فى عام 2022، طرحت الحكومة مشروعًا سياسيًا باسم «الحوار الوطنى»، شاركت فيه كل التيارات السياسية، وكذلك كل الشخصيات المعروفة وصاحبة الفكر المستنير، وذلك فى محاولة لمعالجة مشكلات المجتمع: السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقد دارت حوارات عديدة لفترة امتدت لشهور طويلة، إلا أنه وللأسف الشديد لم تتناول قضيتين شائكتين ابتعدت كل الحكومات السابقة عنهما، لأنهما يمسان كل فرد فى جمهوريتنا، وهما: «قانون الإيجارات القديمة وقانون الأحوال الشخصية، وأسهمنا بمقالتين فى محاولة لمعالجة الأمرين». وفى 4/8/2025، أصدرت الحكومة - بعد أن أخذت موافقة البرلمان - قانون 164 لسنة 2025 الخاص بالإيجارات القديمة، وبه استطاعت الحكومة أن تحل بمهارة هذه المشكلة العصية التى استمرت 70 عامًا. تميَّز هذا القانون بمهنية قانونية عالية وبمسئولية نحو كل المتضررين من هذا القانون الاستثنائى، سواء الملاك الذين استعادوا الأمل فى استرداد أملاكهم، أو المستأجرون الذين فتحت لهم منصة تابعة لوزارة الإسكان لتعويضهم عن شققهم التى استمرت معهم لسنين طويلة بقيمة إيجارية هى والعدم سواء. وكان من أهم نتائج هذا القانون أن بدأت حوارات سلمية بين الملاك والمستأجرين للتراضى بينهما، لأن موازين الكفتين اعتدلت إلى حد كبير، فأصبحت لكل من الطرفين كروت تمكنه من التفاوض مع الآخر، ليحصل على حقه أو على الأقل قسط كبير منه، دون اللجوء إلى التقاضى. • • • عن قانون الأسرة الحالى، فهو ملىء بالعوار باعتراف كل رجال الدين والقانون، وبالتالى أصبح فى حاجة ماسة إلى شىء مما حدث فى قانون الإيجارات القديمة؛ إذ يتطلب تعديلات جوهرية لقوانين أخذت فى فترة عاث فيها الفساد، وتغلبت فيها المصالح الشخصية على المصالح العامة؛ تعديلات تعمل على توازن كفتى الميزان بين الرجل والمرأة، وبين الزوج والزوجة، وتجعل كلًا منهما يؤمن بأنه مكمّل وليس عدوًا للآخر، وعليه تنخفض معدلات الطلاق، سواء للضرر أو بالخلع. علمًا بأن نسب الطلاق بالخلع - حسب الإحصائيات الأخيرة - بلغت 87% من إجمالى حالات الطلاق، وهذا مؤشر قوى على أن المرأة متسرعة فى اتخاذ مثل هذا القرار الخطير الذى يمكن أن تندم عليه فيما بعد. كما أن «الخلع» فهمته المرأة بشكل خاطئ؛ فهن لم يراعين الحديث النبوى: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق». ورغم أن صحة هذا الحديث متفاوتة بين العلماء، فإنهم جميعًا أكدوا معناه الصحيح: إن الطلاق مكروه، ويبغضه الله لأنه يفسد عقد الزواج الذى يعتبر ميثاقًا غليظًا فى الإسلام، ولا يُلجأ إليه إلا عند استنفاد جميع الحلول الممكنة لإنهاء الخلافات الزوجية. وعن طلاق الخلع، فنحن نقر بأنه السبيل الوحيد - فى بعض الأحوال - للخلاص من تعنت بعض الرجال الذين يتجاهلون وصية النبى صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع: «استوصوا بالنساء خيرًا»، وتغافلوا قوله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى». ويقصد هنا ب«الأهل» الزوجة. ولأن خلقه صلى الله عليه وسلم كان القرآن