التعليم تعلن إجراءات إعادة اجتياز التدريبات بمسابقة 30 ألف معلم الدفعة الأولى    رئيس جامعة طنطا: تحديد أعداد الطلاب المقبولين بالكليات وفقا لاحتياجات السوق    خلال اللقاء التحضيري لمؤتمر الواعظات.. وزير الأوقاف يشيد بعهد تمكين المرأة    لماذا لا تصلي الكنيسة على الموتى في أسبوع الآلام؟.. تعرف على السبب    محافظ قنا يوافق على تخصيص 330 فدانا لاستغلالها مشروعات زراعية    «اقتصادية قناة السويس»: توطين صناعة مواسير الزهر لتقليل الاستيراد    مراسم استقبال رسمية لأمير الكويت بقصر الاتحادية    لقاء هام.. العاهل الأردني يحذر بلينكن من اجتياح رفح    نقل مباراة الزمالك وسموحة إلى برج العرب    المحكمة الرياضة توجه صدمة قوية إلى اتحاد العاصمة بشأن أزمة نهضة بركان    تأجيل محاكمة 4 متهمين بخلية داعش العمرانية    معرض أبو ظبي.. طلاب إماراتيون يروون ذكرياتهم بالقاهرة بجلسة مصر التي في خاطري    مخرج فيلم يوم: صعوبات العيش التي تواجه كبار السن لا تُطاق    غدًا.. «بيت الزكاة والصدقات» يبدأ صرف الإعانة الشهرية لشهر مايو    موسم الحج 2024، نصائح مهمة لمرضى السكر يجب اتباعها    بدء تسليم وحدات إسكان الشباب في الإسماعيلية 8 مايو.. اعرف التفاصيل    غرق بمياه ترعة.. العثور على جثة شخص في الصف    مصرع طفل وإصابة آخر سقطا من أعلى شجرة التوت بالسنطة    15 مايو.. أولى جلسات محاكمة 4 مسئولين كهرباء في حريق ستوديو الأهرام    وفد سياحي ألماني يزور منطقة آثار بني حسن بالمنيا    موعد إجازة عيد العمال وشم النسيم ل القطاع الخاص 2024    "بتكلفة بسيطة".. أماكن رائعة للاحتفال بشم النسيم 2024 مع العائلة    زاهي حواس يوضح سبب تجاهل الفراعنة لوجود الأنبياء في مصر.. شاهد    حفل ختام فعاليات مهرجان الإسكندرية ل الفيلم القصير في الدورة العاشرة    بسبب الأزمة المالية.. برشلونة مهدد بفقدان أحد صفقاته    للعام الخامس على التوالي.. بنك مصر يرعى الاتحاد المصري للتنس    أمير الكويت يصل مطار القاهرة للقاء السيسي    تفاصيل زيارة وفد منظمة الصحة العالمية لمديرية الصحة في أسيوط    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    موعد غلق باب التقديم للالتحاق بالمدارس المصرية اليابانية في العام الجديد    كيف تجني أرباحًا من البيع على المكشوف في البورصة؟    رئيس الزمالك يعلن استمرار زيزو وعواد مع الفريق ويشيد بفتوح    رموه من سطح بناية..الجيش الإسرائيلي يقتل شابا فلسطينيا في الخليل    جهاز مشروعات التنمية الشاملة ينظم احتفالية لحصاد حقول القمح المنزرعة بالأساليب الحديثة    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    ساويرس يوجه رسالة مؤثرة ل أحمد السقا وكريم عبد العزيز عن الصديق الوفي    تقرير حقوقي يرصد الانتهاكات بحق العمال منذ بداية 2023 وحتى فبراير 2024    لحظة إشهار الناشط الأمريكي تايغ بيري إسلامه في مظاهرة لدعم غزة    سرعة جنونية.. شاهد في قضية تسنيم بسطاوي يدين المتهم| تفاصيل    الصحة: الانتهاء من مراجعة المناهج الخاصة بمدارس التمريض بعد تطويرها    عشان تعدي شم النسيم من غير تسمم.. كيف تفرق بين الأسماك الفاسدة والصالحة؟    