«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النبطي 3
نشر في الشروق الجديد يوم 10 - 11 - 2010

رواية «النبطى» تحكيها الفتاة المصرية مارية، التى تزوجت تاجرا نبطيا وانتقلت من قريتها الواقعة بأطراف الدلتا الشرقية، إلى منطقة «البترا» بجنوب الأردن، حاليا.. الرواية ثلاثة أقسام (حيوات) مرت بها مارية، وحكت ما شاهدته خلالها.
وفيما يلى ننشر الفصل الثالث من «الحيوة الأولى»
نمتُ من أول الليلِ ساعة ثم سحبنى من بساط النُّعاس، السُّهْدُ ونقيقُ الضفادع، فبقيتُ أتقلَّب فى فرشتى طيلةَ ليلتى.. أنهكنى الأرقُ، وأقلقنى التردُّدُ ما بين انتباهاتِ القلق وخَطْفاتِ الوسن، حتى تصايحتِ الدِّيكةُ كى تنبِّه الشمسَ إلى طلوعها. ألا تَمَلُّ الشمسُ هذا الطلوعَ اليومىَّ المبكر؟
تكاسلتُ عن مفارقة دِكَّتى، حتى بدتْ ألوانُ الفجر الشفَّافة من بين جريد السقف، وتشاجرتِ العصافيرُ كى توقظ الناس. أمى قامتْ قبلى من سريرها إلى أعمالها اليومية، فتصنَّعتُ النوم حتى خرجتْ من الحجرة، ثم استدرتُ وأطلتُ النَّظَرَ فى زاوية الحجرة، حيث الصُرَّةُ المربوطةُ بأطرافها. استدرتُ ثانية فى فَرْشتى، وقرَّبتُ أنفى من سور البرابى، حتى نفذت إلىَّ رائحةُ الأحجار العتيقة، فأخذنى نَوْمٌ صباحىٌّ لذيذ.
كانت أمى رحيمة بى، فلم تنهرنى كعادتها لتوقظنى. حين دفعتُ عنى سَكَرات التكاسل، كان غبارُ الأيام الفائتة قد تبدَّد عن الأجواء، وراح ضوءُ الشمسِ الأبيضُ يفترشُ حوش البيت. عند الباب المفتوح على الحوش، غمرتنى بهجةٌ وطمأنينةٌ نادرة. أمى تجلس عند الحائط المقابل، وبين ساقيها ماجورُ الغسيل الكبير، متآكل الحواف، وقد شمَّرت عن ذراعيها وانهمكت فى لَتِّ غسيلٍ قليل. قطعٍ معدودات. رأيتُ الحبلين المشدودين بين جانبىْ الحوش، يهتزَّان ابتهاجا، كأنهما ينتظران المشطوفَ من الغسيل.
ابتسمتُ لأمى ومِلْتُ عليها لأضعَ على رأسها قُبلة، فأمالتْ إلى كتفى رأسها، وأمسكتْ معصمى بكفِّها الحانية المبتلَّة بالماء، المتبَّلة بالأمومة، كأنها تتشبَّث بى. جلستُ عن يمينها لأساعدها فى عَصْرِ المغسول، فأزاحت عن الماجور كفِّى وهى تقول: ارتاحى أنتِ، فأنتِ هنا ضيفةٌ سوف ترحلُ بعد شهر.
وددتُ لو أقول لها إنى أحبها، وإنى سآتى كثيرا لزيارتها، وإنى سأتذكَّرها كُلَّ صباحٍ ومساء. لكنى ارتبكتُ، فاكتفيتُ بأن قبَّلتُ ثانية رأسَها المكشوف، ولمستُ بخدِّى مَفْرق شعرها.. جلستُ خلفها، وأخرجتُ المشطَ الخشبىَّ العريض من جيب جلبابى، وبقَصْد مداعبتها، مررتُ بالمشط على شعرها المتهدِّل على ظهرها، فأحسستُ بها تبتسم.
مسكينةٌ أمى، لم يبق برأسها إلا شعرٌ خفيفٌ، يزدادُ كُلَّ يومٍ خفَّة. شعرى أنا كثيفٌ. تصل أطرافُه حين أضفِّره، إلى أعلى نقطتين بصدرى. وحين أفُكُّه يطولُ، فيكاد يمسُّ بطنى بأطرافه.. بلَّلتُ شَعْرى من ماء الشَّطْف، ورحتُ هانئة أمطُّ بالمشط خُصلاته المتموِّجة، كى أُسْبِلَها استعدادا لتضفيرها من جديد، بينما عيناى تجولانِ فى أنحاء البيت.
