسكندرية    إخماد حريق اندلع في سيارة ملاكي و4 موتوسيكلات داخل جراج بالزاوية الحمراء    الأرصاد الجوية: غدًا يسود طقس خريفي معتدلًا نهارًا ومائلًا للبرودة ليلاً على أغلب الأنحاء    عودة الضوء    خالد سليم ينضم لأبطال مسلسل هند صبري الجديد    نساء على عرش مصر بقصر الأمير طاز    حماة الوطن: نخوض الانتخابات بخطة واسعة لعقد مؤتمرات جماهيرية حاشدة    هل التبسّم في الصلاة يبطلها؟ أمين الفتوى يجيب    خطوبتي مش بتتم وقالوا لي معمول سحر.. أمين الفتوى يجيب    لأول مرة بالفيوم، مستشفى طامية يجري زراعة منظم ضربات القلب ل7 مرضى    مسكن بحيوات كثيرة    صناع فيلم «شكوى رقم 713317» يحتفلون بعرضه العالمى الأول فى مهرجان القاهرة السينمائى    جابرييل يغيب عن أرسنال بسبب إصابة مع منتخب البرازيل    أخبار السعودية اليوم.. معاهدة دفاع مع الولايات المتحدة خلال زيارة ولي العهد لواشنطن    وزير الثقافة: مشروع أكاديمية الفنون في الإسكندرية ترجمة حقيقية لرؤية الدولة لنشر التعليم المتخصص    أمين البحوث الإسلامية يتفقد منطقة وعظ أسيوط لمتابعة الأداء الدعوي    مصر تتجاوز مليار دولار في الأمن السيبراني وتستعد لقيادة الحماية الرقمية    منتخب مصر بالقميص الأحمر والأسود أمام كاب فيردي غداً    ما حكم الامتناع عن الإنفاق على الزوجة والأولاد؟.. أمينة الفتوى تجيب    "علوم" القاهرة الأهلية تنظم ندوة توعوية بعنوان "أنت أقوى من المخدرات" غدا الإثنين.    حصر وجمع طيور البجع بطريق السخنة    توقيف أفراد من وزارتى الدفاع والداخلية السورية بعد تحقيق فى أحداث السويداء    قضايا الدولة تفتتح مقرا جديدا لها بالوادي الجديد (صور)    طريقة عمل الدجاج المشوي المسحب بتتبيلة لا تقاوم    تعليم دمياط يواصل لقاءات مبادرة صوتك مسموع    محافظ الجيزة: الشعار الجديد للمحافظة يجسد إرثها الحضاري والعلمي    الأهلي يستعد لتجديد عقد أحمد عابدين حال عدم تلقي عرض من فاماليكاو البرتغالي    وزارة التعليم الفلسطينية تشكر مصر على استيعاب عدد كبير من الطلبة الفلسطينيين    نجل محمد صبري: والدي لم يكن يعاني من أي أمراض.. وطريقة لعبه تشبهه في كل شئ    انطلاق حملة التطعيم ضد الحصبة للأطفال حتى 12 سنة بأسوان.. صور    بتوجيهات شيخ الأزهر .. دخول قافلة «بيت الزكاة والصدقات» الإغاثية الثانية عشر إلى غزة    بسبب معاكسة فتاة.. التحقيق مع طرفي مشاجرة بشوارع المطرية    زراعة بنى سويف تعاين مزرعتى ماشية و4 للدواجن وتصدر 6 تراخيص لمحال أعلاف    وزير الصحة يكشف مفاجأة عن متوسط أعمار المصريين    جهاز مستقبل مصر يقود سوق القمح نحو الاكتفاء الذاتى عبر زيادة المساحات الزراعية    10 محظورات خلال الدعاية الانتخابية لمرشحي مجلس النواب 2025.. تعرف عليها    القاهرة الإخبارية: الاحتلال يمنع عبور شاحنات المساعدات المحملة بالخيام والبطاطين إلى غزة    وزارة «التضامن» تقر قيد 5 جمعيات في 4 محافظات    مواعيد وضوابط امتحانات شهر نوفمبر لطلاب صفوف النقل    "الداخلية" تصدر 3 