استشاري طب وقائي: الصحة العالمية تشيد بإنجازات مصر في اللقاحات    حسين لبيب: شيكابالا أحد أعظم كباتن نادي الزمالك عبر التاريخ    رئيس جامعة بنها يفتتح معرض الزهور الأول احتفالا بأعياد الربيع    إلغاء رحلات البالون الطائر بالأقصر لسوء الأحوال الجوية    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    وزير التموين يعلن تفاصيل طرح فرص استثمارية جديدة في التجارة الداخلية    ألقوه من فوق مبنى.. استشهاد فلسطيني على يد قوات الاحتلال في الضفة الغربية    كينيا تلغي عقد مشروع طريق سريع مدعوم من البنك الأفريقي للتنمية    مساعد وزير الصحة: قطعنا شوطًا كبيرًا في تنفيذ آليات مواجهة تحديات الشراكة مع القطاع الخاص    واشنطن: وحدات عسكرية إسرائيلية انتهكت حقوق الإنسان قبل 7 أكتوبر    هل ذهب الأم المتوفاة من حق بناتها فقط؟ الإفتاء تجيب    نجم الزمالك السابق: جوميز مدرب سيء.. وتبديلاته خاطئة    فيديو| مقتل 3 أفراد شرطة في ولاية أمريكية خلال تنفيذ مذكرة توقيف مطلوب    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    حفل زفاف على الطريقة الفرعونية.. كليوباترا تتزوج فى إيطاليا "فيديو"    خطوة جديدة من الزمالك في أزمة فرجانى ساسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جابر عصفور .. فكر الثورة وثورة الفكر-5
نشر في الشروق الجديد يوم 07 - 05 - 2009

العلاقة متبادلة بين الفكر والإبداع من ناحية والثورة من ناحية موازية، فالفكر والإبداع يمهدان للثورة، ويؤهلان العقول والقلوب لفعلها، فلا ثورة تنشأ من العدم، ولا ثورة تنفجر فى التاريخ إلا وتسبقها عقول المفكرين التى ترى المستقبل من وراء غيوم الحاضر، ورؤى المبدعين التى تبدأ من رفض الواقع والحلم بواقع بديل، ولذلك يقال عادة إن الثورة.
وإن نتجت عن عوامل عديدة، لا تأتى إلا بعد التحفيز الفكرى والإبداعى الذى يقع فى مقدمة العوامل، ويتفاعل معها فيتخلق الوعى الثورى الذى يتحول إلى انفجار جماهيرى وعندما تحدث الثورة فإنها تعود، بدورها، إلى الفكر والإبداع، وتتحول إلى قوة مؤثرة فى حركتهما، وفتح الآفاق المغلقة أمامهما، كما لو كانت تسدد لكليهما دين التولد.
فتمنحهما الطاقة على تحطيم كل القيود التى تظل تحول دون الفكر والإبداع والتحقق الكامل للفعل الخلاق الذى لا نهاية لوعوده وآفاقه حدث هذا فى الثورة الفرنسية 1789 التى علّمت الكوكب الأرضى شعارات الحرية والإخاء والمساواة، وهى التى نقلت إلى المصريين معنى «الدستور» القائم على احترام الحريات الشخصية للمواطنين.
جنبا إلى جنب غيرها من الحقوق والواجبات التى ينص عليها، بوصفه «العقد الاجتماعى» بين الحاكمين والمحكومين، وكان من أهم العوامل التى أدّت إلى تفجير الثورة الفرنسية، كتابات الكتّاب وأفكار المفكرين وإبداعات المبدعين ولذلك كان من الضرورى أن يكتب أمثال مونتسكيو (1689 1755) وفولتير (1694 1778) وچان چاك روسو (1712 1778) قبل الثورة، وأن يكتب بعدها ستندال (1783 1876) وفيكتور هوجو (1802 1885) وبلزاك (1850 1899) وبودلير (1821 1867) وغيرهم من كتّاب ما بعد الثورة الذين تأثروا بها، وتجسدت مبادئها فى تفكيرهم وإبداعاتهم .