لبيتنا حائطٌ واحدٌ، فيه البابُ الخشبى الرقيق، الفاصل بين الدرب وحَوْش البيت. بابُنا فى غالب الأوقات غيرُ مُوصَدٍ، لأننا نسكن آخر الدرب، ولا يمر من أمامنا أىُّ غريب. لا يدخل الدرب أصلا، أىُّ غريب.
حوائط البيت الثلاثة، الأخرى، ليست له. فعن يمين الداخل من البابِ، السورُ الخلفى لقصر الجابى. وفى مواجهته جدارُ الأحجار الكبار، الفاصل بين الكَفْر والبرابى. حائطنا الثالث، مشتركٌ مع بيت أبونا شُنُوتَه وهو الذى بناه، فيما أظن.. حَوشُ بيتنا، مفتوحةٌ عليه الحجراتُ الثلاث، ومساحتها مجتمعة كمساحته. حجرتنا أنا وأمى تلاصق البرابى، بعدها حجرة الحبوب، ثم الحجرةُ المجاورة لباب البيت حيث ينام اليوم بنيامين ليلا، وكان أبى ينام فيها ليلَه ونهارَه، حتى ذهب إلى الرَّبِّ ليرتاح من مرضه.. لا أحبُّ دخول هذه الحجرة.
فى الحوش، على يسار الداخل من باب البيت، معزاةٌ مربوطة من عنقها. ناعمةُ الشعر، جميلةُ العينين. أهداها بطرس الجابى لأمى يومَ عيد العذراء، ولم تلد عندنا بعدُ. وفى الزاوية المقابلة، حيث التقاء جدار القصر بحائط البيت الوحيد، زيرٌ نشرب منه الماء النظيف، الذى يأتينا به هيدرا السقَّا كلَّ يومين.
سقَّاءُ الكَفْرِ مسودُّ الوجه، ونحيلٌ قصير، القِرْبَةُ التى يحملها على ظهره وكتفيه، طولها فى مِثْل طوله. زوجته سمينةٌ، تزنُ مثله ثلاثَ مرات، لكنه يحبُّها ويدلِّلها دوما ويناديها: يا بقرة. يقولون إنه فى شبابه، حَجَّ مرتين إلى كنيسة القيامة، ماشيا. هذه الكنيسة بعيدةٌ جدا. فى المرة الأولى جاء بصليب خشبىٍّ كبير، علَّقه فى عنقه ولم يخلعه قطُّ. وفى المرة الأخيرة عاد من هناك، وقد اختار لنفسه اسم هيدرا، وهجر اسمه السابق: بشاتى. لو بدَّلتُ يوما اسمى، سأختار صوفيا أو مرتينا.
فى منتصف الحوش، يمتدُّ حَبْلان مجدولان من لوف النخيل، نعلِّق عليهما المبلول من الغسيل. وبآخر الحوش من جهة البرابى، فرنٌ كبير خلفه نخلةٌ تُعطى البلح كلَّ عام، بجوارها جذعُ نخلةٍ خشن، مائلٌ كالسُّلَّم، نصعدُ عليه إلى سطح البيت.. عند التقاء جدار البرابى بسورِ القصر، غرفةٌ ضيقة غير مسقوفة، فيها حفرةٌ مغطاةٌ ببلاطةٍ كبيرةٍ مثقوبة من وسطها، هى محلُّ قضاء الحاجة.
السكونُ تامٌّ من حولى، وفى داخلى، لولا طنينُ الذباب وخربشاتُ الدجاجات. هى لا تكفُّ عن نَقْرِ الأرض، والتقافز فى الأنحاء. دجاجاتُ أمى طيبةٌ ورقيقةٌ، مثل أمى. أحبُّ الصغار منها، والصغار والكبار من الإوزِّ، لكنى لا أحبُّ البطَّ. خاصة ذكُوره التى تفحُّ دوما وتطارد بقية الطير، وقد تعضُّ الصغار من الأطفال فتُبكيهم، مع أن منقارها لا أسنان فيه. ذَكَرُ البطِّ أسودُ، وقبيحٌ منظره، يذكِّرنى بالرجل الضخم الذى خَتَننى أنا ودميانة فى بيت حنَّا الكرَّام، حين كنا صغيرات. أخذتنا النسوةُ يومَها من غفلة الطفولة، إلى بيته الكئيب الملاصق للكنيسة، وفى الغرفة المظلمة التى بآخر البيت، أمسكننا فجأة كى يتمكَّنَّ منَّا.. بسطنَنا على ظهرينا فوق سرير قديم، وبَعَّدْنَ بأيدٍ قويةٍ بين ساقَيْنا. وبعدما نزعنَ عنَّا السراويل، مال علينا الرجلُ الأسودُ بأنفاسه المتهدِّجة، كأنه ذَكَرُ بَطٍّ يفحُّ، وقَصَفَ بسكِّينه قطعة من معدِننا.. امتلأ الكَفْرُ بصراخنا الفَزِع .. لم تكن أمى بقُربى.
