يوم الجمعة الموافق 5 ديسمبر، وقبل ساعات قليلة من كتابة هذه السطور، نشر البيت الأبيض وثيقة استراتيجية الأمن القومى الأمريكية لعام 2025، وبعد قراءة أولية، ولكنها متأنية للوثيقة، يتضح لنا أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بصدد بعض التغيرات المهمة بخصوص سياسته الخارجية والداخلية كى تعكس تصور الإدارة الأمريكية للأمن القومى بعد ما يقرب من عام من عودة ترامب إلى البيت الأبيض رسميًا. تظهر الوثيقة الجديدة أن واشنطن بصدد إعادة ترتيب أولوياتها الخارجية بصورة أعمق مما بدت عليه تحولات السنوات الماضية؛ فالوثيقة لا تعيد ترتيب الأولويات الجغرافية فقط، لكنها أيضًا تعلن بوضوح أن مركز الثقل الاستراتيجى يتجه بعيدًا عن الشرق الأوسط وتحديدًا نحو أمريكا اللاتينية، حيث ترى الإدارة أن التهديدات الأكثر اتصالًا بأمنها الداخلى تتشكّل وتمتد فى جوارها الجغرافى. هذا التحول، الذى يأتى فى لحظة دولية شديدة السيولة، يفرض قراءة جديدة لموقع الشرق الأوسط فى حسابات القوة الأمريكية ولشكل العلاقة المقبلة بين واشنطنوالعواصم العربية. فى جوهر الوثيقة، تقدّم إدارة ترامب تصورًا مختلفًا لطبيعة التهديدات لأمنها القومى؛ فالهجرة غير الشرعية عبر حدودها الجنوبية، وشبكات الجريمة العابرة للدول، وتنامى نفوذ قوى دولية منافسة فى أمريكا اللاتينية، كلّها تُعرض فى الوثيقة بوصفها تهديدات تتجاوز السياسة الخارجية إلى كونها تهديدات مباشرة للأمن القومى الأمريكى. لذلك، تُعامل المنطقة الجنوبية من نصف الكرة الغربى باعتبارها المجال الأكثر حساسية، والأقرب إلى الداخل الأمريكى، والأكثر استحقاقًا لتعبئة الموارد والسياسات. • • • فى مقابل ذلك، يتراجع حضور الشرق الأوسط بشكل واضح؛ فالولاياتالمتحدة لا تتخلى عن المنطقة، لكنها تعيد تعريف علاقتها بها عبر عدة محاور أهمها: استمرار الشراكات الأمنية والاقتصادية، ودعم استقرار الإقليم، مع تقليص واضح للانخراط المباشر أو الالتزامات الضخمة التى ميّزت حقبتى ما بعد الحرب الباردة (1991-2001) والحرب على الإرهاب (2001 إلى الآن). ويأتى هذا التحول انعكاسًا لتراجع أهمية البترول العربى فى المعادلة الأمريكية، وللانخفاض الملحوظ فى الشهية الأمريكية تجاه التدخلات العسكرية بعد تجارب مكلفة ومحبِطة. هذا التراجع النسبى فى ملف الشرق الأوسط يفسر الكثير من ملامح السلوك الأمريكى فى العام الماضى وربما العام الذى سبقه أيضًا؛ فحرب غزة، والتوتر الحدودى المستمر بين لبنان وإسرائيل، وتعقيدات الملف الإيرانى، كلها ملفات تتعامل معها واشنطن اليوم باعتبارها أزمات ينبغى إدارتها فى حدود المصالح الأمريكية فى المنطقة، لا باعتبارها تهديدات استراتيجية تتطلب تدخلًا أمريكيًا واسعًا. ولهذا، تبدو واشنطن أكثر ميلًا اليوم لدعم الوساطات الدولية والإقليمية، وأقل رغبة فى قيادة مسارات التسوية أو رسم خطوط اللعبة السياسية فى المنطقة كما فعلت خلال العقود الماضية. غير أن المقارنة الأكثر دلالة تظهر فى الحالة الفنزويلية تحديدًا؛ فالتقارير المتواترة التى تشير إلى ضغوط أمريكية مباشرة على الرئيس الفنزويلى نيكولاس مادورو للقبول بصيغة خروج آمن خلال