يبدو أن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لا يزال غافلًا عن أن عهد التهديدات باستخدام القوة العسكرية لإخضاع الدول للإملاءات الأمريكية قد ولى منذ زمن بعيد، فترامب تخطى كافة الحدود السياسية، وكسّر كل القيود والأعراف الدبلوماسية والبروتوكولية، حيث باتت لهجة التهديدات هي اللغه الرسمية للرئيس الأمريكي، سواء لفنزويلا أو كوريا الشمالية أو روسيا أو الصين أو إيران، أو غيرها من الدول التي تتبع سياسات لا تتماشى مع أهواء "ترامب"، فأصبحت التصريحات الرنانة والتهديدات الفارغة من مضمونها دون حساب لعواقبها محل جدل وخلاف بين الرئيس الأمريكي وإدارته نفسها. لم يكد الرئيس الأمريكي ينتهي من سلسلة تهديداته التي أطلقها منذ فترة وبشكل يومي إلى كوريا الشمالية، بسبب برنامجها الباليسيتي والنووي، حتى توجه بأسهم انتقاداته وتهديداته إلى فنزويلا، تلك الدولة الواقعه في أمريكا اللاتينية، والتي تتبع سياسة معادية للهيمنة الأمريكية ورافضة لاعتبارها الحديقة الخلفية للولايات المتحدة التي تصب فيها نفاياتها وأزماتها وعواقب حروبها، فمنذ أن انتخب الرئيس الفنزويلي "نيكولاس مادورو" الجمعية التأسيسية الوطنية صاحبة النفوذ المطلق والتي من المفترض أن تُعد تعديلات لدستور البلاد، استشاطت أمريكا غضبًا متهمة النظام الفنزويلي بمعاداة الديمقراطية. لم يقتصر التدخل الأمريكي في شؤون الدول الأخرى على الانتقاد فقط أو الدعم السري للمعارضة ومحاولة إحداث انقلاب سياسي تارة وعسكري تارة أخرى، بل لوح ترامب مؤخرًا وبعد فشل كافة خياراته باستخدام الخيار العسكري ضد النظام الفنزويلي، حيث أعلن أنه يدرس خيارات تشمل تدخل الجيش الأمريكي في فنزويلا لاستعادة الديمقراطية، وأوضح "ترامب": لدينا خيارات كثيرة لفنزويلا، بما في ذلك خيار عسكري محتمل إذا لزم الأمر، وتابع: لدينا قوات في كل أنحاء العالم وفي أماكن بعيدة جدًّا، فنزويلا ليست بعيدة جدًّا، والناس يعانون ويموتون. الرد الفنزويلي جاء سريعًا، حيث وصف وزير الدفاع الفنزويلي، فلاديمير بادرينو، التهديد العسكري الذي أطلقه "ترامب" ضد فنزويلا بأنه "جنون وتطرف شديد"، وهو نفس الموقف الذي اتخذته بعض دول أمريكا اللاتينية، حيث أعادت تهديدات ترامب إلى أذهان العديد من هذه الدول المغامرات الأمريكية السابقة في المنطقة، وعلى رأسها غزو بنما عام 1989 للإطاحة برئيسها، الأمر الذي دفع العديد من الدول اللاتينية، حتى تلك التي لا تربطها علاقات ودية مع كاراكاس، إلى التوحد حول إدانة التلويح الأمريكي بالتدخل العسكري في المنطقة ورفضها لاستخدام القوة في مواجهة الأحداث في فنزويلا، ومن بين هذه الدول البرازيل وتشيلي وكولومبيا والمكسيك والبيرو، فيما أعرب الحلفاء اليساريون لفنزويلا عن دعمهم العلني لحليفتهم في مواجهة الإمبريالية الأمريكية، ومن بينهم بوليفيا وكوبا والإكوادور ونيكاراغوا. المعارضة الفنزويلية المدعومة من أمريكا رفضت أيضًا التهديد الأمريكي، حيث أعرب تحالف طاولة الوحدة الديمقراطية الذي يضم حوالى ثلاثين حزبًا، عن