قُومى يا مارية لنشر الغسيل.
ربطتُ على عَجَلٍ طرف ضفيرتى بالشريط الملوَّن، وقمتُ لألتقطَ الملابس المعصورة. ما بين انحناءاتى على الماجور ووقفاتى أمام الحبل المشدود، لم أنظر إلى وجه أمى. وحين نظرتُ، رأيتُ دموعا على خدِّها. هى تبكى مثلما اعتادت، صامتة. سألتُها عن سِرِّ بكائها، فمسحتْ خدَّها بباطن كَفِّها وقالت: لا شىء.. سألتها إن كانت حزينة لأننى سأتركها؟ فأجهشتْ حتى سال أنفُها، ثم مَرَّتْ على وجهها بباطن ذيل ثوبها، وقامتْ منتفضة إلى حجرتنا. لحقتُ بها ورجوتها أن تهدأ، كيلا تنهمر معها دموعى. بباطن كفَّيها كفكفتْ سَيْلَ دمعها، وأشاحتْ عنى وهى تقول: هذا قلبُ الأُمِّ يا مارية، سوف تعرفينه يوما ما.
جلسنا برهة صامتتينِ، ثم خرجتُ من الحجرة وراءها مستسلمة، ولما جلستْ أمام الفرن لتسحب الرماد من جوفه بالبَشْكُور الحديدى، عدتُ إلى جلستى السابقة على الأرض، وأسندتُ ظهرى إلى سور القصر. لم أجد ما أنشغل به ففككتُ ضفيرتى كى أُضفِّرها من جديد، فعاد خاطرى إلى شروده، وتنقَّلتُ بين ذكرياتٍ تمرُّ بقلبى مثلما تمرُّ فوق الغيطان قطعُ السحاب.
ازداد النهارُ حَرَّا، وما أوقدتْ أمى بَعْدُ نيرانَ الفرن. الحياةُ فى كَفْرنا مملةٌ. بعينٍ كَسْلى، لاحقتُ حركةَ أمى وهى تكنسُ الحوش بعرجون قديم، ثم تجلبُ من فوق السطح عددا من أقراص الجلَّة، وتَصُفُّها قُرب فوَّهة الفرن. ارتقتْ جذع النخلة المائل ثانية، لتستلَّ من الأكوام التى فوق السطح، أغصانا يابسة سوف تكون حطبا. اليابسُ من كل شىء، والأخفُّ والأشفُّ، سريعُ الاشتعال إذا مسَّه أىُّ لهب.. فى داخلى لهبٌ مشتعل.
قدحتْ أمى حَجَرى الصَّوَّان فالتقط القشُّ الشرارةَ منهما، وجلستْ بالقرب منى، منهمكة فى دَسِّ الحطبِ والجِلَّةِ بجوف الفرن. الجلَّة أسرع اشتعالا، وأقلُّ دخانا. أمى تبدو دوما منهمكة، ومنهكة، فهى لا تهدأ عن الانشغال بعملٍ ما. مسكينةٌ أمى ومهمومةٌ مثل بقية الأمهات، وشاحبة. لا يزال على وجهها مَسْحَاتٌ من جمالها الأول، تذكِّر بزمن صِبَاها، أيامَ كانت تُشبهنى. سوف أُشبهها حين أكبر.. لماذا ارتضتِ الزواجَ بأبى، وهى تعلم أنه ضعيفٌ، ويعانى المرض. هل كان حاله أفضل أيامَ تزوَّجَتْهُ، أم تراها انتظرتْ مثلى، فلم تجد أفضل من نصيبها المكتوب؟
أبى استبدَّ به السُّلُّ سنين، ثم أهلكه بعدما أنهكه. أمى عانتْ معه المرَّ فى مرضه، وباعت كُلَّ المعز التى كانت عندنا، ثم باعتِ الطيور بأبخس ثمن. لولا بطرسُ الجابى، لصارت حياتُنا بؤسا مقيما.
