يحمّل رجال الإعمال والمستثمرون البنوك فشل توظيف تلك السيولة الكبيرة المتاحة لديهم بسبب التشدد فى المنح وفى الضمانات. أما البنوك فترمى الكرة فى ملعب المستثمرين، قائلة: إنهم يطالبون بتفصيل قروض على هواهم دون اعتبار لقواعد مصرفية جنبت مصر أخطار الأزمة الحالية. لكن الجميع متفقون على أن بقاء معدلات توظيف الودائع عند وضعها الحالى سيكون كارثيا فى مواجهة الأزمة المالية التى تخيف المستثمرين بما يكفى. وهكذا فإن المهمة صارت أصعب لكن أكثر إلحاحا. وتحاول الدولة، استخدام البنكين الأكبر فى مصر واللذين تملكهما فى دفع الطلب المحلى عبر ضخ استثمارات مباشرة فى البنية الأساسية والمشروعات الصغيرة والمتوسطة كوسيلة لدفع الطلب المحلى وتنشيط السوق، للحفاظ على معدلات النمو الاقتصادى. كان محمد بركات، رئيس اتحاد البنوك وبنكى مصر والقاهرة، وطارق عامر، رئيس البنك الأهلى، قد أكدا استعداد البنوك التى يتوليان مسئوليتها لرفع معدل التوظيف إلى ما بين 80 و85%، لدعم الأنشطة الاقتصادية، وهى الدعوة التى تلقفها رئيس الوزراء أحمد نظيف قبل شهر ونصف الشهر من الآن، حين أشار إلى إمكانية اللجوء لودائع البنوك لضمان ضخ سيولة تساعد على الحفاظ على معدل النمو. وقد أعلن بنك مصر، ثانى أكبر بنك فى السوق، بالفعل عن تخصيص نحو 20 مليار جنيه كتمويل للمستثمرين فى الفترة القادمة، لكنه اشترط استيفاء شروط الائتمان، التى يعتبرها عدد من المستثمرين ورجال الإعمال مجحفة. وقد تحمل بنك مصر محفظة الديون المتعثرة لبنك القاهرة، التى وصلت إلى أكثر من 12 مليار جنيه قبل تجهيزه للبيع، من جراء التوسع فى قروض أصبحت رديئة بعد تعثر أصحابها وهو ما حجم البنوك عن المنح فى فترة لاحقة. استعداد مشوب بالحذر ترهن البنوك زيادة معدل التوظيف بوجود طلبات حقيقة من قبل المستثمرين «مع عمل احتياطات لازمة لمواكبة أى تعثر ينتج بسبب ظروف السوق»، وفقا لعبدالسلام الأنور، رئيس بنك إتش.إس.بى.سى مصر، الذى يشير إلى أن البنوك ليست لديها أزمة فى رفع النسبة الحالية «55% والتى تقرب من 800 مليار جنيه»، «لكن التجربة السابقة التى تم فيها رفع المعدل إلى 65% فى التسعينيات من القرن الماضى كبدت البنوك مشكلات ظلت لفترة طويلة». وربط الأنور زيادة الإقراض بالجدوى الاقتصادية من المشروعات المقدمة، والتدفق النقدى مع وجود ضمانات لأموال البنوك التى هى فى الأصل أموال المودعين. «كما أنه يجب على من يطالب بالزيادة، ويقارنها بالموجود فى الأسواق المجاورة أن ينظر إلى معدلات النمو والاستثمار فى تلك الدول وكذلك التضخم»، يضيف عبدالسلام الأنور. كان جورج العبد، مدير مؤسسة التمويل الدولية فى منطقة الشرق الأوسط، قد قال ل«الشروق»، الشهر الماضى: إن توسع البنوك فى الإقراض الذى وصل إلى أكثر من 100% فى كثير من دول العالم وفى بعض البلدان فى الشرق الأوسط، منها الإمارات سبب رئيس فى الأزمة التى يمر بها العالم حاليا. وبالرغم من كل شىء، تحدى محمد بركات، فى تصريحات خاصة ل«الشروق»، أن يكون هناك «رجل أعمال واحد تقدم إلى البنوك ورفضت إقراضه»، معتبرا أن النسبة الموجودة حاليا غير قليلة «وسط الأخطار التى تلاحق معظم الأنشطة فى السوق». وأضاف بركات أن جزءا كبيرا من أزمة التعثر