ولاجدال فى أن الثورات يأخذ لاحقها عن سابقها، كما أخذت الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) مبدأ تحرير العبيد عن الثورة الفرنسية التى جعلت هذا المبدأ أحد عناصر معانى «المساواة» و«الإخاء»، وهو الأمر الذى حدث فى ثورة 1919.
حين رفع بعض الثوار شعار «الحرية والمساواة والإخاء»، وقد حدث الأمر نفسه فى الانتفاضات المصرية التى سبقت ثورة 1919، وكانت الثورة من ثمارها، وأهمها الثورة العرابية التى انتهى انكسارها بالاحتلال البريطانى لمصر وكانت الثورة العرابية تستلهم أفكار الثورة الفرنسية ومبادئها التى كان يشيعها مثقفون من أمثال أديب إسحق (1856 1885) الذى كانت كتاباته سابقة على كتابات فرح أنطون (1874 1822) وتمهيدا لها على السواء، ومن المؤكد أن الجذور الفكرية والإبداعية لثورة 1919 وضعها قادة التمرد الأوائل الذين ثاروا على الاحتلال البريطانى.
سواء أولئك الذين أسهموا فى ثورة عرابى من أمثال عبد الله النديم (1845 1896) ومحمد عبده (1849 1905)أو الذين لم يسهموا من أمثال شبلى شميل (1853-1917)، وجمال الدين الأفغانى (1838-1897) وعبد الرحمن الكواكبى (1849-1902) ومصطفى كامل (1874 1908) وقاسم أمين (1865 1908) وأحمد فتحى زغلول (1863 1914) وأحمد لطفى السيد (1871 1963) والحق أن قادة الفكر والإبداع فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر قد أنطقوا، على نحو متصاعد ومتراكم.
المسكوت عنه من الأفكار الاجتماعية والسياسية والدينية، بما فى ذلك الخطاب الدينى، وعمقوا جذور الوعى بمعانى التسامح الدينى والفكرى، وحقوق المواطنة واحترام الدستور، وحرية الاعتقاد، وضرورة الفصل بين السلطات، وحقوق المرأة، وحتمية تأسيس الدولة المدنية ودعم المجتمع المدنى، وناهضوا بقايا العبودية التى كانت مترسبة فى التركيبة الاجتماعية.
كما حاولوا زعزعة سطوة التقليد والاتِّباع فى الفكر والإبداع، وثاروا على السلفية الفكرية والأدبية وقد تفاعلت أفكارهم وإبداعاتهم مع نتائج الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وما ترتب عليها من مشكلات، كان لابد أن تؤدى إلى ثورة 1919 وانفجارها بوصفها أهم ثورة شهدها التاريخ المصرى الحديث، وقد قام أبناء جيل ثورة 1919 بإعادة إنتاج الأفكار وقيم الإبداع السابقة عليهم، وانطلقوا إلى آفاق غير مسبوقة، وأضافوا ما ارتبط بجذرية الثورة التى انتسبوا إليها بقدر ما تجسّدت فى إبداعهم وفكرهم وكانت إضافاتهم جذرية فى واقع الأمر .