قرارات بإبعاد أجانب خارج البلاد لدواعٍ تتعلق بالصالح العام    انطلاق أسبوع الصحة النفسية لصقل خبرات الطلاب في التعامل مع ضغوط الحياة    منافسات التارجت سبرنت تشعل اليوم الحادي عشر ببطولة العالم للرماية    الأوقاف تعلن عن المقابلات الشفوية للراغبين في الحصول على تصريح خطابة بنظام المكافأة    الفسطاط من تلال القمامة إلى قمم الجمال    وزير الدفاع يشهد تنفيذ المرحلة الرئيسية للمشروع التكتيكي بالذخيرة الحية في المنطقة الغربية    30 دقيقة تأخرًا في حركة قطارات «القاهرة - الإسكندرية».. الأحد 16 نوفمبر    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 16نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا..... اعرف مواقيت صلاتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جابر عصفور.. فكر الثورة وثورة الفكر
نشر في الشروق الجديد يوم 07 - 05 - 2009

العلاقة متبادلة بين الفكر والإبداع من ناحية والثورة من ناحية موازية، فالفكر والإبداع يمهدان للثورة، ويؤهلان العقول والقلوب لفعلها، فلا ثورة تنشأ من العدم، ولا ثورة تنفجر فى التاريخ إلا وتسبقها عقول المفكرين التى ترى المستقبل من وراء غيوم الحاضر.
ورؤى المبدعين التى تبدأ من رفض الواقع والحلم بواقع بديل، ولذلك يقال عادة إن الثورة، وإن نتجت عن عوامل عديدة، لا تأتى إلا بعد التحفيز الفكرى والإبداعى الذى يقع فى مقدمة العوامل، ويتفاعل معها فيتخلق الوعى الثورى الذى يتحول إلى انفجار جماهيرى وعندما تحدث الثورة فإنها تعود، بدورها، إلى الفكر والإبداع.
وتتحول إلى قوة مؤثرة فى حركتهما، وفتح الآفاق المغلقة أمامهما، كما لو كانت تسدد لكليهما دين التولد، فتمنحهما الطاقة على تحطيم كل القيود التى تظل تحول دون الفكر والإبداع والتحقق الكامل للفعل الخلاق الذى لا نهاية لوعوده وآفاقه حدث هذا فى الثورة الفرنسية 1789 التى علّمت الكوكب الأرضى شعارات الحرية والإخاء والمساواة.
وهى التى نقلت إلى المصريين معنى «الدستور» القائم على احترام الحريات الشخصية للمواطنين، جنبا إلى جنب غيرها من الحقوق والواجبات التى ينص عليها، بوصفه «العقد الاجتماعى» بين الحاكمين والمحكومين، وكان من أهم العوامل التى أدّت إلى تفجير الثورة الفرنسية.
كتابات الكتّاب وأفكار المفكرين وإبداعات المبدعين ولذلك كان من الضرورى أن يكتب أمثال مونتسكيو (1689 1755) وفولتير (1694 1778) وچان چاك روسو (1712 1778) قبل الثورة، وأن يكتب بعدها ستندال (1783 1876) وفيكتور هوجو (1802 1885) وبلزاك (1850 1899) وبودلير (1821 1867) وغيرهم من كتّاب ما بعد الثورة الذين تأثروا بها، وتجسدت مبادئها فى تفكيرهم وإبداعاتهم .
ولاجدال فى أن الثورات يأخذ لاحقها عن سابقها، كما أخذت الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) مبدأ تحرير العبيد عن الثورة الفرنسية التى جعلت هذا المبدأ أحد عناصر معانى «المساواة» و«الإخاء»، وهو الأمر الذى حدث فى ثورة 1919، حين رفع بعض الثوار شعار «الحرية والمساواة والإخاء».
