تشهد مصر، منذ فترة ليست بالقصيرة، موجة من الإضرابات والمظاهرات والاعتصامات التي تنوعت أهدافها بين مطالب عمالية وأخرى سياسية. وجاءت هذه التحركات لتمثل، للعديد من المراقبين والمتابعين، نقلة نوعية في الشخصية المصرية، لا سيما وأنها تتسم بالطيبة والهدوء والابتعاد عن المشكلات.. الشروق حاورت د. محمد المهدي رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر. عن الشخصية المصرية وعلاقتها بالسلطة: في البدايه.. نريد توصيفًا للشخصية المصرية؟ كان معروفًا أن الشخصية المصرية لها سمات ثابتة، منها الطيبة والذكاء والتدين، الشخصية المصرية بطبيعتها محبة للضحك، إلا أن هناك العديد من التغيرات أدت إلى تحول تلك السمات، منها ثورة يوليو 1952 وما أحدثته من انقلاب في الهرم الاجتماعي، ومن تغيرات شديدة نتيجة صغر سن قادة الثورة واختلاف توجهاتهم. ثم نكسة 1967 التى أدت إلى تغيير التركيبة العقلية والاجتماعية وإثبات فكرة فشل القومية العربية والتيار القومي، وبدأ يطفو على السطح فكرة العودة إلى الدين واستلهام مصادر القوه، في محاولة لمعالجة حالة الضعف التي حدثت بعد النكسة. وما زال هذا التيار موجودًا حتى هذه اللحظة في محاولة للتغلب على مصادر الضعف والقهر الخارجي والداخلي. وتأتي معاهدة السلام مع إسرائيل، والتي كانت بداية أزمة لتعقيد وجدان المصريين، فبعد أن كان العداء مع الإسرائيليين ركيزة أساسية للعقلية المصرية، فجأة تحول العدو إلى صديق، وأصبح المصريين مطالبين بالتعاون والتطبيع معه، إلا أن المصريين لم يستطيعوا التكيف مع هذا الوضع، مما أدى إلى حدوث شرخ كبير بين التوجه السياسي الرسمي، والتوجه الشعبي. كما كان للانفتاح الاقتصادي غير المنضبط أثره على تغير الشخصية المصرية، حيث أدى إلى فتح الباب أمام ما يمكن تسميته ب"الثراء السريع وغير المشروع"، وظهرت فئات طفيلية سريعة الثراء على حساب الشعب، وظهور نوع من تغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، وأصبح الهدف هو تحقيق ثروة طائلة بدون مراعاة مصالح الشعب، وهذا شمل بعض الرموز في الحكومات والوزارات وأصبح السعي وراء الثورة والمصالح الشخصية هو الهدف الأساسي. ولا يمكن إغفال عامل الهجرة التي أثرت بدورها في تركيبة المجتمع المصري، الذي كان دائمًا ما يرضى بالقليل حتى في حالة الفقر. وأخيرًا قانون الطوارئ الممتد والمتمدن، والذي خلق بدوره عند الناس حالة من الخوف والقهر وازدواجية الشخصية المصرية في تعاملها مع السلطة، فهي ظاهريًّا تكن لها الاحترام على خلاف ما يكنه لها الباطن من كراهية ونفاق، وهذا ما قاد مصر في النهاية إلى أن تصبح "الدولة الرخوة". ماذا يقصد بالدولة الرخوة؟ هي الدولة التي انتشر فيها الفساد بصورة كبيرة جدًا، فلم يعد ظاهرة استثنائية، بل أصبح قانونًا عامًّا يحظى بالاعتراف والقبول من الجميع، حتى وإن لم يتم إعلانه صراحة، وهو ما تبعه تراجع دور الدولة، وخصوصًا في رعاية الناس، وبالتالي تفشي الفقر وارتفاع معدلات البطالة والأسعار، كل هذا مع تراجع قوة الدولة وقدرها في السيطرة على تلك الظواهر السلبية، وبالتالي تستقوي الدولة الرخوة فقط بالأجهزة الأمنية للحفاظ على السلطة. تنتشر في مصر ظاهرة الإضرابات والمظاهرات والاعتصامات، ولكنها في معظمها خاصة بفئة معينة، ما تعليقك؟ السبب في ذلك هو انعدام الثقة بين المصريين وبعضهم، فليس هناك ما يوحد مطالبهم، كلها مطالب فئوية صغيرة، كإضرابات موظفي الضرائب العقارية، وبمجرد خروج أحد الوزراء ويصرف علاوة ينتهي الأمر، لا يوجد مطلب عام اجتمع عليه المصريون، وفوق كل ذلك اختفت القيادة التي تشحذ الهمم تجاه تحقيق هذا المطلب وتوحيد للإرادة، بحيث تضغط على النظام القائم فيعدل من أساليبه أو يغيرها. هل الشخصية المصرية بطبيعتها انهزامية؟ في الفترة الحالية تعددت عوامل الانهزام، فقانون الطوارئ الذي استمر كل هذه الفترة، زرع حالة من الخوف واليأس.. أصبح هناك حائط من الأمن المركزي يستطيع ردع أي شخص، والمنظر السائد دائمًا ما نجد عربات الأمن المركزي تطوق النقابات، والمعروف أن أفضل الخبرات في النقابات، وهذا الحصار يدل على أن هناك نوعًا من الحصار الأمني للعقول والتفكير، امتد هذا طوال الثلاثين عامًا الماضية، الذي بدوره خلق حالة من القهر والقمع، وانقطع الأمل في التغيير. هل تتوقع حدوث تحرك عام من المصريين، خصوصًا مع ارتفاع معدلات البطالة والفقر وانتشار الفساد؟ من الصعب حدوث تحرك عام للمصريين، فذلك التحرك الذي تجسده ما يعرف ب"الثورات" في تاريخ الشعب المصري قليله، ولم تستمر طويلاً. إذن.. ماذا تتوقع أن يحدث في مثل هذه الظروف؟ الظروف الحالية تنبئ بحدوث حالة من الفوضى العارمة، فمثلا قد يحدث انفجار من الفقراء عندما تفشل الدولة في توفير الطعام والشراب، وعلى إثرها ستحدث فوضى عارمة.. لكن يجب الأخذ في الاعتبار أنه قليلاً ما ينفجر المصريون، وغالبًا ما ترتبط بعدة حالات، من بينها ما يهدد لقمة العيش أو يمس الكرامة الوطنية. وقد يكون ذكاءً من السلطة القائمة أنها لم تستطع أن تتعدى هذه الخطوط، إلا أن نقطة الانفجار قد تحدث في أي وقت، وقد ظهرت إرهاصات لمثل هذه الحالات في حالة أزمة القضاة على سبيل المثال. وهل الدولة لا تخاف من حدوث مثل هذه الإنفجارات؟ لا.. لأن الدولة ببساطة مطمئنة لحالة الضبط الأمني، وتعتقد أنها قادرة على إسكات أي صوت شعبي، فقوات الأمن المركزي تصبح حاجزًا فولاذيًّا ضد أي نداء للتغيير.. لكن هذا تصور وهمي، وفي نهاية الأمر لا تستطيع أن تقهر شعبًا طول الوقت، قد تقهره عدة سنوات، لكن لن تستمر الأحوال. لماذا أصبح البرادعي رمزًا للتغيير؟ المصريون بهم حالة من الاعتمادية، فهم يحلمون بقائد مظفر يخلصهم من الفساد، ولوجود هذه الفكرة لن يحدث تغيير، والبرادعي جاء في ظروف تلوثت فيها جميع الرموز في مصر، أو لوثها الإعلام، فانعدمت الثقة فيهم، والشعب فقد الثقة في جميع الرموز المصرية، بينما البرادعي لم يصله ذلك التلويث حتى الآن. تناقضات المجتمع المصري وانعكاساته على الشخصية المصرية: هل مصر أرض المتناقضات كما قال موريس هيندوس؟ نعم.. مصر بها الأزهر وشارع الهرم.. الظلم والتسامح.. هناك خصائص قمة في الإيجابية، وأخرى قمة في السلبية، بل الصفة الواحدة يظهر فيها بما يسمى ب"الصفة المنحدرة"، فالتسامح مثلا ينحدر إلى تساهل، ثم يصير تسيبًا. هل يمكن القول أن النظام السياسي أصاب المجتمع بالسلبية؟ العلاقة بين المصريين والسلطة تشوبها مشكلة منذ القدم، فهي علاقة فيها خوف وكراهية، وفى نفس الوقت بها نفاق وتملق، وهو ما يحرم المصريين من أي تغيير إيجابي. ارتفعت في مصر جرائم العنف المجتمعي من قتل وانتحار واغتصاب.. ما دلالتها؟ هذه الجرائم تدل على أن نفوس الناس بها شحنات غضب هائلة تظهر في العلاقات الاجتماعية، وكذلك في الاحتجاجات والاعتصامات، وهو ما يعكس حاله القلق الشديدة التي يعيشها المصريون. وقد تنبأ بذلك نجيب محفوظ في روايته "أحلام فترة النقاهة"، ففي الحلم ال11، يقول: "إن هناك امرأة (ريانة الجسد) تستلقي على شاطئ النيل تحت نخلة، وأشارت بيدها فجاء إليها أطفال لا يحصرهم العدد، وأخذوا يرضعون من ثدييها حتى جف الثديان، وصاروا يأكلون من لحمها حتى أصبحت مجرد عظام، ثم استداروا و تقاتلوا". إن المقصود بالمرأة هي مصر، وما يحدث بها، وهناك الكثيرون من المفكرين أيضا تنبئوا بمثل هذه النهاية، فلا تبدو في الأفق علامات إنقاذ أو إصلاح. في أحد مقالاتك ذكرت أن كثرة تكيف المجتمع المصري مع الظروف السيئة أدت إلى تشويه شخصيته.. ما الحل؟ يجب عدم المبالغة في التكيف، وأن يفكر المصريون في التغيير. بماذا تنصح النظام السياسي والمجتمع المصري؟ بالنسبة إلى النظام السياسي: يجب أن يصبح اكثر مرونة وعقلانيه وواقعية، ولا يكون ضد قانون الحياة القائم على التغيير والتجديد. أما المجتمع المصري: فعليه أن يصبح أكثر إيجابية وأكثر رغبة في التغيير، وأكثر حيوية أيضًا، فعلى الرغم من تعدد الظواهر السلبية، هناك ظواهر إيجابيه، وهناك حركة شباب واع على الإنترنت، وفي الشوارع، وهو ما ظهر في مواقف عديدة، كقضية مقتل الشاب خالد سعيد، ودائمًا ما ننصح الشباب بأن يطالبوا بالتغيير، ملتزمين بالمنهج السلمي، مبتعدين عن أي حركات عنف. سؤال لا بد منه.. خرج علينا أحد الدعاة قائلا: "الطب النفسي فشخرة وبعد عن ربنا".. ما تعليقك؟ المجتمعات المتقدمة كانت تهتم بالعلوم النفسية، والطب النفسي من العلوم التي تهتم بالرقي بالصفات البشرية، وتحسين جودة الإنسان ونوعيته، فلا يمكن حدوث نهضة بدون تحسين صفات الإنسان ونوعيته.. ما قيمة توافر كل صفات التقدم في ظل إنسان مشوه الجودة ومفتقد الإرادة، لكن للأسف الشديد؛ الفكرة عن العلوم النفسية دائمًا خاطئة ومسطحة، وهى التي جعلت مثل هذه الأقاويل تنتشر.