التى حدثت فى التسعينيات من القرن الماضى كانت بسبب زيادة معدل الإقراض غير المدروس. بينما كان هناك جزء آخر ناتج عن تركز القروض فى يد عدد محدود من الأشخاص «وهو ما تغير حاليا». ويبلغ معدل الإقراض حاليا فى بنك مصر نحو 35% فقط وفقا لآخر بيانات فى يونيو الماضى. أرقام المركزى فى صف المستثمرين لكن يبدو أن الحذر مما حدث فى التسعينيات مازال يحوم حول البنوك، مهددا الدفعة التى تحاول الحكومة القيام بها لدفع الإقراض. فقد وصل إجمالى أرصدة القروض المقدمة من البنوك فى يناير الماضى إلى 426 مليار جنيه، فى حين وصل حجم الودائع إلى 779 مليار جنيه وهو ما يعنى وجود 353 مليار جنيه غير موظفة، وهو ما يتكرر بشكل دورى. فقد كان الإقراض فى شهر ديسمبر 427 مليارا، فى حين كان الإيداع نحو 775 مليار جنيه. فى حين بلغ الإقراض فى نوفمبر 426 مليار جنيه والإيداع 772، وهو ما يعنى وجود فجوة لا تقل عن 300 مليار فى المتوسط. ومن وجهة نظر هشام الخازندار، العضو المنتدب لشركة القلعة للاستشارات المالية، خلال مؤتمر البنوك الذى انعقد قبل أيام، فإن هناك ضرورة لزيادة معدلات الإقراض بصفة عامة والإقراض الموجه للشركات المتوسطة والصغيرة بشكل خاص. واعتبر الخازندار ذلك من أهم العناصر فى مواجهة تداعيات الأزمة المالية العالمية. «إذا استمرت نسبة الإقراض إلى الودائع عند مستوى 55% فالأمر سيتحول إلى أزمة حقيقية على مستوى الاقتصاد الكلى»، قال الخازندار، مطالبا بزيادة تلك النسبة لتصل إلى 65% على الأقل. فى هذا الإطار، يتهم عضو لجنة التشييد والبناء بجمعية رجال الأعمال، محمد عجلان، البنوك بتحميل مجتمع الأعمال ما لا يطيق دون مراعاة ظروف السوق، وما نتج عن الأزمة برغم الحديث عن التسهيلات الممنوحة والوقوف بجانب المستثمرين. «وفكرة أن جزءا من عدم توظيف الودائع يرجع إلى عدم جدية المستثمرين غير صحيحة»، على حد قوله. «الجميع يتحدث عما حدث فى التسعينيات من هروب وتعثر دون ذكر ارتفاع معدل الفائدة الذى وصل فى بعض القروض إلى 16%، بعد المصروفات الإدارية وظروف السوق التى منيت بحالة ركود، والأزمة الآسيوية فى ذلك التوقيت»، مشيرا إلى أن الأزمة الحالية أشد، خاصة بعد الصعوبات التمويلية التى تواجه كثيرا من الشركات والبنوك العالمية، «وهو ما يضر بالمستثمرين المصريين المرتبطين بهم، وهو ما يجعلنا أمام حل واحد وهو تحريك أموال المصريين فى بنوكهم وضخها فى السوق للحفاظ على الحد الأدنى من النمو». ويضيف عجلان أن هناك زيادة فى الرسوم داخل معظم البنوك، وكذلك «عدم مراعاة لطبيعة الأنشطة المختلفة خاصة التى تأثرت كثيرا من جراء الأزمة، وعلى رأسها القطاع العقارى، واصفا المعدل الحالى لتوظيف الودائع بأنه يعكس فشل إدارات البنوك فى القيام بدورها الطبيعى». ويعد مجال الاستثمار العقارى أحد المجالات الخلافية الأساسية فى هذا الإطار. فبينما يؤكد خبراء عديدون أن الإجراءات التى اتخذها المركزى قبل الأزمة، لتنظيم الإقراض للقطاع، الأسرع تأثرا بالركود، ساهمت فى صيانة الجهاز المصرفى، يرى مستثمرو القطاع أن موقف البنوك منهم أكثر تشددا مما ينبغى. «البنوك تعتبر بعض الشركات، وعلى رأسها العقارية بأنها سيئة السمعة وتحجم عن تمويلها دون إبداء أسباب حقيقية»، وفقا