ركز من كتبوا عن الراحل الجليل د. محمد السيد سعيد علي دماثة خلقه وعلي محنة اعتقاله عقب مقاله الشهير في الأهرام عن التعذيب الوحشي الذي يتلقاه عمال الحديد والصلب بعد اعتقالهم عام 1989، فكاد أن يموت هو نفسه من شدة التعذيب.. وكتبوا عن إيمانه بمبادئ الليبرالية، ولكن ما لايعرفه كثيرون هو اهتمامه بالحضارة المصرية، وترجم هذا الاهتمام عملياً، ففكر في إصدار كتاب عنها، فاتصل ببعض الكتاب المصريين وعرض عليهم الفكرة، وبالفعل صدر الكتاب بعنوان «حكمة المصريين» ونشره مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان عام 1999 «كان د. محمد المستشار الأكاديمي للمركز المذكور» والكتاب مكون من عشرة فصول، كتب د. محمد الفصل العاشر الذي ذكر فيه أنه بمقارنة مصر مع كل من تركيا وإسرائيل، فإن حجم الاقتصاد بمؤشر الناتج المحلي عام 1995 بلغ في مصر 3.47 ملياردولار بينما وصل في إسرائيل إلي نحو 92 مليار دولار، وفي تركيا بلغ نحو 8.164 مليار دولار أي مايقرب من 5.3 مرة عن مصر، وفي تقديمه للكتاب ذكر أن ما تحتاجه مصر للقضاء علي التخلف، يتطلب جهداً خارقاً يساوي الفعل الحضاري الذي أسس الحضارة المصرية، ومن ثم الحضارة الإنسانية، وأن مصر التي شهدت مولد الحضارة أصابها انهيار حضاري، وأشار إلي نظرية تقول إن المصريين القدماء هم أول من اكتشفوا أمريكا قبل كولومبس ب 1723 سنة، وكان أكبر عقل علمي في ذلك الوقت الرياضي المصري «أراتوستون» الذي أجري عمليات حسابية وتجارب فلكية مكنته من تقديم نظرية تؤكد أن الأرض بيضاوية. وقدر محيطها بدقة بالغة كما نعرفها اليوم. ونظرية أن جدودنا هم أول من اكتشفوا أمريكا قد تكون صحيحة وقد لا تكون، ولكن لماذ برزت هذه النظرية بالأصل؟ السبب أنه لم تكن توجد في العالم «القديم» حضارة أقوي في روح العلم والبحث والابتكار من الحضارة المصرية، ولهذا استند العلماء في صياغة نظريتهم هذه علي العبقرية العلمية لمصر، والتي تجلت في الميراث الكبير في الرياضيات والفلك والطبيعة والكيمياء إلي جانب علوم اللغة والمنطق، كما أن البحرية المصرية تمكنت من الدوران حول أفريقيا عبر طريق البحر الأحمر ذهاباً وعودة عن طريق البحر المتوسط قرب نهاية القرن السابع قبل الميلاد. وأن انجازات جدودنا في تلك الحقبة اتسمت بالشمول ونهضت علي التجريد والتجريب. في الفصل الذي كتبه د. إسحاق عبيد ذكر أن مفتاح الحضارة المصرية في كونها حضارة أخلاقية. وأن جدودنا هم أول من نقشوا كلمة العقل LOGOS وهي تعني «ضوء العقل» ورحلة الروح، وارتبطت نشأة الحضارة بالتحول من الاقتصاد الرعوي إلي الزراعة، وهي حضارة أعلت من روح العدالة، فالعدل هو الناموس الأساسي الذي جعل المصريين ينظرون للفرعون بالتوقير، والمصريون هم الذين ابتكروا أول تقويم علمي «التقويم الشمسي» لأنه مرتبط بحركة الزراعة وذلك في عام 4241 ق.م وأن علماء المصريات أجمعوا علي أن مصر ولد فيها «فجر الضمير الإنساني» وكتب بتري «إن الجميع يقروون بأن المصريين كانوا يملكون ضميراً حياً لم تعرفه شعوب الدنيا في العالم القديم»، ونقل عن الحكيم «آني» حكمته التي تلخص قيمة التواضع «إن كنت قد تعلمت شيئاً فأين أنت من بحور المعرفة». وفي الفصل الذي كتبه الشاعر حسن طلب ذكر أن شعوباً كثيرة وامبراطوريات واسعة ذابت وتلاشت في كيانات غازية، فأين هم الحيثيون والميتانيون والحورانيون وغيرهم من الشعوب التي كانت تعج بها المنطقة خلال الألف الثاني قبل الميلاد؟ وهل نستطيع أن نتحدث عن هوية مصرية غير منقطعة عن ماضيها؟ أما مصر فرغم كثرة الغزاة فإنها ذوبتهم في ثقافتها، وفي العصر الحديث تأثر الفنان العالمي جوجان بالفن المصري القديم واستلهمه في أعماله المهمة، وفي الفلسفة المعاصرة ظهرت فكرة «الرمزية» بوضوح في أعمال هيجل التي أرخ فيها لتاريخ الفن. وكذلك فكرة «الهيروغليفيات» التي ظهرت في أعمال المفكر الإنجليزي هلمهولتز في القرن 19 أما الفيلسوف شيلر فجعل عنوان أحد كتبه المهمة «ألغاز أبي الهول» كما أن البناء الأساسي لقصص ألف ليلة وليلة يعود إلي نماذج سابقة في القصص المصرية القديمة، ونفس الحال في «خرافات إيسوب» اليوناني وكليلة ودمنة، وفي الأدب العالمي نجد أن المبدعين الأوروبيين استلهموا شخصيات أخناتون وسنوحي ونفرتيتي إلخ وفي مسرحية «أخناتون» التي كتبتها أجاثا كريستي ذكرت فيها «أن مصر عظيمة، وعيون العالم كله عليها، ومثلما تصنع مصر تحذو الأمم الأخري حذوها» وأن عبادة إيزيس انتشرت في آسيا وأفريقيا وأوروبا. وكتب د. أحمد زايد أن الخبرة الحياتية لمصر تشير إلي أن المجتمع يحقق استمراريته من خلال البناء الاجتماعي المدني، لا من خلال البناء السياسي، وأن الحياة المدنية في مصر القديمة كانت مستقلة وتمتعت بطاقة داخلية حافظت علي استقرارها الملحوظ عبر العصور. وأن الأب في الأسرة المصرية ليس متسلطاً كما أن المرأة احتلت دوراً مهماً داخل الأسرة، وأنها تمتعت بقدر من الحرية لم تتمتع بها في أي قطر إسلامي أو عربي، وكانت ترث عن والديها مثل أخوتها الذكور، وتجربة تاريخ مصر القديمة تؤكد علي أن الانتماء الديني أو العرقي أو الإقليمي ليس هو أساس الانتماء لدي المصري، لأن الأصل أن يكون مصرياً، وأنتجت الحضارة المصرية التعددية، فنجد أن المصريين المسيحيين لا يجاهرون بإفطارهم في شهر رمضان، بل أن بعضهم يصوم مع المصريين المسلمين، الذين «هم بدورهم» يحتفلون بأعياد المصريين المسيحيين. وكتب د. أحمد أبو زيد أن ليدي لوسي دف جوردون كتبت «إن مصر هي «اللوح الممسوح» الذي سطر عليه الكتاب المقدس فوق هيرودوت، ثم جاء القرآن فوق هذا كله، وفي المدن يسود القرآن بينما يسود هيرودت في الريف» وكتبت في رسالة مؤرخة نوفمبر 1962 «تم انتخاب جرجس عمدة لقرية مسلمة، وفي الكنيسة قبر أحد الأولياء المسلمين، وشاهدت جرجس ينحني لتقبيل القبر بينما اكتفي عمر «المسلم» بإلقاء التحية علي صاحب القبر» وذكرت أن المسيحية والإسلام في مصر يحملان الكثير من مظاهر العبادة القديمة، فالحيوانات المقدسة أصبحت في خدمة الأولياء المسلمين، والإله المصري قاتل التنين صار مار جرجس وهو نفسه سان جورج الذي يقدسه المسيحيون والمسلمون علي السواء، كما أن أوزير لايزال تقام أعياده بنفس الصخب في طنطا تحت اسم السيد البدوي، كما أن المسلمين يصلون في قبر مارجرجس وفي مزار ستنا مريم، وكان تعليق د. أبوزيد أن مصر أبدعت الدين الشعبي، وأن الأديان السماوية دخل فيها كثير من العناصر المصرية القديمة. وأشار الشاعر حلمي سالم إلي ماكتبه الراحل محمد العزب موسي من أن الحضارة المصرية تعرضت لحملة من الافتراءات والتشويه لم تتعرض لها حضارة أخري، وأن هذه الحملة بدأها بنو إسرائيل بعد خروجهم من مصر، وأشار إلي ماكتبه سليم حسن بعد ظهور كتاب «ماكس بيبر» عن الأدب المصري القديم فاندهش كثيرون في أوروبا، وهم يقرأون للحكيم أمنموبي «احذر إن تسلب فقيراً أو تكون شجاعاً أمام رجل مهيض الجناح» في حين الأدب العبري تخلف في الظهور عشرة قرون، كما أن الشعر المصري القديم جمع بين الرومانسية والواقعية الملموسة في التعبير عن نوازع الفتاة الحسية الفطرية وأشواق جسدها الحر حينما يتحقق بلقاء عاشقها، هذا الشعر ينفي أكذوبة سيادة فلسفة الموت عن الحضارة المصرية، وفي شكوي الفلاح الفصيح نجد لأول مرة في تاريخ الأدب تشبيه العدالة بالميزان، وأن مصر عرفت الملاحم مثل ملحمة الصراع بين حور وست وهي الملحمة التي تطورت بعد ذلك في إلياذة هوميروس وشاهنامة الفردوسي. كما أن قصة «كاره الحياة مع روحه» ونشيد عازف القيثارة بمثابة أول تجربة وجودية في التاريخ، ووصف شاعر مصري قديم محبوبته فقال «سيدة في النهار وامرأة في الليل» فهذا الوصف يلخص الحضارة المصرية في توازنها بين القوة والليونة، بين العقل والجسد، وكتب د. حامد عبدالرحيم أن المصري القديم له فضل اختراع أول ورق للكتابة «البردي» كما أن مصر تقدمت في الرياضة والهندسة والطب، وكان بها معامل كيميائية تشبه المعامل الحديثة. هذا الكتاب «حكمة المصريين» الذي ضم عشر دراسات، صدر بفضل وعي د. محمد السيد سعيد بالحضارة المصرية، التي لا يعرفها كثيرون من «المتعلمين المصريين».