وقد حدث الأمر نفسه فى الانتفاضات المصرية التى سبقت ثورة 1919، وكانت الثورة من ثمارها، وأهمها الثورة العرابية التى انتهى انكسارها بالاحتلال البريطانى لمصر وكانت الثورة العرابية تستلهم أفكار الثورة الفرنسية ومبادئها التى كان يشيعها مثقفون من أمثال أديب إسحق (1856 1885) الذى كانت كتاباته سابقة على كتابات فرح أنطون (1874 1822) وتمهيدا لها على السواء.
ومن المؤكد أن الجذور الفكرية والإبداعية لثورة 1919 وضعها قادة التمرد الأوائل الذين ثاروا على الاحتلال البريطانى، سواء أولئك الذين أسهموا فى ثورة عرابى من أمثال عبد الله النديم (1845 1896) ومحمد عبده (1849 1905)أو الذين لم يسهموا من أمثال شبلى شميل (1853-1917)، وجمال الدين الأفغانى (1838-1897) وعبد الرحمن الكواكبى (1849-1902) ومصطفى كامل (1874 1908) وقاسم أمين (1865 1908) وأحمد فتحى زغلول (1863 1914) وأحمد لطفى السيد (1871 1963) والحق أن قادة الفكر والإبداع فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر قد أنطقوا، على نحو متصاعد ومتراكم.
المسكوت عنه من الأفكار الاجتماعية والسياسية والدينية، بما فى ذلك الخطاب الدينى، وعمقوا جذور الوعى بمعانى التسامح الدينى والفكرى، وحقوق المواطنة واحترام الدستور، وحرية الاعتقاد، وضرورة الفصل بين السلطات، وحقوق المرأة، وحتمية تأسيس الدولة المدنية ودعم المجتمع المدنى، وناهضوا بقايا العبودية التى كانت مترسبة فى التركيبة الاجتماعية، كما حاولوا زعزعة سطوة التقليد والاتِّباع فى الفكر والإبداع، وثاروا على السلفية الفكرية والأدبية وقد تفاعلت أفكارهم وإبداعاتهم مع نتائج الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وما ترتب عليها من مشكلات.
كان لابد أن تؤدى إلى ثورة 1919 وانفجارها بوصفها أهم ثورة شهدها التاريخ المصرى الحديث، وقد قام أبناء جيل ثورة 1919 بإعادة إنتاج الأفكار وقيم الإبداع السابقة عليهم، وانطلقوا إلى آفاق غير مسبوقة، وأضافوا ما ارتبط بجذرية الثورة التى انتسبوا إليها بقدر ما تجسّدت فى إبداعهم وفكرهم وكانت إضافاتهم جذرية فى واقع الأمر .
وعندما نتحدث عن جيل ثورة 1919 فإننا نتحدث عن الجيل الذى رأى الثورة، وتأثر بها، وأسهم فيها فكرا وإبداعا وممارسة على السواء، ويعنى هذا أننا نتحدث، عن الجيل الذى كان يتراوح عمر أفراده ما بين العشرينيات والأربعينيات، وقت انفجار الثورة باستثناء سعد زغلول ( 59 سنة) مثل توفيق الحكيم (21سنة) ومحمود تيمور (25سنة) ومحمد تيمور، وسيد درويش (27 سنة) ومحمود مختار (28سنة) وطه حسين، والعقاد، والمازنى، وعبد الرحمن الرافعى (30 سنة) ومحمد حسين هيكل، وعلى عبد الرازق (31سنة) وسلامة موسى (32 سنة) وأحمد أمين، وعبد الرحمن شكرى (33 سنة) ومصطفى عبد الرازق (34سنة)، وهدى شعراوى (40سنة) ومصطفى النحاس (40 سنة) وأحمد لطفى السيد (47سنة) ويمكن أن نلحق بهؤلاء يحيى حقى الذى كان عمره أربعة عشر عاما ونجيب محفوظ الذى كان فى عامه الثامن، ولويس عوض الذى لم يكن تجاوز الرابعة من عمره وكل هؤلاء مثال على غيرهم الذين لم أذكرهم.