لفتح الله فوزى، رئيس شركة مينا للاستثمار السياحى والعقارى، الذى يضيف أن القاعدة تقول بأنه مادام هناك تمويل لابد من تعثر، وهو ما يحدث فى العالم كله «كما أن نسبته هى الفيصل». والتجار أيضا يطالبون بتسهيل الاقتراض يعتبر محمد المصرى، رئيس اتحاد الغرف التجارية، أن البنوك هى «القاطرة التى يمكن من خلالها تجاوز آثار الأزمة، خاصة أن الأموال الراكدة تخرجنا من المأزق التمويلى الذى تعانى منه كثير من الأسواق». وطالب المصرى البنوك بزيادة معدل التوظيف لتعويض «عجز متوقع فى الموارد التى كان يعتمد عليها كثير من التجار فى تلبية احتياجاتهم المالية من خلال بعض الموردين فى الخارج»، مشيرا إلى أن كثيرا من دول المنطقة اعتمدت على البنوك فى زيادة معدل النمو الاقتصادى، معتبرا ذلك حقا طبيعيا لاستغلال أموال المصريين فى الحفاظ على معدل النمو الذى يتمنى «ألا يقل عن 4%، حسب تصريحات الحكومة»، على حد تعبيره. لكن كيف الطريق إلى زيادة معدل التوظيف، بينما يرحب الجميع به ويتخوفون منه؟ عوده الائتمان السياسى والمأزق الحالى محمد عباس فايد، مدير عام تمويل المشروعات والقروض المشتركة ببنك مصر، اعتبر مطلب زيادة الودائع أمرا مقبولا، لكن لا يحدث بقرار إجبارى من قبل الحكومة حتى «لا نعيد الائتمان السياسى الذى أضعف الجهاز المصرفى فى سنوات سابقة»، على حد قوله. لكن فايد رهن زيادة التوظيف بضمان سداد أموال البنوك لأنها أموال مودعين فى الأساس، كما إن الإقراض لا يكون «إلا بضمانات حقيقية ودراسة جدوى تؤكد سلامة العملية المصرفية»، معيدا المسألة برمتها إلى الخلاف حول هذه الضمانات الذى يطرحه المستثمرون. أما أحمد سليم، مدير البنك العربى الأفريقى، فقد رمى الكرة فى ملعب المقترضين من رجال الأعمال من منطلق أن البنوك من مصلحتها توظيف أكبر قدر من الودائع لتحقيق أرباح أكبر. «كما أن الدور الرئيس للبنوك هو المنح، ولذا تقوم بتوظيف النسبة المقدرة التى يعتبرها البعض سلبية والمقدرة بنحو 45% فى الأوراق الحكومية»، أضاف سليم، الذى يعود فيعترف بأن البنوك باتت أكثر تشددا فى الإجراءات. «ومرجع ذلك أحداث التسعينيات المؤسفة التى أدت إلى عجز كبير فى كثير من البنوك نتيجة زيادة الديوان الرديئة»، بحسب تفسيره. ويضيف سليم أن زيادة الفائدة لا تمثل سوى عنصرا ضئيلا فى احجام المقترضين لكن «وقوف البنوك مع الشركات الجادة التى تعانى من أزمات لأسباب خارجية أصبح ضرورة». «البنوك لن ترفع نسبة التوظيف بناء على قرارات فوقية فى المرحلة الحالية. لكنها لن تمنع أى منح تستوفى شروط الائتمان السليم، وعلى رأسها التدفق النقدى للمشروع الذى يضمن سلامة قيمة القرض وفائدته. كما أن الاستعلام الائتمانى سوف يكون الأساس فى عمليات المنح بعد إتاحة جميع البيانات سواء للأشخاص أو الشركات، حسب سليم. وتبقى المعضلة قائمة وصعبة الحل: عجلة الإقراض التى لم تتحرك والنمو 7٪ والتفاؤل فى قمته صار عليها أن تدور بكامل طاقتها فى وقت أزمة تجعل الجميع يفكر ألف مرة قبل التنازل عن السيولة النقدية. وعلى خلفية هذا، فإن الدور الحكومى فى تحريكها لا يمكن الاستغناء عنه، لكنه أيضا لا يجب أن يتجاوز قواعد الإقراض السليم والرشادة المصرفية والمالية. فيالها من معضلة.