رفضه لأي "تهديد عسكري من أي قوة أجنبية"، وأضافت في بيان أن التحالف يرفض استخدام القوة أو التهديد باستخدامها من قبل أي بلد في فنزويلا، مضيفًا أن الطريق الوحيد إلى السلام هو تنظيم انتخابات حرة على كل المستويات. داخليًّا واجه "ترامب" العديد من الانتقادات من قبل مسؤولين أمريكيين، على رأسهم مساعد الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي ومكافحة الإرهاب، توم بوسيرت، الذي قال "أعتقد جليًّا أن الرئيس يريد أن ترافق كلماته أفعاله، وأن تكون أكثر اتزانًا ما أمكن"، فيما نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" عن عدة أشخاص مقربين من "ترامب" أن تهديدات الرئيس الأمريكي تجسد نهجه الشامل للسياسة الخارجية، وهو أسلوب ارتجالي يترك فريق الأمن القومي في ظلام وغموض حول ما سيقوله أو يفعله. يبدو أن الانتقادات التي تعرضت لها تهديدات ترامب، سواء من داخل أمريكا أو من فنزويلا أو الدول اللاتينية، دفعت الإدارة الأمريكية إلى إعادة حساباتها، فرغم إعلان نائب الرئيس الأمريكي، مايك بنس، أن فنزويلا تسير في الطريق نحو الديكتاتورية، إلا أنه أشار إلى أن الحل السلمي للاضطرابات السياسية في هذا البلد لا يزال ممكنًا، وأضاف "بنس" من كولومبيا، في إطار جولته لعدد من دول أمريكا اللاتينية، أن الولاياتالمتحدة لن تقبل بظهور ديكتاتور في المنطقة، وقد تفرض عقوبات جديدة ضد فنزويلا. تصريحات "بنس" رأى فيها بعض المراقبين تراجعًا أمريكيًّا عن حديث ترامب وتهديداته اللاذعة، خاصة بعد أن لاقت سيلًا من الانتقادات الدولية والداخلية، وخروجها عن حيز الواقعية في الوقت نفسه، فيما رأى آخرون أن تغير اللهجة الأمريكية من ترامب إلى بنس يأتي في إطار التخبط الذي يمر به البيت الأبيض منذ تولي الرئيس "دونالد ترامب" مهام منصبه، فهذا التخبط في الشأن الفنزويلي لم يكن الأول من نوعه، فقد سبقه تخبطات سياسية متعددة في الأزمة الخليجية والموقف الأمريكي من النظام في سوريا، والتدخل من عدمه في اليمن، وطريقة التعامل مع إيران، وأزمة كوريا الشمالية. بعيدًا عن الإدانات والانتقادات التي لاقت تصريحات ترامب، فإن تلويح الأخير مرارًا باستخدام القوة العسكرية ضد العديد من الدول التي لا تسير وفق الأهواء ولا تخدم المصالح الأمريكية، والتذرع بحجج واهية من بينها الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية العالم من الأخطار المحدقة به، كلها كشفت، بل وأكدت مدى ازدواجية وجنون وعنجهية هذا النظام بقيادة "ترامب"، فأمريكا التي تتحدث حاليًّا باسم حقوق الإنسان والديمقراطية لم تضع هذه الاعتبارات في أذهانها، عندما خططت ودعمت ومولت الحروب في الشرق الأوسط، وعندما زودت الكيان الصهيوني بالأسلحة المتقدمة لقتل المزيد من الأبرياء الفلسطينيين، وعندما دعمت السعودية وتحالفها لتدمير اليمن وقتل شعبها، وعندما دعمت الجماعات الإرهابية في سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان لتشتيت الدول وتمزيقها. أين كانت حقوق الإنسان حينها؟ وأين كانت الديمقراطية؟