أتانا صوتُ أُمِّ نونا، ونونا ابنتها، من وراء باب بيتنا المفتوح. دخلتا علينا ضاحكتَيْن، يحوطهما بعضُ أطفالهما. لهما هيئةُ أُختين قصيرتين، ولهما بطنانِ منتفخانِ معظم الأوقات، كأنهما تتنافسان فى الإنجاب. أُمُّ نونا أنجبتها أيامَ كانت فى الخامسة عشرة، وعندما بلغت ابنتها الحادية عشرة، زوَّجتها لابن عَمِّ أبيها. كانت نونا فى أول زواجها، تهربُ نهارا من بيتهم، لتلعب مع الأطفال فى الدرب والساحة. فيخرج زوجُها العاملُ بالمعصرة، ويفتِّشُ عنها حتى يُمسك بها ويحملها على كتفه، كلُعبةٍ، ويعود بها إلى البيت وهى تبكى، وترفسه بساقيها القصيرتين. والناسُ تضحك. كُنا نسمع صرخاتها آناءَ الليل، وكانت أمها حين تسألها النسوةُ، تهزُّ كتفها اليمنى، كعادتها، وتقول غير عابئةٍ: البنتُ صغيرةٌ، وكلُّ ما فيها صغير. ثم تضحك. نونا ما زالت تنادى زوجها إلى اليوم، يا عمِّى، لكنها ما عادتِ الآن تلعب، فقد بلغ عمرها قرابة العشرين عاما، ولها من الأطفال خمسةٌ.
جئنا نخبزُ الفطير معكم.
تهلَّلتْ أمى لأمِّ نونا ورحَّبتْ، فاقتربت منَّا وحطَّتْ عن رأسها ماجور العجين وغطَّته بغطاء رأسها، وأبقت شعرها مكشوفا. شعرُها قصيرٌ مثلها، لكنه كثيفٌ. نونا تمسك كالحبالى سلَّة من الخوص، وعصا من تلك التى نفرد بها عجين الفطير. هشَّتْ أُمُّ نونا الأطفال إلى الدرب، ليلعبوا بعيدا عن نار الفرن ودُخَانه، وعن الخبز والخابزات، وعادت إلينا بعدما وَارَبَتْ خلفهم باب البيت. دخلت نونا حجرتنا، لتحطَّ من على كتفها رضيعَها النائم، ثم عادت ومعها ابنتها مارية ذات العامين، الممسكةُ دوما بذيل ثوبها.
وهى تخرج من حجرتنا، صاحتْ نونا وكأنها اكتشفت هناك كنزا: لم تفتحوا صُرَّة الهدايا ! طلبتْ منى أمى إحضار الصُّرَّة الثقيلة إلى وسط الحوش، فأتيتُ بها بعناءٍ. تحلَّقنا حول الصُرَّة فى وسط الحوش، غير مبالياتٍ بحرِّ الشمس الواقفة فوقنا. فكَّتْ أمى الأطرافَ المعقودة، فانفرطتْ من الصُّرة قطعٌ متنوعةُ الألوان، من القماش الغالى. علا صَخَبُ نونا وأمها، وجلجلتِ الضحكاتُ. قسَّمت أمى هدايانا، فتركت لى من قطع القماش خمسا، وأخذت لنفسها قطعة سوداء، وأعطت لنونا قطعة حمراء، ولأمها قطعتين. كانت فى الصُّرَّة صُرَّةٌ أصغر منها، فيها أكياسٌ من كتَّان، فى كل كيسٍ طحينٌ ذو رائحةٍ نَفَّاذة. اهتزَّت أمُّ نونا وهى تقول مبتهجة: هذه بهاراتٌ للأكلات يأتى بها العربُ من بلادٍ بعيدة، وهذا مبشورُ جوزِ الهند الذى يُرَشُّ على الفطير. زبيب، تينٌ مجفَّف، بلحٌ عجيب، هذه الكُرات الصغار لا أعرفها.
