أشعر بتقدير كبير للناقد السينمائى أمير العمرى، وهو يتابع بدأبٍ وبروح عاشق حقيقى للسينما، قبل أن يكون ناقدًا كبيرًا، إصدار هذه السلسلة من الكتب عن كبار مخرجى السينما العالمية؛ من «فيللينى» و«سيرجيو ليونى» إلى «سكورسيزى» و«وودى ألن»، فيملأ بذلك فراغًا كبيرًا فى مجال الثقافة السينمائية، ويجعل من الأفلام مرايا لأصحابها، ولعوالمهم الخاصة، بقدر ما هى عناوين لزمنهم، وللفن السابع أيضًا. هذه المرة صدر عن مؤسسة غايا للإبداع كتاب جديد للعمرى بعنوان «عالم تارانتينو وسينما ما بعد الحداثة»، متناولًا فيه سيرة وأعمال المخرج الأمريكى المتفرِّد كونتين تارانتينو، ومطبِّقًا ذلك المنهج المحكم الذى يقدِّم الملامح الأساسية لعالم المخرج، مع دراساتٍ مفصَّلة لأفلامه، ويضيف كذلك مقتطفات من آراء النقاد الأجانب عن تلك الأفلام، بل ومقتطفات يراها العمرى ضرورية من كتبٍ وحواراتٍ عن ومع تارانتينو، تكشف عن كواليس أفلامه، وطريقة عمله، وأساليبه الفنية، وأُسُس اختياراته الجمالية. تارانتينو بالذات جدير بالدراسة والتقديم لعشاق السينما، ربما لأنه تعرَّض، أكثر من غيره، للتقليل من موهبته، ولأن أفلامه الحافلة بالتجريب والسخرية والاقتباسات من أفلامٍ معروفة تبدو غريبة وصادمة، بينما نشأت تجربته السينمائية عن رؤية وفلسفة خاصتين، وتمثِّل أفلامه «سينما ما بعد الحداثة» بامتياز. أتذكَّر أول وثانى لقاء لى مع أفلام تارانتينو عندما شاهدتُ فى مهرجان القاهرة فيلمه الأول «كلاب المستودع»، ثم شاهدت بعده فيلمه «خيال رخيص» فى سينما راديو، وكان الفيلمان مختلفين عما عرفتُ من أفلام. فى الفيلم الأول كنتُ أمام فيلم عصابات عنيف، وحافل بالشتائم، وفى الفيلم الثانى كنتُ أمام شخصياتٍ غير عادية لا تعرف بالضبط هل هى جادة أم ساخرة؟! ولكنى فى الحالتين لم أفقد حضور الخيال، رغم سطوة الواقع وخشونته. أدهشنى أكثر، وقتها، أننى خرجت من الفيلمين بملامح واضحة للشخصيات وللتفاصيل، وبجمل حوار ذكية، وبمشاهد كاملة لا تُنسى، ولم يكن ذلك حالى من قبل مع تلك الأفلام ذات الحبكات المسلِّية. فى كتاب أمير العمرى أسرار هذا السحر والتفرُّد؛ فهذا المخرج انغمس منذ سن السابعة فى مشاهدة الأفلام، وعمل لسنواتٍ فى محل لتأجير أفلام الفيديو، مما جعله مفتونًا بالأفلام الشعبية (حرف ب)، بنفس درجة افتتانه بقصص المغامرات المسلِّية ذات الخيال الرخيص، وبالثقافة الشعبية عمومًا، ولذلك اعتبر السينما وأفلامها، وليس الواقع، مرجعيته الكبرى، ولكنه يعيد التلاعب بالأنواع ويمزجها معًا، مقدِّمًا التحية لما يحب من أفلام ومخرجين وموسيقى، ولكن عبر رؤيته هو وبصمته الخاصة، مهما تعددت الاقتباسات، من سكورسيزى أو سيرجيو ليونى أو جودار، أو حتى من أفلام الكونغ فو، أو الأنيمى (الرسوم اليابانية). هذه المحاكاة لأفلامٍ شتّى بقصد الاستلهام والتحية، وليس السخرية، وهذه الأنواع المتعددة فى إطار حبكة واحدة، من سمات «سينما ما بعد الحداثة»، ومن عناصرها الواضحة فى أعمال تارانتينو، وعلى