وعندما نتحدث عن جيل ثورة 1919 فإننا نتحدث عن الجيل الذى رأى الثورة، وتأثر بها، وأسهم فيها فكرا وإبداعا وممارسة على السواء، ويعنى هذا أننا نتحدث، عن الجيل الذى كان يتراوح عمر أفراده ما بين العشرينيات والأربعينيات، وقت انفجار الثورة باستثناء سعد زغلول ( 59 سنة) مثل توفيق الحكيم (21سنة) ومحمود تيمور (25سنة) ومحمد تيمور، وسيد درويش (27 سنة) ومحمود مختار (28سنة) وطه حسين، والعقاد، والمازنى، وعبد الرحمن الرافعى (30 سنة) ومحمد حسين هيكل، وعلى عبد الرازق (31سنة) وسلامة موسى (32 سنة) وأحمد أمين، وعبد الرحمن شكرى (33 سنة) ومصطفى عبد الرازق (34سنة)، وهدى شعراوى (40سنة) ومصطفى النحاس (40 سنة) وأحمد لطفى السيد (47سنة) ويمكن أن نلحق بهؤلاء يحيى حقى الذى كان عمره أربعة عشر عاما ونجيب محفوظ الذى كان فى عامه الثامن، ولويس عوض الذى لم يكن تجاوز الرابعة من عمره وكل هؤلاء مثال على غيرهم الذين لم أذكرهم.
فلم أقصد الإحصاء الكامل، سواء من حيث تأثر إنجازهم بما أحدثته الثورة فى العقول والنفوس، أو من حيث تجسيد أعمالهم لأهم المبادئ التى جاهدت الثورة لتجذيرها فى الحياة الثقافية والأبنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية وقواعد الخطاب الدينى، فضلا عن الخطاب الأدبى.
وأتصور أن أهم ما سعى جيل ثورة 1919 إلى تحطيمه، من الأصول المتوارثة للتخلف، هو التحالف بين الجمود الدينى والاستبداد السياسى فى آن، فقد رأوا فى الاثنين وجهين لعملية واحدة، تفضى إلى تأكيد «طبائع الاستبداد» فى النفوس بوجه عام من ناحية.
وتطيل أمد الحكومات الفاسدة المتعاونة مع الاستعمار وأذنابه من ناحية مقابلة وقد التفت القدماء إلى هذا التحالف غير المقدس، فتركوا لنا أقوالا من مثل «الدين بالملك يبقى والملك بالدين يقوى» ودليل ذلك أن حرية الفكر، على سبيل المثال، لم تكن تزدهر إلا فى اللحظات التاريخية التى تنفصم فيها عرى هذه العلاقة.
وذلك على نحو ما حدث فى حالتىّ كتاب على عبدالرازق (1888-1966) «الإسلام وأصول الحكم» الذى صدرت طبعته الأولى فى أول أبريل سنة 1925 عن إحدى مطابع مدينة المنصورة، حيث كان يعمل الشيخ قاضيا فى هذه المدينة، وكتاب زميله وصديقه طه حسين «الشعر الجاهلى» الذى صدرت طبعته الأولى فى منتصف مارس 1926 عن مطبعة دار الكتب المصرية.
فأحدث كلا الكتابين زلزالا، كان تعبيرا عن الروح التحررى الذى أطلقته ثورة 1919 فى المجال الفكرى والدرس الأدبى أما كتاب على عبدالرازق فكان سيئ الحظ، فقد صدر مناقضا لموجة الدعوة إلى تنصيب الملك فؤاد (1868 1936) خليفة للمسلمين، بعد سقوط الخلافة العثمانية، وفى مواجهة رغبته فى تنصيب نفسه خليفة للمسلمين، وهى الرغبة التى دعمتها حماسة مشايخ الأزهر المشايعين للملك المستبد من ناحية.
وإحياء لفكرة الخلافة من ناحية ثانية، وبدا الأمر كما لو كان التحالف قد حدث بين طرفين، يتفقان على الجمع بين الثيوقراطية والأوتوقراطية، ويقيمان نوعا جديدا من «خلافة» ضاربة بجذورها فى التاريخ الإسلامى، لكن تحت أقنعة معاصرة، تعيد وصل الدين بالدولة، وجعل كلا الطرفين وجها للآخر وكان ذلك نقضا لكل ما ذهب إليه جمال الدين الأفغانى (1838-1897) من ضرورة فض الاشتباك بين «السلطة الروحية» و«السلطة الزمنية» وتابعه عبدالرحمن الكواكبى.