فلم أقصد الإحصاء الكامل، سواء من حيث تأثر إنجازهم بما أحدثته الثورة فى العقول والنفوس، أو من حيث تجسيد أعمالهم لأهم المبادئ التى جاهدت الثورة لتجذيرها فى الحياة الثقافية والأبنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية وقواعد الخطاب الدينى، فضلا عن الخطاب الأدبى.
وأتصور أن أهم ما سعى جيل ثورة 1919 إلى تحطيمه، من الأصول المتوارثة للتخلف، هو التحالف بين الجمود الدينى والاستبداد السياسى فى آن، فقد رأوا فى الاثنين وجهين لعملية واحدة، تفضى إلى تأكيد «طبائع الاستبداد» فى النفوس بوجه عام من ناحية، وتطيل أمد الحكومات الفاسدة المتعاونة مع الاستعمار وأذنابه من ناحية مقابلة وقد التفت القدماء إلى هذا التحالف غير المقدس، فتركوا لنا أقوالا من مثل «الدين بالملك يبقى والملك بالدين يقوى» ودليل ذلك أن حرية الفكر.
على سبيل المثال، لم تكن تزدهر إلا فى اللحظات التاريخية التى تنفصم فيها عرى هذه العلاقة، وذلك على نحو ما حدث فى حالتىّ كتاب على عبدالرازق (1888-1966) «الإسلام وأصول الحكم» الذى صدرت طبعته الأولى فى أول أبريل سنة 1925 عن إحدى مطابع مدينة المنصورة، حيث كان يعمل الشيخ قاضيا فى هذه المدينة، وكتاب زميله وصديقه طه حسين «الشعر الجاهلى» الذى صدرت طبعته الأولى فى منتصف مارس 1926 عن مطبعة دار الكتب المصرية.
فأحدث كلا الكتابين زلزالا، كان تعبيرا عن الروح التحررى الذى أطلقته ثورة 1919 فى المجال الفكرى والدرس الأدبى أما كتاب على عبدالرازق فكان سيئ الحظ، فقد صدر مناقضا لموجة الدعوة إلى تنصيب الملك فؤاد (1868 1936) خليفة للمسلمين، بعد سقوط الخلافة العثمانية، وفى مواجهة رغبته فى تنصيب نفسه خليفة للمسلمين، وهى الرغبة التى دعمتها حماسة مشايخ الأزهر المشايعين للملك المستبد من ناحية، وإحياء لفكرة الخلافة من ناحية ثانية، وبدا الأمر كما لو كان التحالف قد حدث بين طرفين، يتفقان على الجمع بين الثيوقراطية والأوتوقراطية.
ويقيمان نوعا جديدا من «خلافة» ضاربة بجذورها فى التاريخ الإسلامى، لكن تحت أقنعة معاصرة، تعيد وصل الدين بالدولة، وجعل كلا الطرفين وجها للآخر وكان ذلك نقضا لكل ما ذهب إليه جمال الدين الأفغانى (1838-1897) من ضرورة فض الاشتباك بين «السلطة الروحية» و«السلطة الزمنية» وتابعه عبدالرحمن الكواكبى، مؤكدا ضرورة اقتصار «الدولة» على تدبير الحياة الدنيا، وجعل الأديان تحكم فى الأخرى وأضف إلى ذلك ما سبق محمد عبده إلى تأكيده من أنه «ليس فى الإسلام سلطة دينية» وكان كتاب على عبدالرازق تطويرا لكل هذه الأفكار التى سبقته والتى ذهب إليها مشايخ الاستنارة قبله، ولم يفعل الرجل شيئا سوى أن أكمل الشعارات القديمة لأسلافه وأساتذته بما يمكن أن يكون دليلا عليها وسندا لها من أفكار «الدولة المدنية» التى قرأها عند أمثال چون لوك (1632 1704) من الذين دافعوا عن الدولة المدنية الحديثة.