سبيل المثال، رصد البعض 80 عملًا ألهمت تارانتينو فيلمه الشهير «اقتل بيل» بجزئيه. يصف العمرى تارانتينو بأنه «سينيفيلى» عظيم؛ أى عاشق مذهل للأفلام، ومن خلال هذا العشق صنع حتى اليوم 9 أفلام روائية طويلة؛ لأنه يعتبر «اقتل بيل» فيلمًا واحدًا بجزأين، كما كتب أفلامًا أخرجها غيره، أشهرها «قتلة بالفطرة» الذى أخرجه أوليفر ستون، بتغييراتٍ كثيرة مختلفة عن معالجة تارانتينو. تقاطعت أعمال تارانتينو مع سمات ما بعد الحداثة، مثل الاحتفاء بالثقافة الشعبية عمومًا، والسخرية من التاريخ الرسمى، بل إن أعمال تارانتينو تجعل السينما تنتصر على الواقع وعلى التاريخ؛ فليست لديه مشكلة، مثلًا، فى أن يجعل هتلر يُقتل فى تفجير دار للسينما فى فيلمه البديع «أوغاد مجهولون» (2009)، بدلًا من نهاية هتلر المعروفة رسميّا، وليست لديه مشكلة فى أن يفترض أن الممثلة الأمريكية شارون تيت قد نجت من القتل على أيدى عصابة مانسون، وذلك فى نهاية فيلمه الرائع «كان يا ما كان فى هوليوود» (2019). من حيث التيمات والأفكار المسيطرة على تارانتينو، يبرز العمرى ثلاثية «الولاء والخيانة والانتقام»، وملحمة مثل «اقتل بيل» هى فى الحقيقة حكاية انتقام طويلة وعنيفة، وتقول إحدى الشخصيات عبارة مهمة جدّا فى الفيلم بخصوص الانتقام، هى: «الانتقام لا يسير أبدًا فى خط مستقيم، إنه مثل غابة، يسهل أن تضلّ طريقك فيها، وتنسى من أين جئت». أفلام تارانتينو تعكس أيضًا صورة أمريكا فنا وثقافةً شعبية، وربما تاريخًا؛ إنه، مثلًا، يستعيد جذور العبودية بطريقته فى فيلمه «جانغو طليقًا»، ويختبر الكراهية العنصرية فى أصولها البعيدة فى فيلمه «الكارهون الثمانية»، أما فيلمه «كان يا ما كان فى هوليوود» فهو استعادة لسنوات نهاية الستينيات الأمريكية بمزيجٍ من الحنين والسخرية. الغريب أن هذا المخرج الذى يجسِّد أحد النماذج المبدعة لسينما المؤلف فى السينما الأمريكية والعالم، والذى لا يتوقف عن تقديم التحية لأفلامٍ وأنواعٍ تقليدية يحبها، قد صنع فى النهاية أفلامًا «غير تقليدية»؛ إذ يفضِّل عادة التلاعب بالأزمنة، والأنواع، وبالحبكات، ورغم الأحداث المثيرة والمفاجآت، فإن أفلامه أيضًا أفلامُ شخصياتٍ رُسمت بكل تفاصيلها. ورغم أنه يصنع سينما من السينما، ومن خياله الحر، فإنه يقدِّم - فى النهاية - عالمًا يخصه ويتميَّز به، وله سمات وملامح واضحة، ورغم أنه متأثر بالسينما الأمريكية فى نماذجها الشعبية المألوفة للغاية، فإن أفلامه تتجاوز فى طولها الزمن التجارى المتعارف عليه، ويقترب بعضها من ثلاث ساعات. حتى طريقته فى السرد، واستخدامه للوحات المكتوبة فى أفلامٍ كثيرة، والحوارات الطويلة، وتضمينه فيلم «اقتل بيل» فصلًا كاملًا من الرسوم المتحركة اليابانية مدته 8 دقائق، كل ذلك جعل أفلامه أقرب إلى «التجريب» و«الابتكار الحر». هذا درسٌ كبير يؤكِّد مرة أخرى أن الفن فى الفنان، وليس فى المادة مهما كان مصدرها، وهذا كتاب مرجعى جديد لا غِنى عنه لعشاق تارانتينو، ولعشاق السينما عمومًا.