مؤكدا ضرورة اقتصار «الدولة» على تدبير الحياة الدنيا، وجعل الأديان تحكم فى الأخرى وأضف إلى ذلك ما سبق محمد عبده إلى تأكيده من أنه «ليس فى الإسلام سلطة دينية» وكان كتاب على عبدالرازق تطويرا لكل هذه الأفكار التى سبقته والتى ذهب إليها مشايخ الاستنارة قبله، ولم يفعل الرجل شيئا سوى أن أكمل الشعارات القديمة لأسلافه وأساتذته بما يمكن أن يكون دليلا عليها وسندا لها من أفكار «الدولة المدنية» التى قرأها عند أمثال چون لوك (1632 1704) من الذين دافعوا عن الدولة المدنية الحديثة.
وأسسوا مبادئها الفلسفية القائمة على نقض مفهوم «الحق المقدس» الذى أراد به الملك فؤاد أن يصون نزعته الديكتاتورية فى الحكم ولذلك انفجر كتاب على عبدالرازق كالقنبلة فى وجه رغبة الملك وحلفائه من رجال الدين وكان المناخ السياسى مواتيا لهم.
فقد كان زيور باشا رجل الملك فؤاد ورئيس ديوانه على رأس وزارة، جاءت على غير هوى الجماهير التى كانت مع الوفد برئاسة سعد زغلول وبقدر ما كان كتاب على عبدالرازق قنبلة أطاحت بالدعوة إلى إحياء الخلافة، فى سياق شعبى من العداء للملك الذى أتى بحكومة يرأسها أحد رجاله المعادين للنزعات التحررية.
كان الكتاب إنهاء عمليا لما استقر عليه الرأى من الدعوة لعقد مؤتمر إسلامى بالقاهرة من جميع الدول الإسلامية للبحث فى مسألة الخلافة من جميع نواحيها وأخذت لجان الخلافة، فيما يقول عبدالعظيم رمضان فى تأريخه للحركة الوطنية، تروّج للمؤتمر وتعزز فكرته وكان شيخ الأزهر وشيوخ المعاهد وكبار العلماء هم رؤساء اللجان التى بدأت فى توجيه الدعوات إلى العالم الإسلامى منذ أوائل عام 1994.
وقد هدم كتاب على عبدالرازق كل هذه المحاولات بإعلانه منذ صفحاته الأولى، تحديه لكل سلطة بشرية تقوم على التسلط الذى يرفضه المؤلف الذى لا يخشى أن يفتتح كتابه بقوله إنه لا يخشى أحدا سوى الله الذى له وحده القوة والعزة، وما سواه من الملوك ضعيف ذليل ويمضى الكتاب فى المقارنة بين شرور «الحكم المقدس» فى الغرب وشرور «الخلافة» فى الشرق، مؤكدا أن الذين جعلوا الخلافة ركنا من أركان الإسلام إنما بنوا أحكامهم على اجتهاد خاطئ فى فهم الإسلام، فالخلافة ليست ركنا ولا أصلا من أصول الإسلام.
وإنما هى محض تبرير لاستبداد المستبدين من الخلفاء الذين بنوا عروشهم على رءوس البشر والحق أن الدين الإسلامى برىء من هذه الخلافة التى توارثها المسلمون، فهى ليست من الخطط الدينية، وإنما هى واقعة ضمن الخطط السياسية الصرفة التى لا شأن للدين بها.
فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا، لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة، عملا بالمبدأ الذى يقول إننا أدرى بشئون دنيانا، والخلافة شأنها شأن كل أنظمة الحكم، هى ما يتراضى عليه البشر، ليكون سبيلهم إلى العدل والتقدم والإسهام فى الحضارة الإنسانية.
وكان من المنطقى أن يدفع على عبد الرازق ثمن جرأته، فيبدأ الهجوم التكفيرى عليه من مجلة «المنار» التى كان يشرف عليها الشيخ محمد رشيد رضا (1865 1935) الذى انقلب على طريق أستاذه الإمام محمد عبده، وينتقل الهجوم إلى كبار مشايخ الأزهر الذين رأوا فى الكتاب تجديفا فى الدين.