عرفنا بعد أيامٍ، أن تلك الكراتِ المجهولة، توابلُ تسمى جوز الطيب. تُدقُّ ويُوضع منها اليسيرُ على الطبيخ، فتشهِّى الطعام وتزكِّى رائحته.. شقَّتْ أمى قماش الصُّرَّة الكبيرة، فصارت صُرَّتين قسَّمت عليهما بقية الهدايا، ثم أعطتْ واحدة منهما لأُمِّ نونا ودخلتْ بالأخرى إلى حجرتنا فوضعتها هناك، وعادت مزهوَّة. لم أدرك ساعتَها السِّرَّ الساكن خلف هذه القِسْمة، ولا السببَ فى أن أُمَّ نونا تلقَّت نصيبها راضية، بلا تمنُّع، وأرسلته على رأس ابنتها لبيتها، بعدما حزمته جيدا. فى المساء عرفتُ من أمى، أن أمَّ نونا بتوفيقٍ من أُمِّ النور، هى التى دَلَّتِ العرب علىَّ وامتدحتنى عندهم، حتى أتوا بالأمس خاطبين.
حَمِيَتْ نارُ الفرن وطقطقتْ فى جوفه الأغصانُ اليابسة، وانتهينا من تدوير قطع العجين الصغار، وابتدأنا فى دَحْيها وبَسْطها لتصير أرغفة وفطائر. حين هدأ الدخانُ وانتظمتْ نارُ الفرنِ، صارت قُبَّتُه جاهزة لدسِّ العجين المرقَّق. أدخلنا الفطائر أولا، فهى لا تحتاج النار القوية التى تُنضج الأرغفة.
أحبُّ رائحة الفطير، حتى وإن كان من غير زُبدٍ. هو بالزُّبد أشهى مذاقا، لكنَّ الأيامَ صيامٌ . ظلت أُمُّ نونا تغنىِّ وتهزُّ كتفيها، كأنها ترقص جالسة، وهى تنتظر كل فطيرةٍ خارجةٍ حتى تدهنها بزيت السُّمْسُمِ، وترُشَّ عليها ذلك الأبيض المبشور المسمَّى جوز الهند. كلَّما انتهتْ من فطيرةٍ، وضعتها باسمة فى سلَّة الخوص الكبيرة، المغطَّاةِ بقطعة الكتان. صنعنا فطائر كثيرة، ثلاثين أو أكثر، ثم ابتدأ خَبْزُ الأرغفة. ما كدنا ننتهى، حتى تقاطرتْ علينا الجاراتُ المهنِّئاتُ، يَخُضن فى أطفالهن.
ساعةَ العصرِ كانت الأفواهُ تلوك برضا، قطعَ الفطير اللذيذة. إحدى الجارات جاءتْ بماجور جديدٍ، مغسول، وأفرغت فيه ما كان فى الزير من ماء. سكبتْ عليه عَسَل الفواكه، وقلَّبته بخشبةٍ نظيفة، وراحت تغرفُ منه أكوابا للحاضرين. من وراء الحشد المحيط بباب البيت، جاء هيدرا السقَّا، فأفرغ مبتهجا قِرْبته فى الزير، وهو يصيح: بركاتك يا أمَّ النور.. علتِ الضحكاتُ، وحلَّقَتْ فى سماء بيتنا بهجةٌ كانت منسية.
بعدما أكلوا جميعا، وشربوا، تحلَّقوا حول هَزَّة الجالسة على عتبة الباب، وجاءوا لها بطبلةٍ كبيرةٍ وأعوادٍ دقاقٍ من البوص. هى الأمهرُ بين نسوة الكَفرِ فى النَّقْرِ على الطبلة، تدقُّ عليها بأصابع يدها اليمنى، وبين أصابعها اليسرى الممسكة بالطبلة، عُودُ البوص الذى يرفُّ عند النقر به، فيرنُّ صوتُ الطبلة، وتهيِّج أصداؤه الشوقَ إلى الرقص.. الفتياتُ رقصن أولا، وانضمت إليهنَّ الأمهاتُ تباعا، كالمعتاد. قبيل الغروب، كان الكلُّ يرقص أو يتراقص أو يشدُّنى إلى وسط الحوش، لأرقص بينهنَّ.
الرقصُ مفرحٌ.. يديرُ الرأس.. يُسْكرُ. لو عرفه الذين يشربون الخمر ليسْكروا، لَسَكروا بالرقص بدلا مما يشربون. سُكْرُ الرقص أحسنُ، ودواره أرقُّ دَوَار. سكرتُ مرة من النبيذ خِفية، فدار رأسى حتى نمتُ، ثم انقبض بطنى بعد صحوى وصدع دماغى. الرقصُ لا يصدِّع ولا يقبضُ، بل يطرح عنَّا الأحزانَ ويكسو الخدودَ حُمرة مُشتهاة، ويمنح الراقصات مِفْتاح المرح. والأهمُّ، أنه يترك للصبايا فُسحة لتبيان المفاتن.
