لا أحد يجادل فى أهمية أن نعرف ماذا حدث لمصر والمصريين خلال السنوات الأخيرة، لكنى أزعم أن الأهم من ذلك أن نعرف أيضًا لماذا حدث ذلك، لأنه إذا كان تشخيص العلل واجبا، فإن تحرى مصدرها أوجب. (1) نشرت صحيفة «الشروق» يوم الخميس الماضى (4/11) مقالة للدكتورة نيفين مسعد أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة حذرت فيها من تعدد الانقسامات فى المجتمع المصرى، التى لاحظتها مجسدة فى مدرجات الجامعة. فذكرت أنه مع ظهور الجماعات الإسلامية فى الجامعات إبان سبعينيات القرن الماضى بدأ الفرز التدريجى بين الطلاب والطالبات على أساس الجنس، حيث أصبح أغلب الذكور يجلسون فى جانب فى حين اتجهت الإناث إلى الجلوس فى جانب آخر. ثم لاحظت أن ثمة فرزا آخر بدأ يظهر فى وقت لاحق على أساس الطبقة، وتحدثت عن نموذج لإحدى طالبات القسم الإنجليزى بكلية الاقتصاد رفضت الاشتراك فى بحث مع زميلتها فى القسم العربى. ولفتت الانتباه إلى اصطفاف ثالث لاحت بوادره انبنى على أساس الانتماء الدينى بين المسلمين والأقباط. وهو ما اعتبرته أخطر أنواع التمييز. وحذرت من التداعيات التى يمكن أن تفضى إلى مزيد من الاصطفافات والشرذمة، على أساس الانتماء إلى المذهب أو إلى التيار الفكرى أو الفصيل السياسى. ثم خلصت إلى أنه «لابد من كسر حاجز الجليد داخل مدرجات الجامعة» قائلة إن أى أستاذ مخلص لا يقبل أن يكون شاهدا على أجيال تعيش فى جزر متباعدة وتضمها أمصار التعصب والفتنة، مع أن الاسم أن مصرنا واحدة». رسالة المقالة أطلقت تحذيرا فى محله لا ريب، حيث سلطت الضوء على أعراض واقع سلبى يتشكل فى مصر. إلا أنه ينطبق عليها الملاحظة التى أوردتها فى الأسطر الأولى، من حيث إنها قدمت لنا إجابة عن السؤال «ماذا»، وتركتنا حائرين لا نعرف بالضبط «لماذا»؟، رغم أنها ألمحت إلى أن الفرز فى الجامعات بدأ مع ظهور نشاط الجماعات الإسلامية بين طلابها. هذا التوصيف ينطبق على أغلب الكتابات الصحفية التى تناولت المتغيرات الاجتماعية والثقافية التى طرأت على الواقع المصرى، خصوصا تلك التى عالجت أبرز الهزات التى ضربت ذلك الواقع، وتمثلت فى ظاهرتى العنف والإرهاب وأجواء التعصب التى أفضت إلى توترات ومشاحنات بين المسلمين والأقباط. إذا أحسنا الظن فقد نقول إن الكتابات الصحفية بطبيعتها لم تحتمل غوصا فى الأعماق وسبرا للأغوار. لكن ذلك لا يمنعنا من ملاحظة أن نسبة غير قليلة من تلك الكتابات ظلت مهجوسة بمحاكمة الواقع ورافضة لتقصى جذوره، إما سعيا وراء تصفية الحسابات الفكرية دفاعا عن الذات، أو استجابة لتوجيهات سياسية دفاعا عن الحكومة. وفى الحالتين فإنها تجاهلت عمدا عوامل البيئة التى أفرزت تلك التحولات. اختلف الوضع بصورة نسبية فيما يتعلق بالكتب والأبحاث التى تناولت الموضوع. وفى المقدمة منها كتاب «ماذا حدث للمصريين» الذى أصدره الدكتور جلال أمين فى عام 1998، وأرجع فيه أغلب التحولات إلى ما سماه «الحراك الاجتماعى» وثيق الصلة بأجواء الانفتاح الاقتصادى التى عصفت بالمجتمع المصرى منذ السبعينيات (لاحظ أن الدكتورة نيفين سعد أرجعت مقدمات الفرز داخل الجامعات إلى بدء ظهور الجماعات الإسلامية فى محيطها فى الفترة ذاتها) وللدكتورة عزة عزت كتاب فى الموضوع تناول التحولات فى الشخصية المصرية، كما أن مركز البحوث الاجتماعية والجنائية ظل متابعا للمتغيرات الحاصلة فى المجتمع، من زاوية رصد مؤشراتها المختلفة. وهو ما عمدت إليه دراسة أصدرها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء. (2) أعاد الدكتور جلال أمين سؤال المتغيرات يوم الجمعة الماضى (5/11) حين نشرت له جريدة «الشروق» مقالا تمثل عنوانه فى السؤال التالى: كم تدهورنا منذ الشيخ محمد عبده؟ وقد استهل المقال بتسجيل انطباعاته حين أعاد قراءة أفكار الشيخ الإمام وآرائه النيرة التى عالج فيها قضية العلاقة مع غير المسلمين والموقف من العقل والتكفير والفنون وغير ذلك. وعلق على تلك الأفكار بقوله إنها راعته ليس فقط لتقدمها ولكن أيضا لأنها كشفت له عن مدى التدهور الذى وصل إليه حالنا. وتساءل بعد ذلك قائلا: هل تحتاج وزارة التربية والتعليم وهى تبحث عن كتب جديدة تضعها بين أيدى الطلاب إلى إطالة البحث، ولديها وأمام عينيها كتابات الشيخ محمد عبده البسيطة والواضحة، والتى يمكن أن يتعلم منها التلاميذ ليس فقط كراهية التعصب وحب المختلفين عنهم فى الدين وأهمية البحث العلمى والابتكار، بل تغرس فيهم أيضا حب اللغة العربية الجميلة؟ على الهاتف قلت للدكتور جلال أمين إن أغلب الآراء المتقدمة والبديعة التى عبر عنها الشيخ محمد عبده موجودة فى كتابات سابقيه ولاحقيه، وإن ما يحتاج إلى تفسير وتحليل هو ظهور تلك الأفكار النيرة فى مرحلة ثم سيادة الأفكار المضادة والمظلمة فى مرحلة أخرى. علما بأن تأثير هذه الأفكار النيرة أو تلك المظلمة لا تقف عند حدود المتلقين، ولكن الحاصل أن أصداءها تنعكس على الإدراك العام، بحيث تشيع أفكار الإمام محمد عبده، وأمثاله انطباعا إيجابيا عن سعة الإسلام وسماحته وقدرته على احتواء الجميع على النحو الذى يشهد به سجل التجربة الإسلامية. أما الأفكار المظلمة فإنها تشكل إدراكا معاكسا يصور الإسلام بحسبانه قطيعة مع الآخرين وإقصاء للمخالفين وإهدارا لحقوق النساء وغير المسلمين.. إلى آخر الشرور والمثالب التى تعرفها. فى الحالتين ظلت المرجعية الإسلامية واحدة لم تتغير، ولكن الذى حدث أن ظرفا تاريخيا إيجابيا توافر فى لحظة ما فاستدعى الأفكار النيرة والبناءة. ثم فى ظرف تاريخى آخر برزت عناصر سلبية استدعت من ذات الوعاء أفكار التعصب والقطيعة والفتنة. وهذا الظرف يتمثل فى البيئة السياسية والثقافية والاجتماعية السائدة، التى تشكل تربة استنبات الأفكار. إذا صح ذلك التحليل فهو يعنى أن الاكتفاء بمحاكمة الأفكار بمعزل عن البيئة التى انتجتها لا يرتب حكما خاطئا فحسب ولكنها أيضا لا يسهم فى علاج أى من العلل التى واجهت المجتمع بسببها، وإنما يؤدى إلى استفحال تلك العلل واستعصائها بمضى الوقت. (3) ثمة خطاب يسعى إلى إقناع الرأى العام بأن الإسلام أصبح مشكلة فى مصر، ولا أعرف ما إذا كان ذلك من قبيل التحدى المرحلى لشعار «الإسلام هو الحل» الذى يرفعه الإخوان المسلمون، أم أن الانحياز إلى هذا الموقف يستهدف استبعاد الإسلام وإخراجه من المجال العام. لكن الشاهد أن الاحتمالين قائمان. ذلك أن بيننا من يريد فقط أن يتحدى شعار الإخوان لفض الناس من حولهم فى المعركة الانتخابية، وهناك أيضا من لم يخف سعيه وإلحاحه على إقصاء الإسلام ونفيه من الواقع. وهى ممارسات أصبحت تتم على المكشوف، حتى إن بيانا صدر ووقعه نحو مائة من المثقفين العلمانيين طالبوا فيه صراحة بإلغاء المادة الثانية من الدستور التى تنص على أن الإسلام دين الدولة والعربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة المصدر الرئيسى للتشريع. ولاتزال تلك الدعوة تتردد فى كتابات بعض المثقفين، الذين اعتبروا أن إلغاء الهوية الإسلامية هو مفتاح حل المشاكل، الذى به يتحقق السلام الاجتماعى ويتقدم المجتمع المدنى ويعود الوئام إلى علاقة المسلمين