كمعلق على الشئون السياسية الدولية، من الطبيعى أن أتعرض لإغراء استخلاص بعض الدروس الجيوبوليتيكية المكررة من كأس العالم. وهناك من يرون فى خروج فرنسا وإيطاليا المبكر فى مسابقة هذا العام تعبيرا عن التدهور الذى تشهده أوروبا. ويزعم معلق بصحيفة الباييس الإسبانية أن خسارة إنجلترا أمام ألمانيا نهاية الأسبوع تعكس آثار انهيار المعنويات والاعتماد على النفس الذى ألحقته التاتشرية بالبروليتاريا الإنجليزية. (عندئذ فكرت أن للأمر علاقة بظهيرى الوسط الأخرقين والهدف الذى لم يحتسب). الجميل فى كرة القدم العالمية هو أنها لا تحذو حذو الاتجاهات السياسية أو الاقتصادية. وهى تقدم بدلا من ذلك عالما موازيا له نظامه العالمى الخاص. فالبرازيل ليست «القوة العظمى الوحيدة». ويضم مجلس أمن البلدان التى أحرزت كأس العالم أكثر من مرة الأرجنتين وألمانيا وإيطاليا وأوروجواى. وتعد الولاياتالمتحدة قوة متوسطة المستوى، تثير الإعجاب بحاستها الخاصة باللعب النزيه. وليست اليابان فى حالة ركود، لكن الصين والهند المزدهرتين.. تلك القوتان الصاعدتان فى العالم الحقيقى لا وجود لهما، حيث لم يتأهل فريقاهما لكأس العالم. وفى كوكب كرة القدم، تأتى القوى الصاعدة من أفريقيا إلى حد كبير، مثل «النجوم السوداء» الغانية التى أخرجت الأمريكيين السبت الماضى. يتيح كأس العالم وسيلة آمنة للتعبير عن القومية والصراع. ولمباريات إنجلتراوألمانيا حدتها الإضافية لأسباب نحن فى حل من الإسهاب فى عرضها. لكن على الرغم من ذلك، فإن قول جورج أورويل المأثور الذى نسرف فى الاستشهاد به، بأن «الرياضة الحقة» هى «حرب ينقصها إطلاق النار»، يغفل النقطة الأهم. وكضيف على هذه الجولة من مسابقات كأس العالم ولجولاته الثلاث السابقة أعرف أن ما يحدث ليس مجرد شىء مبهج وصحى. والأجواء المبهجة فى كأس العالم غير عدائية؛ وهى أقرب شبها إلى الكرنفال منها إلى الحرب. ويرتدى مشجعو الفرق المتنافسة الملابس المزخرفة ويتخذون أوضاعا مرحة لتصوير بعضهم البعض. وفى المباراة التى جرت فى جوهانسبرج ليلة الأحد الماضى، أحاط بى مشجعو المكسيك بقبعاتهم وعباءاتهم التقليدية، ومشجعو الأرجنتين الذين كانوا يلوحون لسبب ما بصور لشى جيفارا. وفى دربان، وقبل ذلك بليلتين، جاء عدد من المشجعين البرازيليين لمشاهدة فريقهم وهم يرتدون الملابس الأنيقة بألوانها الوطنية كان لاجتماع الأصفر والأخضر والأزرق أثره بالغ الروعة. وفى إنجلترا، يجرى عادة الفصل بين مشجعى الفريقين المتنافسين، خوفا من تبادل الاعتداءات. ولا يلتفت أحد لهذا فى كأس العالم. ومما لا شك فيه أن كرة القدم تتيح منفذا للتعبير عن القومية. لكنها تتيح الفرصة أيضا للبلدان لنيل الإعجاب والاحترام ولتحديد وإعادة تحديد شعاراتها القومية. وإذا اكتفيت بقراءة تأملات المعلقين السياسيين والاقتصاديين فحسب، فستخرج بانطباع أن اليابان بلد ملتزم بالعادات والتقاليد وكئيب، غالبية سكانه تقريبا من المتقاعدين ومصارعى السومو. ومع ذلك، ترى هنا فريق كرة القدم اليابانى، الذى يتنافس على الفوز بكأس العالم، مفعم بالشباب والحيوية، يقدم بعض أكثر العروض الكروية (وقصات الشعر) إبداعا على ملاعب جنوب أفريقيا. إن أكثر مواطنى بلاد العالم شهرة هم نجوم فرق كرة القدم القومية (ونجومها السابقون): بيليه (البرازيل) وكريستيانو رونالدو (البرتغال) ويوهان كرويف (هولندا). وقد أضفى فريق هولندا العظيم فى سبعينيات القرن الماضى المزيد من البريق على صورة بلده. فلم يعد مجرد بلد أوروبى متوسط الحجم، يرتبط فى الأذهان بصورة واهنة لرمبرانت وأزهار التيوليب. ومنذ سبعينيات القرن الماضى، أصبحت هولندا بلد كرة القدم المتأنقة والقمصان البرتقالية الزاهية. ولكأس العالم 1974، عندما تصدرت هولندا المشهد، حيويته الخاصة بالنسبة لى، حيث كان أول مسابقة أشاهدها على التلفزيون. ومنذ ذلك الحين، أصبحت حياتى مرتبطة بمسابقات كأس العالم ذكريات عن كل مسابقة تذكرنى بأين كنت وماذا كنت أفعل، خلال السنوات الأربع الفاصلة بين كل مسابقة. كنت وحدى فى إحدى حانات برشلونة فى عام 1986، أشاهد هدف «يد الرب» الذى أحرزه دييجو مارادونا وهو يقضى على إنجلترا؛ وكنت أجلس على حافة سرير فى واشنطن فى عام 1990 عندما خرجت إنجلترا بضربات الجزاء أمام ألمانيا بينما كان الأمريكيون يحتفلون حولى بالرابع من يوليو؛ وكنت فى استاد برلين فى عام 2006، أشاهد المباراة النهائية، عندما طُرد اللاعب الفرنسى زين الدين زيدان بسبب أشهر «ضربة رأس» عرفها العالم. ليس هناك حرج كبير فى أن أعبر عن هذا القدر من الاهتمام بمثل هذه الأمور. لكنى أعرف على الأقل أننى لست وحدى. فحتى البلدان التى لم تشارك فى المسابقة تتابعها بحماس. وبعد بدء المسابقة بقليل، كنت أناقش التوترات الناشبة بين إسرائيل وإيران مع دبلوماسى كبير. وقال بثقة: «لن يحدث شىء خلال الشهر المقبل. لن يحدث شىء أثناء كأس العالم». وفى جنوب أفريقيا، هناك من لا ينسبون انخفاض معدل الجريمة أثناء المسابقة إلى نجاح الشرطة، بل إلى التصاق المشتبه فيهم المعتادين بأجهزة التليفزيون. ما يبعث على البهجة إلى حد ما أن نرى فى الكرة عاملا يمكن أن يساعد فى وقف الحرب والجريمة، وإن كان ذلك لوقت قصير فحسب. وبالطبع، ستنتهى المسابقة خلال أقل من أسبوعين، وستعود مشكلات العالم المحبطة لتستأثر باهتمامنا. لكن حتى يوم 11 يوليو، ستظل أنظار العالم مثبتة على ملاعب الكرة فى جنوب أفريقيا وربما يكون العالم مكانا أفضل بشكل طفيف.