لم أرقص منذ زفاف دميانة. أمها هَزَّةُ كانت تقول إننى أبدعُ الفتياتِ رقصا، لأننى أجذب نظرها فأقودُ أصابعها لنقر الطبل، بأكثر مما تقُودُنى هى للحركة. لم أفهمْ يوما كلامها، لكننى كنتُ أسعدُ به وأفخرُ، كلَّما قالته. انهمكتُ معهنَّ ولمحتُ أمى مرَّاتٍ أثناء رقصى، فرأيتها تمسح عن عينيها الدموع بسِتْرِ رأسها. أمى تبكى حين تحزن، وحين تفرح. هل هى سعيدةٌ لزواجى، أم حزينةٌ لقُرب رحيلى عنها؟ أظنها مثلى، وحالُها مثلُ حالى أيامَ زواج دميانة.
النسوةُ جذبنها لترقص بقُربى، فتفلَّتتْ، فلاحقنها، فتمنَّعتْ، فنهرتها هَزَّةُ وزعقتْ فيها وهى تضحك: هيّا يا غزالة، اُرْقصى اليوم لمارية.. جاءت أمى على بساط الاستحياء، تدفعها الأذرعُ إلى قلب الدائرة، فرقصتْ بجوارى وسط صخب النسوةِ والأطفال. الأطفالُ يصخبون حين تَصْخبُ الأمهاتُ، ويضحكون إذا ضحكن. اهتاجتِ الحركاتُ والضحكاتُ مع وَقْعِ الطبل والأغنيات، وراح جريد النخلةِ العاليةِ، يهزُّ الهواءَ فرحا بى.
أمى لم أرها ترقص من قبل. ولَّيتُ وجهى نحوها لأعرف طريقتها فى الرقص، فرأيتها تضحكُ متردِّدة خَجْلى، وتهزُّ كتفيها وتقلِّب فى الهواء كَفَّيها، بأكثر مما تحرِّك خَصْرها ورِدْفيها. لكنها على كل حال سعيدة. أنهتْ رقصتها بأن احتضنتنى وسط هتاف النسوة، وسالتْ دموعُها من جديد، ثم انفلتتْ إلى جلستها الأولى عند باب حجرتنا.
مع مغيب الشمس أُضيئت القناديل، وامتلأ الحوش، وتحشَّر أهلُ الكَفْر حول باب البيت. أتى الرجالُ يتقاطرون من مزارع العنب وحقول القمح. المتأخِّرون منهم عودة لا يجدون مكانا، فيقعدون عند المصاطب التى بآخر الدرب، وحول باب بيتنا. كلَّما جاء منهم واحدٌ، ناولتْه امرأتُه فطيرة، وكوبا من الماء البارد المعسَّل.. بعد الغروب جاء بنيامين مُتعبا كعادته، وحائرا، وفَرِحا من أجلى. جلس بجوار أمى، فأعطته فطيرة راح يمضغ منها على مهل، وقد انهالت عليه دعوات النسوة بزواجٍ قريب. هو يصغرنى بعامين أو ثلاثة.
استولى الليلُ على السماء، وتسرَّبتِ النِّسوةُ وأزواجهُنَّ والأطفالُ. كانت أُمُّ نونا آخرة الباقين. لما خلتْ بنا، شدَّتنى بتدلُّلٍ يليق بامرأةٍ قصيرة، وأخذتنى إلى حيث يجلس بنيامين وأمى. أجلستنى فصرنا كمثل الدائرة، وقالت مُتهامسة لأخى ونحن نسمع: تَعلَمُ يا حبَّة القلب، يا بنيامين المسكين، أنك عندى مثل أعزِّ أبنائى. وسيكون زواجك قريبا بمشيئة ربنا المسيح، وسيكون لك خيرٌ كثيرٌ إذا صحَّت زِيجةُ مارية، فقد كلَّمتُ العربَ لتعمل معهم فى توزيع التجارات بنواحينا. وسيأتى خيرٌ كثيرٌ، لك ولأمك الكادحة الصابرة. العربُ أغنياءُ، وقد امتدحتُك عندهم وطلبتُ منهم أن تعمل معهم، فلم يرفضوا. فإن صحَّتِ الزيجةُ، فانتظرِ الخيرَ الكثير.
سوف تصحُّ، بمشيئة الرَّبِّ وعنايةِ العذراء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.