يرى بعض الكتاب أنّ الحضارة المصرية حضارة موت وأنها تأسّستْ على العبودية والطغيان.. إلخ. فما مدى صدق هذا الكلام؟ وهل قرأوا بعض الكتب المتخصصة فى علم المصريات الذى يُفنّد هذه المزاعم؟ فمثلا الهرم ليس مجرد مقبرة للملك، وإنما جمع بفضله بين علوم الفلك والهندسة والرياضيات. ولم يتم البناء بالسخرة. ونفى كثيرون هذه التهمة ومنهم كمثال سيرفلندرزبترى الذى أكد أنّ العمل كان يجرى أثناء موسم الفيضان، عندما يكون معظم الأهالى بلاعمل. وذكر هيرودوت أنّ العمال كانوا يُمنحون طعاما طيبا. وكيف تكون الحضارة المصرية مع (الموت) فى حين أنّ النيل كان فى البدء مجرد مجموعة من الأحراش والمستنقعات. جدودنا هم الذين هذبوه وشذبوه فصار النيل المعروف حاليا. وعندما لاحظوا انخفاض منسوب مياه النيل أنشأوا الترع لرى الأرض أيام التحاريق. لذلك كتب العالم برستد أنّ المصريين القدماء برعوا فى هندسة الرى منذ أقدم العصور. فهل هذا سلوك شعب يُفكر فى الموت؟ وبسبب الزراعة تطوّرت الحضارة المادية، فتم تطويع المعادن لاختراع أدوات الزراعة. والزراعة أيضا هى السبب فى ابتكار التقويم الشمسى الذى هو أدق تقويم سار عليه العالم كله حتى يومنا هذا. وبسبب الزراعة ثالثا غنى جدودنا أثناء جنى المحصول خصوصا فى موسم الحصاد (شمو) ومن هذا الاسم جاء الاحتفال ببداية الربيع (شم النسيم). وتطوّرت الحضارة المادية فكان إجراء أول عملية جراحية فى المخ (تربنة) فى التاريخ وفق الترجمة الموجودة فى المتحف البريطانى إلى آخر الاكتشافات الطبية والتخصص الدقيق لكل أعضاء الجسم البشرى. كما أنّ الطب فى مصر القديمة أذهل العلماء فى العصر الحديث. ويكفى الإشارة إلى البردية التى اكتشفها عالم المصريات (إدوين سميث) وسُميتْ باسمه. وفى مجال الفلك تقف العالمة الفرنسية كرستين نوبلكور مندهشة وهى تؤكد أنّ مصر عرفتْ منذ آلاف السنين أنّ القمر يستمد نوره من الشمس. ودليلها على ذلك ما وجدته مكتوبا على تمثال لآمون (العين اليمنى هى الشمس والعين اليسرى هى القمر. والعين اليسرى تستمد نورها من العين اليمنى). الحضارة المادية لخصها برستد فى جملة دالة إذْ كتب (إنّ الصناعة المصرية أخرجتْ كتانا على النول اليدوى بلغتْ فيه دقة النسيج ما جعل من الصعب أنْ نُميّزه عن الحرير. وإذا قارناها بخير ما يمكن أنْ يُنتجه النول الميكانيكى الحديث، فإنّ صناعتنا الحالية تبدو خشنة بالنسبة إليها) (انتصارالحضارة ص 100). وإذا انتقلنا إلى الحضارة الثقافية (الروحية) نجد اعتراف العلماء بفضل جدودنا فى وضع أسس علم الأخلاق. ولم يكن الاجماع بينهم مصادفة على نشأة (الضمير الإنسانى) الذى هو أهم من القوانين الوضعية. إجماع شمل المؤرخين القدامى مثل هيرودوت الذى وصف جدودنا بأنهم (أتقى البشر أجمعين) إلى فرويد الذى وصفهم ب(الودعاء) وبرستد الذى خصص كتابا عن مصرالقديمة بعنوان دال هو (فجر الضمير) ويؤكد العلماء أنّ البرديات التى تركها جدودنا شملتْ الحياة اليومية بما فيها من أشعار الحب والخطابات المتبادلة بين الزوج وزوجته وكتابة عقود الزواج وعقود البيع مثل العقد المحرر بين السيدة تاحب نفر وشخص آخر حول شروط بناء بيت لها لصيق ببيته، لدرجة ذكر الحدود من كل الجهات والعقد محفوظ فى المتحف البريطانى. وذكرالعالم ت.ج. جيمس أنّ العقد (يُظهرالمرأة المصرية فى صورة تحفظ لها كيانها القانونى وحقها فى التملك والمحاسبة القانونية بصفة مستقلة) وذكر ماسبيرو أنّ (المرأة المصرية من الطبقة الدنيا والمتوسطة أكثر احتراما وأكثر استقلالا من أى امرأة أخرى فى العالم) وذكر ماكس ميلر (لم يكفل أى شعب قديم أو حديث للمرأة مركزا قانونيا مماثلا فى سموه كما كفله لها سكان وادى النيل) وذكر باتوريه (كل الشعوب القديمة فى الغرب كما فى الشرق يبدو أنها أجمعتْ على فكرة واحدة: أنْ تجعل من المرأة كائنا أدنى من الناحية القانونية. أما مصر فإنها تعرض لنا منظرا جد مختلف. فنحن نجد فيها المرأة مساوية للرجل من الناحية القانونية. لها نفس الحقوق وتُعامل بنفس الكيفية (نقلا عن د. محمود سلام زناتى تاريخ القانون المصرى) وأضاف (لقد تمتعتْ المرأة فى مصرالفرعونية بمكانة فى المجتمع والأسرة لم تبلغها المرأة لدى شعب من الشعوب القديمة. بل فى كثير من المجتمعات الحديثة. فلم يعرف المصريون فكرة انفصال الجنسين وحجاب المرأة. وكانت تخرج بين الناس سافرة الوجه وتُسهم بنصيب كبير فى الحياة الاجتماعية. وأنّ الزوج والزوجة كانا يُعاملان بالنسبة لحق الطلاق على قدم المساواة. فكان للزوجة حق الانفصال عن زوجها وذلك عكس الكثير من الشرائع القديمة التى لم تكن تساوى بين المرأة والرجل حيث كان الرجل ينفرد بحق الطلاق. والقانون المصرى سمح بزواج الأرملة وهو ما يُخالف بعض المدنيات القديمة) وذكر برستد أنّ القانون الجنائى فى مصر القديمة كان يُطبّق على الجميع بغض النظر عن المركز الاجتماعى للمذنب عكس قانون حمورابى. وأنّ مصرالقديمة (أول دولة متحضرة فى وقت كانت فيه أوروبا ومعظم غربى آسيا لا تزال مسكونة بجماعات مشتتة من صيادى العصر الحجرى) لذلك ذكر جاردنر (إنّ الذى نُعلنه ونُباهى به باعتباره تاريخ مصر القديمة لا يعدو أنْ يكون عملية تجميعية للكسر والأسمال) ولأنّ أكثر من عالم وفيلسوف يونانى عاشوا فى مصر لذلك كتب العالم فون درشتاين (فى مصر وجد أفلاطون الحقيقة) وذكر العالم رندل كلارك أنّ الحضارة المصرية (حضارة راقية) ووجد نصا فى كتاب تركه جدودنا بعنوان (كتاب الطريقين) وفيه يقول رب الكون (خلقتُ كل إنسان مثل أخيه. وخلقتُ الآلهة من عرقى. أما البشر فخرجوا من دموع عينى) وأبدع جدودنا إلهة للعدالة (ماعت) ولأن شعوب أوروبا تُقدّر حضارتنا فإنّ البرلمان الإنجليزى يضع فى مبناه صورة لهذه الإلهة. وحكت د. مرفت عبدالناصر أنها دُعيتْ لإلقاء محاضرة فى الطب النفسى فى إنجلترا، وأراد رئيس المؤتمر تكريمها، فوضع خلفها صورة للبرلمان الإنجليزى وفوقه صورة كبيرة ل(ماعت المجنحة) (لماذا فقد حورس عينه قراءة جديدة فى الفكر المصرى دار شرقيات ص77) والحضارة المصرية التى يراها البعض أنها حضارة موت وعبودية لم يحدث فيها أنْ تمتْ محاكمة حكيم مصرى وإعدامه مثلما حدث مع سقراط أو بيع حكيم مصرى مثلما حدث مع أفلاطون. وعلى الذين يخلطون بين لغة العلم والأيديولوجيا أنْ يتأمّلوا كلمات الحكيم آنى (إذا كنتَ قد تعلمت شيئا.. فأين أنت من بحور المعرفة؟).