وخروجا على الثابت المعلوم من مبادئ الشريعة وتنعقد المحاكمات التى تنتهى بسحب شهادة العالمية من الشيخ الذى مضى ضد التيار، ويفصل من منصبه القضائى وينتقل العقاب من الأزهر إلى الحكومة التى أضفت الشرعية على ما انتهى إليه الأزهر، ولم يأبه زيور باشا باعتراض وزراء الأحرار الدستوريين فى الحكم.
ويقيل عبدالعزيز فهمى الذى رفض تنفيذ قرار هيئة كبار العلماء بوصفه وزير الحقانية، وينسحب وزراء الأحرار الدستوريين، فتسقط الوزارة ولكن تنتبه الأحزاب إلى خطر الأوتوقراطية الصاعدة، فتتآلف لمواجهة الخطر، وتسقط وزارة زيور، ويتم انتخابات جديدة، يكتسحها الوفد الذى يقبل تشكيل حكومة ائتلافية مع الأحرار الدستوريين الذين تعلموا الدرس، وتعاهدوا مع الوفد، على نحو غير معلن، فى مواجهة التحالف غير المقدس بين الجمود الدينى والاستبداد السياسى .
وفى هذا المناخ الجديد، وفى تصاعد موجة التحرر الفكرى الذى ولّدته ثورة 1919، يصدر طه حسين كتابه «فى الشعر الجاهلى» فى منتصف مارس 1926، بعد أحد عشر شهرا من التنكيل بزميله على عبدالرازق الذى لم يتردد فى الدفاع عنه لإدراكه أنه ينتسب وإياه إلى من يسميهم فى كتابه «طائفة من المحدثين» وكان رئيس البرلمان، سعد زغلول زعيم الوفد، ورئيس الحكومة عدلى يكن صديقه القديم وحاول الأزهر أن يكرر الدور الذى قام به ضد على عبدالرازق، فيندفع ممثلو التيارات الدينية المحافظة إلى تقديم الاستجوابات المتلاحقة ولكن الموقف اختلف، فيتولى الدفاع عن طه حسين على الشمسى الوفدى.
وزير المعارف العمومية ويتفق الصديقان اللدودان، عدلى وسعد، على أن يحيلا الموضوع إلى النيابة ويتولى محمد نور رئيس نيابة مصر التحقيق، وينتهى إلى إصدار تقريره النهائى، فيرى «أن للمؤلف فضلا لا ينكر فى سلوكه طريقا جديدا للبحث، حذا فيه حذو العلماء من الغربيين، ولكن لشدة تأثر نفسه بما أخذ عنهم قد تورط فى بحثه حتى تخيل ما زال فى حاجة إلى إثبات أنه حق..
وحيث إنه يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه إنما أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوافر، فلذلك تحفظ الأوراق إداريا» توقيع محمد نور رئيس نيابة مصر، القاهرة، فى 30 مارس سنة 1927.
والفارق بين ما حدث لكتاب على عبدالرازق وكتاب زميله طه حسين هو أن الأول كان ضحية التحالف غير المقدس، والثانى حوكم فى ظل حكومة مدنية بمعنى الكلمة، وقضاء مستقل عن السلطة السياسية والدينية على السواء ولم يكتف طه حسين بما حدث، فأصدر فى العام الذى انتهى فيه التحقيق كتاب «فى الأدب الجاهلى» مع مقدمة منهجية مطولة تبدأ وتنتهى بدفاع مجيد عن حرية الفكر التى كانت واحدة من أهم مكاسب ثورة 1919 ومن المؤكد أنه لولا ما أحدثته الثورة فى العقول من رغبة فى تحطيم كل ما يحول دون العقل والتفكير الحر فى كل مجال، ما كان على عبدالرازق يجرؤ على كتابة ما كتب بعد ست سنوات فحسب من قيام الثورة.