وأسسوا مبادئها الفلسفية القائمة على نقض مفهوم «الحق المقدس» الذى أراد به الملك فؤاد أن يصون نزعته الديكتاتورية فى الحكم ولذلك انفجر كتاب على عبدالرازق كالقنبلة فى وجه رغبة الملك وحلفائه من رجال الدين وكان المناخ السياسى مواتيا لهم، فقد كان زيور باشا رجل الملك فؤاد ورئيس ديوانه على رأس وزارة.
جاءت على غير هوى الجماهير التى كانت مع الوفد برئاسة سعد زغلول وبقدر ما كان كتاب على عبدالرازق قنبلة أطاحت بالدعوة إلى إحياء الخلافة، فى سياق شعبى من العداء للملك الذى أتى بحكومة يرأسها أحد رجاله المعادين للنزعات التحررية، كان الكتاب إنهاء عمليا لما استقر عليه الرأى من الدعوة لعقد مؤتمر إسلامى بالقاهرة من جميع الدول الإسلامية للبحث فى مسألة الخلافة من جميع نواحيها وأخذت لجان الخلافة، فيما يقول عبدالعظيم رمضان فى تأريخه للحركة الوطنية.
تروّج للمؤتمر وتعزز فكرته وكان شيخ الأزهر وشيوخ المعاهد وكبار العلماء هم رؤساء اللجان التى بدأت فى توجيه الدعوات إلى العالم الإسلامى منذ أوائل عام 1994.
وقد هدم كتاب على عبدالرازق كل هذه المحاولات بإعلانه منذ صفحاته الأولى، تحديه لكل سلطة بشرية تقوم على التسلط الذى يرفضه المؤلف الذى لا يخشى أن يفتتح كتابه بقوله إنه لا يخشى أحدا سوى الله الذى له وحده القوة والعزة، وما سواه من الملوك ضعيف ذليل ويمضى الكتاب فى المقارنة بين شرور «الحكم المقدس» فى الغرب وشرور «الخلافة» فى الشرق، مؤكدا أن الذين جعلوا الخلافة ركنا من أركان الإسلام إنما بنوا أحكامهم على اجتهاد خاطئ فى فهم الإسلام، فالخلافة ليست ركنا ولا أصلا من أصول الإسلام، وإنما هى محض تبرير لاستبداد المستبدين من الخلفاء الذين بنوا عروشهم على رءوس البشر والحق أن الدين الإسلامى برىء من هذه الخلافة التى توارثها المسلمون.
فهى ليست من الخطط الدينية، وإنما هى واقعة ضمن الخطط السياسية الصرفة التى لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا، لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة، عملا بالمبدأ الذى يقول إننا أدرى بشئون دنيانا، والخلافة شأنها شأن كل أنظمة الحكم، هى ما يتراضى عليه البشر، ليكون سبيلهم إلى العدل والتقدم والإسهام فى الحضارة الإنسانية.
وكان من المنطقى أن يدفع على عبد الرازق ثمن جرأته، فيبدأ الهجوم التكفيرى عليه من مجلة «المنار» التى كان يشرف عليها الشيخ محمد رشيد رضا (1865 1935) الذى انقلب على طريق أستاذه الإمام محمد عبده.