الكريم، فقد جاء حديثه متطابقًا مع قوله تعالى: «وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا» (النساء: 130)، وفى قول آخر: «وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (البقرة: 237)، وهى آية تحث على تذكر العِشرة الحسنة بين الناس، حتى فى أوقات الخلاف أو انتهاء العلاقات، وتدعو إلى الإحسان والوفاء وعدم نسيان المعروف. وعليه، فنحن لا نطالب بإلغاء «الخلع»، لكن نطالب بوضع القيود اللازمة لكى يكون شرعيًا، فلا بد أن يتطابق مع ما نص عليه النبى صلى الله عليه وسلم: «رُدّى عليه حديقته»، فلا يتم صدور الحكم بالخلع إلا بعد أن يتأكد القاضى من أن الزوجة قد ردت لزوجها كل ما أخذته منه لعقد الزواج بينهما. فالمهر الذى اعتاد الناس على تقديره بجنيه واحد شىء منافٍ للحقيقة، وعليه يمكن استبدال مبلغ المؤخر بالمهر - فى حالة عدم ذكر القيمة الحقيقية للمهر - مع التأكد من رد الشبكة والهدايا أو قيمتهما، وكذلك كل ما شارك به الزوج فى تجهيز بيت الزوجية من أدوات كهربائية أو أثاث وما إلى ذلك. وهذا كى لا نكون من أصحاب السلوك الانتقائى فى تطبيق الدين أو القانون، حيث يختار الشخص ما يناسب هواه ويترك ما لا يناسبه، كما فى قوله تعالى: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» (البقرة: 85). ومن الجدير بالذكر أن أحكام طلاق الخلع لا تأخذ بالشروط الشرعية؛ فالزوجة ترفع دعوى الخلع، وتعمل كل جهودها للحصول على حكم غيابى يُفاجأ به الزوج، وهى لا تعلم أن هذا الطلاق لا يسمح لها بالزواج من بعده إلا بعدما ترد لزوجها كل حاجاته (ما عبّر عنه النبى صلى الله عليه وسلم ب«حديقته»)، وحتى تبرأ منه، ويجوز لها الزواج من غيره. كما أن استبدال المؤخر بالمهر - فى حال عدم وجود مهر منصوص عليه فى وثيقة الزواج - سوف يخفف من مبالغات المؤخر التى تطلبها أسرة العروس لإتمام الزواج. فإن أى عقد شراكة إن لم تكن فيه كفتا الميزان متعادلتين بين الطرفين، فإنه يصبح عقدًا به غبن لأحدهما، ولن يستمر طويلًا، أو على الأقل سيُحدث خللًا فى العلاقة بين الطرفين لاحقًا. • • • كتبنا فى جريدتنا هذه الموقرة مقالتين: الأولى فى 15/5/2018 بعنوان «عن قانون الأسرة والطلاق الغيابى»، والثانية فى 10/8/2022 بعنوان «تعديل قانون الأحوال الشخصية»، وقد أوضحنا فيهما معظم العورات فيما يتعلق بالطلاق الغيابى والتعدد والرؤية.. التى يجتنبها القانون الحالى، والمشاكل التى نتجت عنه فى تجربة استمرت أكثر من عشرين عامًا، وهى فترة كافية للحكم على أى قانون. ونضيف فى هذا المقال أن عقد القرآن الذى يتم فى مصر يُنص فيه شفهيًا وكتابيًا أنه زواج على «كتاب الله وسنة رسوله وعلى مذهب الإمام أبى حنيفة النعمان»، ويعد هذا «قسمًا» بين الطرفين أمام شهود، يفرض علينا احترام كل بنود مذهب الإمام أبى حنيفة، وعدم الخلط به مع مذاهب أخرى، وتجنب الانتقاء. ففى هذا المذهب تكون سن الحضانة للذكور سبع سنوات، وللأنثى تسع سنوات، علمًا بأن جمهور العلماء لا يختلفون على هذا، وذلك فى حال بلوغ أحد الأجلين: الوفاة (للزوجة) أو الطلاق. تحديد هذه السن للذكور والإناث لم يؤخذ اعتباطًا، وإنما لحكمة شرحها العلماء؛ فبالنسبة للذكور تنتقل الحضانة فى السابعة للأب ليكتسب عادات الرجال وخشونتهم. ونحن نضيف على ذلك أن انتقال الذكر لأبيه فى هذه السن ضرورى جدًا فى حال زواج الأب؛ فدخول الصبى على زوجة أبيه فى هذه السن الصغيرة لا يكون فيه حرج على زوجة الأب، وتستطيع تقبله بلا قلق. وتنتقل الأنثى إلى ولاية أبيها فى التاسعة لتكون فى حمايته. وبالإضافة إلى ذلك - وهو الأهم - أن الأم المطلقة تصبح خالية من كل المسئوليات المادية والتربوية، وتستطيع أن تتزوج مرة ثانية دون الالتفاف على القوانين، كأن تتزوج عرفيًا حتى لا تفقد حضانة أبنائها فى حال تمديد سن الحضانة للخامسة عشرة للجنسين، وحتى لا تفقد نفقات الأبناء التى يمكن أن تذهب لبيتها الجديد مع رجل غير والد الأبناء، وتعيش معه فى شقة الحاضنة، مكاسب بلا حدود دون أى رادع. ولعل حادثة الفنان سعيد مختار، الذى علم بزواج مطلقته عرفيًا بعد أن أخبره ابنه بذلك، فيها عِبرة؛ فكانت نتيجة ذلك أنه قُتل من زوج مطلقته عندما حاول الدفاع عن حقوقه المسلوبة (والشقة ونفقات الطفل...)، وحقه فى ضم ابنه إليه الذى يبلغ 9 سنوات، كى لا يعيش تحت ولاية رجل غريب، وعليه فقد الطفل أباه وأمه فى آن واحد بسبب قانون الأسرة الظالم! كما أن تخيير الأبناء عند بلوغ السن الخامسة عشرة أمر غير منطقى؛ إذ إنهم اعتادوا على الحياة مع أمهم، وأصبح الأب غريبًا عنهم تمامًا، فضلًا عن أن عملية الاختيار تُعد خطأ تربويًا فادحًا للأطفال، فهى تضعهم فى مفاضلة بين الأب والأم، وهذا خطير جدًا؛ لأنه يجعلهم يقفون فى موقف عدائى ضد الأب فى المحاكم، الأمر الذى يجب تجنبه فى كل الأحوال! • • • من ناحية أخرى، فإن قانون الحضانة الحالى يفقد الأب كل الكروت التى يمكن أن يفاوض عليها مطلقته؛ فلو أنه تم احترام السن التى حددها جمهور العلماء لوضعت الأم فى اعتبارها أن الأيام ستدور، وسوف تنتقل الحضانة للأب فى يوم ما، فلا تمنعه ولا تمنع أسرته من رؤية الأبناء، وبهذا تعتدل كفتا الميزان بين الطرفين. أما أن يُحرم الأب من كل حقوقه الشرعية، من الرؤية والولاية فى التعليم والتربية، فهذا من شأنه أن يجعل الرجل «كارتًا بنكيًا» (ATM) فقط، دون أى مقابل لنفقته على أولاده. هذا إذا افترضنا حسن النية فى عدم تشويه الأم لصورة الأب لأبنائه، ومن نتيجة ذلك وقوع الأبناء ضحية أمراض نفسية، واختلالات تضر بهم وبمجتمعهم. ومما سبق يتضح أن قانون الأسرة الحالى يضر بمصلحة المرأة أولًا، وثانيًا بمصلحة الأبناء، وعليه يجب إصلاحه بأقصى سرعة، وذلك بتحديد الواجبات الشرعية لكل طرف، وإعطائه حقوقه دون تغول أحدهما على الآخر. ونحن على يقين أن الحقوق والواجبات إذا اتزنت وراعت كل طرف بما شرعه الله، فستنخفض نسب الجريمة، ونسب الطلاق، وتعود إلى معدلاتها الطبيعية، كما ستختفى كارثة عدم تمكن الأب وأسرته من رؤية أبنائهم وأحفادهم. والله أعلم. أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية) - جامعة الأزهر