وأن يتبعه طه حسين بكتابه الذى أكمل الانفجار بعد أحد عشر شهرا لكن علينا ملاحظة أن كلا الكتابين ليس ممارسة، أو دعوة لممارسة حرية التفكير الأدبى أو الدينى فحسب، وإنما تقديم نموذج عملى لممارسة حق الاختلاف السياسى، وحق الخروج على الخطابات الدينية والسياسية والفكرية والأدبية والأكاديمية على السواء ولا تنفصل هذه الأمور عن أفق الحرية الذى انفتح على مصراعيه فى مدى التمرد على القديم.
وذلك بما دعم مناخ الديموقراطية المرتبطة بصياغة دستور حديث، يؤكد استقلال مؤسسات المجتمع المدنى، والفصل بين السلطات بما يحمى حقوق المواطنة وهى حقوق فتحت الأبواب التى كانت مغلقة أمام حلم طلعت حرب (1867 1941) ببناء اقتصاد وطنى مستقل بإنشاء بنك مصر وشركاته، ابتداء من سنة 1920. وفى الوقت نفسه.
تحقيقه حلم قاسم أمين عن «المرأة الجديدة» التى أصبحت تمارس حريتها الفكرية فى أكثر من مجال، ابتداء من هدى شعراوى (1879 1949) وليس انتهاء بمى زيادة (1886 1941) وهى الحقوق نفسها التى أدّت إلى صياغة دستور الذى كان تتويجا لحضور الدولة المدنية الحديثة، وإرساء لمعنى المواطنة الكاملة التى لا تمييز فيها على أساس من العرق أو الجنس أو النوع أو الثروة أو الطائفة أو الطبقة وأضيف إلى ذلك تدافع صعود التيار التحررى بموجاته التى كسرت المحرمات «الدينية» فى التفكير، ووصلت، فى مدى توابع ثورة الفكر.
إلى أن ينشر إسماعيل أدهم (1911 1940) فى مجلة «الإمام» مقالا بعنوان «لماذا أنا ملحد» سرعان ما طبعه فى كتيب، قام بتوزيعه تعميما للفائدة فيما يقول: وكان من الطبيعى أن يتصدى للمقال والكتيب محمد فريد وجدى (1878 1954) رئيس تحرير مجلة الأزهر ومديرها، فى ذلك الزمان، فيرد بدراسة بعنوان «لماذا هو ملحد؟» والدراسة كلها تفنيد للحجة بالحجة.
ومجادلة بالتى هى أحسن، وحوار عقلانى يقوم على احترام حق الاختلاف، حتى فى مجال العقيدة التى لن يصونها فى النفوس مبدأ المجادلة بالتى هى أقمع، أو المسارعة إلى التكفير، أو اختراق القضاء لتحويله إلى أداة لسلطة سياسية أو دينية قمعية، وليست الحقوق التى أتحدث عنها بعيدة عن مجال الفكر الاجتماعى الذى وضع العلاقة بين الطبقات موضع المساءلة.
وسعى إلى تقريب المسافة بينها، الأمر الذى أدى إلى نشر الأفكار الاشتراكية، وإتاحة معرفة أنواع متعددة من الاشتراكيات التى تسعى إلى تحقيق العدل الاجتماعى لمن أطلق عليهم طه حسين «المعذبون فى الأرض»، ولذلك كتب سلامة موسى عن الاشتراكية الفابية، بعد أن كتب غيره عن تاريخ المذاهب الاشتراكية.
وأصبح للطبقة العاملة فكر يدافع عن حقوقها العادلة ولم يكن من المصادفة أن يسمح الوفد لشبابه، فى السياق المستمر لنتائج ثورة 1919، بعد الحرب العالمية الثانية، بتأسيس «الطليعة الوفدية» التى استندت أفكارها إلى ميراث طويل، بدأ مع ثورة 1919 التى كان ذوو الجلابيب الزرقاء، كما وصفهم سعد زغلول بحق، هم وقودها وضحاياها وفى مقدمة شهدائها فى آن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.