وينتقل الهجوم إلى كبار مشايخ الأزهر الذين رأوا فى الكتاب تجديفا فى الدين، وخروجا على الثابت المعلوم من مبادئ الشريعة وتنعقد المحاكمات التى تنتهى بسحب شهادة العالمية من الشيخ الذى مضى ضد التيار، ويفصل من منصبه القضائى وينتقل العقاب من الأزهر إلى الحكومة التى أضفت الشرعية على ما انتهى إليه الأزهر، ولم يأبه زيور باشا باعتراض وزراء الأحرار الدستوريين فى الحكم، ويقيل عبدالعزيز فهمى الذى رفض تنفيذ قرار هيئة كبار العلماء بوصفه وزير الحقانية.
وينسحب وزراء الأحرار الدستوريين، فتسقط الوزارة ولكن تنتبه الأحزاب إلى خطر الأوتوقراطية الصاعدة، فتتآلف لمواجهة الخطر، وتسقط وزارة زيور، ويتم انتخابات جديدة، يكتسحها الوفد الذى يقبل تشكيل حكومة ائتلافية مع الأحرار الدستوريين الذين تعلموا الدرس، وتعاهدوا مع الوفد، على نحو غير معلن، فى مواجهة التحالف غير المقدس بين الجمود الدينى والاستبداد السياسى .
وفى هذا المناخ الجديد، وفى تصاعد موجة التحرر الفكرى الذى ولّدته ثورة 1919، يصدر طه حسين كتابه «فى الشعر الجاهلى» فى منتصف مارس 1926، بعد أحد عشر شهرا من التنكيل بزميله على عبدالرازق الذى لم يتردد فى الدفاع عنه لإدراكه أنه ينتسب وإياه إلى من يسميهم فى كتابه «طائفة من المحدثين» وكان رئيس البرلمان.
سعد زغلول زعيم الوفد، ورئيس الحكومة عدلى يكن صديقه القديم وحاول الأزهر أن يكرر الدور الذى قام به ضد على عبدالرازق، فيندفع ممثلو التيارات الدينية المحافظة إلى تقديم الاستجوابات المتلاحقة ولكن الموقف اختلف، فيتولى الدفاع عن طه حسين على الشمسى الوفدى، وزير المعارف العمومية ويتفق الصديقان اللدودان.
عدلى وسعد، على أن يحيلا الموضوع إلى النيابة ويتولى محمد نور رئيس نيابة مصر التحقيق، وينتهى إلى إصدار تقريره النهائى، فيرى «أن للمؤلف فضلا لا ينكر فى سلوكه طريقا جديدا للبحث، حذا فيه حذو العلماء من الغربيين، ولكن لشدة تأثر نفسه بما أخذ عنهم قد تورط فى بحثه حتى تخيل ما زال فى حاجة إلى إثبات أنه حق..
وحيث إنه يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه إنما أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوافر، فلذلك تحفظ الأوراق إداريا» توقيع محمد نور رئيس نيابة مصر، القاهرة، فى 30 مارس سنة 1927.
والفارق بين ما حدث لكتاب على عبدالرازق وكتاب زميله طه حسين هو أن الأول كان ضحية التحالف غير المقدس، والثانى حوكم فى ظل حكومة مدنية بمعنى الكلمة، وقضاء مستقل عن السلطة السياسية والدينية على السواء ولم يكتف طه حسين بما حدث، فأصدر فى العام الذى انتهى فيه التحقيق كتاب «فى الأدب الجاهلى» مع مقدمة منهجية مطولة تبدأ وتنتهى بدفاع مجيد عن حرية الفكر التى كانت واحدة من أهم مكاسب ثورة 1919 ومن المؤكد أنه لولا ما أحدثته الثورة فى العقول من رغبة فى تحطيم كل ما يحول دون العقل والتفكير الحر فى كل مجال، ما كان على عبدالرازق يجرؤ على كتابة ما كتب بعد ست سنوات فحسب من قيام الثورة.
