في كل شارع من شوارع القاهرة الكبرى يقبع الكلب الضال صامتا، لكنه ليس بلا خطر؛ فخلف تلك العيون التي تبدو بريئة تتزايد الهجمات السنوية على المواطنين، وتتوارى حصيلة من الأمراض الفيروسية والبكتيرية والطفيلية التي تنتقل إلى الإنسان. الأزمة ليست مجرد حوادث عقر، بل تهديد صحي وبيولوجي يتصاعد عاما بعد عام. وفي حوار خاص ل"الشروق"، كشف الدكتور محمد عفيفي سيف، الأمين العام الأسبق للنقابة العامة للأطباء البيطريين، باحث أول واستشاري الفيروسات والمناعة وخبير إدارة المخاطر البيولوجية، عن حجم المخاطر التي تشكلها الكلاب الضالة، والحلول العلمية والقانونية المستدامة التي يمكن أن تعيد التوازن بين الإنسان والحيوان في الشوارع المصرية. خطر حقيقي يتجاوز السعار يؤكد الدكتور محمد عفيفي، أن الكلاب الضالة تشكل خطرا صحيا واضحا، مشيرا إلى أن حالات العقر تخطت مليون حالة سنويا وفق أرقام وزارة الصحة، وهو رقم يتصاعد عاما بعد عام نتيجة زيادة أعداد الكلاب والاهتمام الخاطئ بها من بعض الفئات. ورغم خطورة السعار، يرى الخبير البيولوجي أن هناك أمراضا أخرى لا تقل خطورة، بل قد تفوقه، ولا يتم التعامل معها أو الالتفات إليها إعلاميا؛ مثل الجرب، الديدان الشريطية، السالمونيلا، البروسيلا، الليشمانيا، والحويصلات المائية، ووصفها بأنها أمراض تهدد بحدوث كارثة صحية وبيولوجية في مصر، خاصةً أن الكلاب تُعد إما عائلا وسيطا أو نهائيا لدورات حياة هذه الميكروبات. طريقة التعامل مع حالات العض وأوضح الدكتور سيف أن إصابات السعار موجودة ومثبتة في تقارير وزارة الصحة، ومعظم الحالات تُعامل باعتبارها اشتباها إلى أن يثبت العكس، خصوصا في ظل عدم القدرة على الإمساك بالكلب المعتدي في أغلب الوقائع؛ حيث تشمل خطوات التعامل الصحي غسل مكان العضة لمدة 10 دقائق بالماء والصابون، والتوجه إلى المستشفى للحصول على لقاح السعار، وإعطاء مصل الأجسام المضادة في حالات العقر بالوجه أو الرقبة لقربهما من الجهاز العصبي المركزي. هشاشة برامج التعقيم والتطعيم انتقد الخبير بحدة برامج التعقيم والتطعيم الحالية، واصفا إياها بأنها مجهود ضائع وغير قادر على التأثير في حجم المشكلة لعدم تغطية النسب المطلوبة عالميا، موضحا أن ما يحدث أشبه بجرار زراعي يحرث مياه البحر في يومٍ عاصف. وأشار إلى أن تحقيق السيطرة يتطلب 70% على الأقل من تغطية التطعيم ضد السعار، و85% نسب تعقيم لضمان تراجع حقيقي في أعداد الكلاب، وهو ما لا يتحقق حاليا بسبب نقص الأطباء البيطريين وضعف الإمكانات اللوجستية. وأعرب عن أمنيته بأن تعيد الأجهزة الرقابية تقييم الاستراتيجية الحالية، مؤكدا أنها مستمدة من تجارب دول لا يتجاوز عدد كلاب الشوارع فيها بضع آلاف، ويتم تنفيذها على مدد زمنية طويلة، أو يمكن تطبيقها في مصر في مرحلة لاحقة فقط. الحل المستدام على مرحلتين طرح الدكتور سيف، رؤية متكاملة لحل الأزمة مقسمة إلى مرحلتين؛ الأولى خطة طوارئ عاجلة تمتد من سنتين إلى أربع سنوات، وتعتمد على التزام المحليات بتخصيص أراضٍ خارج الكتل السكنية لإيواء الكلاب، وتجميع ونقل 80% من أعدادها للوصول إلى التوازن البيئي الطبيعي، وفصل الذكور عن الإناث لمنع التناسل دون عمليات جراحية مكلفة، وفحص الكلاب وإتاحة السليم منها للاقتناء بترخيص وبطاقة صحية، والتخلص الرحيم من الحالات المريضة أو الشرسة وفق البروتوكولات الدولية. أما المرحلة الثانية فهي خطة الاستدامة الخاصة بنسبة ال "20%" المتبقية، ويُطبق فيها برنامج الإمساك والتعقيم وإعادة الإطلاق، وتجريم الإطعام العشوائي في الشوارع وقصره على ضواحي المدن، مشيرا إلى أن هذا النموذج هو ذاته الذي طُبق في أمريكا وأستراليا ودول أوروبا بنجاح. استراتيجية مكررة يواجهها الفشل وعن استراتيجية "مصر بلا سعار بحلول 2030"، قال الخبير البيولوجي إنها ليست جديدة؛ إذ إنها في منتصف فترة تنفيذها منذ 2020، ومع ذلك يتضح فشلها بدليل زيادة أعداد الكلاب وتضاعف حالات العقر وغياب أثر حقيقي للبرامج الحالية. وأكد أن الاستراتيجية تصلح فقط بعد تقليل أعداد الكلاب إلى مستوياتها الطبيعية، كما كانت سابقا؛ كلبا أو اثنين في كل مربع سكني، وليس قطعانا من عشرات الكلاب في الشارع الواحد. منظور شرعي وعلمي واحد اختتم الخبير حديثه مؤكدا أن رؤيته تتسق مع القانون المصري والمعايير الطبية والعلمية والرفق بالحيوان عالميا، ومع مقاصد الشريعة الإسلامية التي تقدم حفظ النفس والجسد وتمنع الضرر، مؤكدا أن المطلوب اليوم هو سياسات تحفظ حق الإنسان في الأمان وحق الحيوان في الرعاية دون أن يتحول إلى خطر على المجتمع.