بالأقباط. صحيح أن الذين يتبنون هذا الموقف الأخير قلة استثنائية فى المجتمع المصرى، ولكن أغلب هؤلاء مكنوا من مواقع مؤثرة فى مجالات الإعلام والثقافة. الأمر الذى سمح بتوسيع نطاق تشويه الإدراك العام، حتى أصبحت الفكرة مسلما بها لدى قطاعات غير قليلة من المتعلمين، وغابت عن الأذهان حقيقة أن المجتمع المصرى عاش طويلا فى ظل التعاليم فى سلام ووئام، وأن الإسلام فيه ظل مصدر قوة وليس مصدر ضعف، وما خطر على بال أحد أن يكون الإسلام مصدرا لتعاسته كما يصور البعض الآن. (4) عندى ستة أسباب أزعم أنها تكمن وراء حالة الانفراط والتفكك التى تسود المجتمع المصرى الآن، وأزعم أنها تفسر الكثير من الأعراض التى ظهرت على سطح المجتمع. هذه الأسباب هى: غياب الديمقراطية، الذى كان بمثابة ضربة قاصمة لفكرة العيش المشترك. من ثم فبدلا من أن يشعر المواطنون بأنهم شركاء فى صناعة الحاضر وبناء المستقبل، بدلا من أن يشتركوا فى نسج الحلم معا، فإنهم اكتشفوا أنهم مجرد رعايا لنظام احتكر السلطة واختار أن يحتكر أيضا صناعة الحاضر والمستقبل. وهو ما حكم على المواطنين بالاغتراب فى الوطن، فلجأت كل جماعة منهم لأن تحتمى بالجماعة أو الفئة أو القبيلة السياسية. غياب الرؤية الاستراتيجية، الذى أشاع قدرا لا يستهان به من الحيرة فى المجتمع، بحيث لم يعد الناس يعرفون بالضبط هم مع ماذا أو ضد ماذا، ومن هم الأصدقاء ومن هم الأعداء. وحين غابت تلك الرؤية تمزق الوعى المشترك وتحول المجتمع إلى جزر منفصلة. فانكفأ كل على ذاته، واستشعر غربة إزاء الآخر. تشويه الدين وتخويف الناس منه، وتصويره باعتباره عنصر إقصاء وخصم وسببا فى التخلف، وليس رافعة للتقدم وبابا للتراحم والتعاون على البر والخير، وإذا كان المتعصبون والإرهابيون قد أسهموا فى ذلك التشويه إلا أن الخطاب السياسى والإعلامى انصرف إلى قمع التعصب والإرهاب، ولم يلق بالا إلى تشجيع الاعتدال والمراهنة عليه. الدور التاريخى الذى قام به العلمانيون فى الإلحاح على إضعاف الدين وتهميشه، والإلحاح على اعتبار حضوره فى المجال العام مصدرا لمختلف الشرور التى تهدد المجتمع. وقد كان ولايزال جهدهم الذى بذلوه فى تعميق الوقيعة بين المسلمين والأقباط على رأس الشواهد الكاشفة لذلك الدور. الضائقة الاقتصادية التى ضغطت بشدة على مختلف الشرائح، وسحقت الطبقة الوسطى التى كانت تقليديا أحد أهم عناصر القوة والإبداع فى المجتمع، ولأن «الجوع كافر» كما يقال فلك أن تتصور تأثيره على منظومة القيم السائدة، وعلى علاقات الطبقات والفئات بعضها ببعض، وعند الحد الأدنى فإنه يتعذر الدفاع عن قيمة التسامح مثلا حين يصبح الجميع تحت وطأة تلك الضائقة. الاختراقات الخارجية التى استثمرت أجواء ضعف مناعة المجتمع لكى تمارس حضورها وأنشطتها فى ساحات عديدة، مستفيدة من حالة الوهن التى تعانى منها منظمات المجتمع المدنى لصالح إغداق التمويل على تلك المنظمات، الذى ارتبط دائما بأجندة الجهات الممولة، فى المجالين السياسى والاجتماعى. إن الانفراط الحاصل فى المجتمع المصرى الآن، والتفكيك المشهود لوشائجه وروابطه نتيجة طبيعية لتلك العوامل مجتمعة، التى من شأنها تغييب الحلم المشترك، ومن ثم وضع العراقيل أمام تحقيق أمل العيش المشترك. ومن الخطأ المنهجى والتاريخى أن يحمل عنصر واحد بالمسئولية عن التراجع والتدهور الحاصلين فى بنية المجتمع المصرى وقيمه. علما بأن الابتسار أو الاختزال فى هذه الحالة يخرج الملف من نطاق البحث الموضوعى ويدخله فى مسار آخر تتراوح مراتبه بين سوء التقدير وسوء النية.