وأن يتبعه طه حسين بكتابه الذى أكمل الانفجار بعد أحد عشر شهرا لكن علينا ملاحظة أن كلا الكتابين ليس ممارسة، أو دعوة لممارسة حرية التفكير الأدبى أو الدينى فحسب، وإنما تقديم نموذج عملى لممارسة حق الاختلاف السياسى، وحق الخروج على الخطابات الدينية والسياسية والفكرية والأدبية والأكاديمية على السواء ولا تنفصل هذه الأمور عن أفق الحرية الذى انفتح على مصراعيه فى مدى التمرد على القديم.
وذلك بما دعم مناخ الديموقراطية المرتبطة بصياغة دستور حديث، يؤكد استقلال مؤسسات المجتمع المدنى، والفصل بين السلطات بما يحمى حقوق المواطنة وهى حقوق فتحت الأبواب التى كانت مغلقة أمام حلم طلعت حرب (1867 1941) ببناء اقتصاد وطنى مستقل بإنشاء بنك مصر وشركاته، ابتداء من سنة 1920. وفى الوقت نفسه.
تحقيقه حلم قاسم أمين عن «المرأة الجديدة» التى أصبحت تمارس حريتها الفكرية فى أكثر من مجال، ابتداء من هدى شعراوى (1879 1949) وليس انتهاء بمى زيادة (1886 1941) وهى الحقوق نفسها التى أدّت إلى صياغة دستور الذى كان تتويجا لحضور الدولة المدنية الحديثة.
وإرساء لمعنى المواطنة الكاملة التى لا تمييز فيها على أساس من العرق أو الجنس أو النوع أو الثروة أو الطائفة أو الطبقة وأضيف إلى ذلك تدافع صعود التيار التحررى بموجاته التى كسرت المحرمات «الدينية» فى التفكير، ووصلت، فى مدى توابع ثورة الفكر، إلى أن ينشر إسماعيل أدهم (1911 1940) فى مجلة «الإمام» مقالا بعنوان «لماذا أنا ملحد» سرعان ما طبعه فى كتيب.
قام بتوزيعه تعميما للفائدة فيما يقول: وكان من الطبيعى أن يتصدى للمقال والكتيب محمد فريد وجدى (1878 1954) رئيس تحرير مجلة الأزهر ومديرها، فى ذلك الزمان، فيرد بدراسة بعنوان «لماذا هو ملحد؟» والدراسة كلها تفنيد للحجة بالحجة، ومجادلة بالتى هى أحسن، وحوار عقلانى يقوم على احترام حق الاختلاف، حتى فى مجال العقيدة التى لن يصونها فى النفوس مبدأ المجادلة بالتى هى أقمع، أو المسارعة إلى التكفير، أو اختراق القضاء لتحويله إلى أداة لسلطة سياسية أو دينية قمعية.
وليست الحقوق التى أتحدث عنها بعيدة عن مجال الفكر الاجتماعى الذى وضع العلاقة بين الطبقات موضع المساءلة، وسعى إلى تقريب المسافة بينها، الأمر الذى أدى إلى نشر الأفكار الاشتراكية.
وإتاحة معرفة أنواع متعددة من الاشتراكيات التى تسعى إلى تحقيق العدل الاجتماعى لمن أطلق عليهم طه حسين «المعذبون فى الأرض»، ولذلك كتب سلامة موسى عن الاشتراكية الفابية، بعد أن كتب غيره عن تاريخ المذاهب الاشتراكية، وأصبح للطبقة العاملة فكر يدافع عن حقوقها العادلة ولم يكن من المصادفة أن يسمح الوفد لشبابه.
فى السياق المستمر لنتائج ثورة 1919، بعد الحرب العالمية الثانية، بتأسيس «الطليعة الوفدية» التى استندت أفكارها إلى ميراث طويل، بدأ مع ثورة 1919 التى كان ذوو الجلابيب الزرقاء، كما وصفهم سعد زغلول بحق، هم وقودها وضحاياها وفى مقدمة شهدائها فى آن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.