فترة زمنية محدودة، تعكس حجم الاهتمام الذى توليه واشنطن للملف اللاتينى. ويتزامن ذلك مع توسّع الوجود البحرى الأمريكى فى البحر الكاريبى، واستهداف شبكات تهريب تتهم واشنطن شخصيات فنزويلية رفيعة المستوى بالارتباط بها. هذه الخطوات لا يمكن فهمها بمعزل عن الإطار الاستراتيجى الجديد الذى يربط بين استقرار أمريكا اللاتينية وحماية الأمن الداخلى الأمريكى، وهو ربط لا يظهر بوضوح فى تعامل الوثيقة مع الشرق الأوسط. • • • وفقًا لهذا المنطق، فإن إعادة تعريف الأولويات الأمريكية تعنى أن واشنطن فى طريقها لتبنّى معادلة جديدة: التركيز على الداخل، ثم الجوار المباشر، ثم المنافسة مع القوى الكبرى المناوئة، بينما يتحول الشرق الأوسط إلى ساحة لا تتصدر الاهتمام، وإن بقيت مهمة من زاوية الرغبة فى الحفاظ على الشراكات التقليدية. هذه إذن ليست لحظة انسحاب أمريكى من المنطقة بقدر ما هى لحظة إعادة توزيع للموارد والسياسات، فى ظل تعدد التهديدات وارتفاع كلفة الانخراط الخارجى فيها بشكل متزامن. أما بالنسبة للدول العربية، فإن هذا التحول يحمل آثارًا مركّبة؛ فمن جهة، قد يمنح بعض العواصم العربية، وتحديدًا الرياض وأبوظبى والدوحة والقاهرة، مساحة أكبر للمناورة وبناء التحالفات بعيدًا عن توقعات التدخل الأمريكى، ومن جهة أخرى، يضع غياب المظلة الأمريكية التقليدية مزيدًا من المسئولية على الفاعلين الإقليميين لإدارة خلافاتهم بأنفسهم أو بأقل قدر ممكن من التوسط الأمريكي، وهو أمر قد يفتح المجال لمعادلات إقليمية جديدة أو يعيد توزيع النفوذ لصالح لاعبين إقليميين ودوليين آخرين. من الزاوية الاقتصادية والسياسية، قد يدفع هذا الواقع المنطقة إلى التكيّف مع نظام دولى أقل استقرارًا وأكثر تعددية، بما يتطلب قدرًا أكبر من الاستقلالية والمرونة والقدرة على بناء شراكات متنوعة، سواء مع القوى الصاعدة فى الجنوب العالمى أو مع أوروبا وآسيا. وفى كل الأحوال، فإن الرهان على دور أمريكى ثابت لم يعد ممكنًا، ليس بسبب تراجع نفوذ الولاياتالمتحدة عالميًا فحسب، بل بسبب تغير حساباتها وأولوياتها الداخلية. • • • فى ضوء ما تكشفه الوثيقة الأمريكية الجديدة، تبدو الولاياتالمتحدة وكأنها تعيد رسم موقعها فى العالم عبر إعادة تعريف أولويات الأمن القومى. ومع ذلك، فإن قراءة توجهات واشنطن لا تكتمل دون أن نأخذ فى الاعتبار طبيعة الشخصية السياسية للرئيس دونالد ترامب؛ فهذه الإدارة، سواء فى فترتها الأولى أو الحالية، لم تُعرف بثبات مؤسسى أو التزام صارم بالوثائق الاستراتيجية طويلة المدى. ولذا، فإن ما تعرضه الوثيقة اليوم قد يخضع غدًا لتغييرات مفاجئة تعكس رؤيته الشخصية أو حساباته السياسية. ومع انتقال مركز الاهتمام الأمريكى نحو أمريكا اللاتينية، يجد الشرق الأوسط نفسه أمام مرحلة جديدة تتراجع فيها مركزية الدور الأمريكى من دون غيابه الكامل. وفى عالم سريع التحول، يبقى التحدى الأكبر أمام دول المنطقة هو القدرة على صياغة سياساتها وتحالفاتها بشكل مستقل، مع إدراك أن واشنطن لم تعد اللاعب الحاسم الذى كان يُضبط على إيقاعه ميزان الإقليم لعقود طويلة. أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر