أول تعليق من الكرملين على تخلي إدارة ترامب عن تصنيف روسيا "تهديدًا مباشرًا"    الجزائر.. 9 قتلى و10 جرحى في حادث مرور مروع بولاية بني عباس    حبس المتهمين بسرقة مشغولات فضية من مخزن في القاهرة    دعاء الفجر| اللهم ارزقنا نجاحًا في كل أمر    اليوم، قطع الكهرباء عن بعض المناطق ب 3 محافظات لمدة 5 ساعات    ضائقة مالية تجبر مخرج "العراب والقيامة الآن" على بيع ثاني ساعاته النادرة ب 10 ملايين دولار    بيع ساعة يد للمخرج الأمريكي كوبولا ب 10.8 مليون دولار في مزاد    ارتفاع عدد قتلى انفجار بولاية ميتشواكان غربي المكسيك إلى 3 أشخاص    مشغل شبكة الكهرباء الأوكرانية يقول إن إصلاح الشبكة سيستغرق عدة أسابيع    تأجيل محاكمة 68 متهمًا في قضية خلية التجمع الإرهابية    أقرأ تختتم دوراتها الأولى بتتويج نسرين أبولويفة بلقب «قارئ العام»    رانيا علواني: ما حدث في واقعة الطفل يوسف تقصير.. والسيفتي أولى من أي شيء    تحذيرهام: «علاج الأنيميا قبل الحمل ضرورة لحماية طفلك»    زيادة المعاشات ودمغة المحاماة.. ننشر النتائج الرسمية للجمعية العمومية لنقابة المحامين    محافظ الإسماعيلية يتابع تجهيزات تشغيل مركز تجارى لدعم الصناعة المحلية    إصلاح كسر مفاجئ بخط مياه بمنطقة تقسيم الشرطة ليلا بكفر الشيخ    "الراجل هيسيبنا ويمشي".. ننشر تفاصيل مشاجرة نائب ومرشح إعادة أثناء زيارة وزير النقل بقنا    رحمة حسن تكشف عن خطأ طبي يهددها بعاهة دائمة ويبعدها عن الأضواء (صورة)    قلت لعائلتي تعالوا لمباراة برايتون لتوديع الجمهور، محمد صلاح يستعد للرحيل عن ليفربول    جامعة كفر الشيخ تنظم مسابقتي «المراسل التلفزيوني» و«الأفلام القصيرة» لاكتشاف المواهب| صور    «الصحة» توضح: لماذا يزداد جفاف العين بالشتاء؟.. ونصائح بسيطة لحماية عينيك    برودة الفجر ودفء الظهيرة..حالة الطقس اليوم الأحد 7-12-2025 في بني سويف    بدون أي دلائل أو براهين واستندت لتحريات "الأمن" ..حكم بإعدام معتقل والمؤبد لاثنين آخرين بقضية جبهة النصرة    محسن صالح: توقيت فرح أحمد حمدى غلط.. والزواج يحتاج ابتعاد 6 أشهر عن الملاعب    محمد صلاح يفتح النار على الجميع: أشعر بخيبة أمل وقدمت الكثير لليفربول.. أمى لم تكن تعلم أننى لن ألعب.. يريدون إلقائي تحت الحافلة ولا علاقة لي بالمدرب.. ويبدو أن النادي تخلى عنى.. ويعلق على انتقادات كاراجر    هشام نصر: هذا موقفنا بشأن الأرض البديلة.. وأوشكنا على تأسيس شركة الكرة    وزير الاتصالات: رواتب العمل الحر في التكنولوجيا قد تصل ل100 ألف دولار.. والمستقبل لمن يطوّر مهاراته    جورج كلونى يكشف علاقة زوجته أمل علم الدين بالإخوان المسلمين ودورها في صياغة دستور 2012    الإمام الأكبر يوجِّه بترميم 100 أسطوانة نادرة «لم تُذع من قبل»للشيخ محمد رفعت    أصل الحكاية| ملامح من زمنٍ بعيد.. رأس فتاة تكشف جمال النحت الخشبي بالدولة الوسطى    أصل الحكاية| «أمنحتب الثالث» ووالدته يعودان إلى الحياة عبر سحر التكنولوجيا    أسعار الذهب اليوم الأحد 7-12-2025 في بني سويف    مصدر أمني ينفي إضراب نزلاء مركز إصلاح وتأهيل عن الطعام لتعرضهم للانتهاكاتً    المشدد 3 سنوات لشاب لإتجاره في الحشيش وحيازة سلاح أبيض بالخصوص    أول صورة لضحية زوجها بعد 4 أشهر من الزفاف في المنوفية    الاتحاد الأوروبى: سنركز على الوحدة فى مواجهة النزاعات العالمية    نشرة الرياضة ½ الليل| رد صلاح.. رسالة شيكابالا.. مصير مصر.. مستحقات بنتايج.. وتعطل بيراميدز    عمرو أديب بعد تعادل المنتخب مع الإمارات: "هنفضل عايشين في حسبة برمة"    آخر مباراة ل ألبا وبوسكيتس أمام مولر.. إنتر ميامي بطل الدوري الأمريكي لأول مرة في تاريخه    أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. الحكومة البريطانية تبدأ مراجعة دقيقة لأنشطة جماعة الإخوان.. ماسك يدعو إلى إلغاء الاتحاد الأوروبى.. تقارير تكشف علاقة سارة نتنياهو باختيار رئيس الموساد الجديد    ميسي يقود إنتر ميامي للتتويج بلقب الدوري الأمريكي للمرة الأولى.. فيديو    أسوان والبنية التحتية والدولار    وزير الاتصالات: تجديد رخص المركبات أصبح إلكترونيًا بالكامل دون أي مستند ورقي    اللجنة القضائية المشرفة على الجمعية العمومية لنقابة المحامين تعلن الموافقة على زيادة المعاشات ورفض الميزانية    هيجسيث: الولايات المتحدة لن تسمح لحلفائها بعد الآن بالتدخل في شؤونها    أخبار × 24 ساعة.. متى يعمل المونوريل فى مصر؟    نقيب المسعفين: السيارة وصلت السباح يوسف خلال 4 دقائق للمستشفى    محمد متولي: موقف الزمالك سليم في أزمة بنتايج وليس من حقه فسخ العقد    الحق قدم| مرتبات تبدأ من 13 ألف جنيه.. التخصصات المطلوبة ل 1000 وظيفة بالضبعة النووية    خالد الجندي: الفتوحات الإسلامية كانت دفاعا عن الحرية الإنسانية    وكيل وزارة الصحة بكفر الشيخ يتفقد مستشفى دسوق العام    الأزهري يتفقد فعاليات اللجنة الثانية في اليوم الأول من المسابقة العالمية للقرآن الكريم    تقرير عن ندوة اللجنة الأسقفية للعدالة والسلام حول وثيقة نوسترا إيتاتي    الاتصالات: 22 وحدة تقدم خدمات التشخيص عن بُعد بمستشفى الصدر في المنصورة    مفتي الجمهورية: التفاف الأُسر حول «دولة التلاوة» يؤكد عدم انعزال القرآن عن حياة المصريين    مواقيت الصلاه اليوم السبت 6ديسمبر 2025 فى المنيا..... اعرف صلاتك بدقه    السيسي يوجه بمحاسبة عاجلة تجاه أي انفلات أخلاقي بالمدارس    الصحة: فحص أكثر من 7 ملابين طالب بمبادرة الكشف الأنيميا والسمنة والتقزم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حسن إسميك يكتب: وَهْمُ إدارةِ واشنطن للشرقِ الأوسط
نشر في الفجر يوم 10 - 06 - 2020

لا يزالُ الشرقُ الأوسط معضلةً للسياسة الخارجية الأمريكية، فمنذُ أن ابتَدأت واشنطن بالالتفاتِ إلى المنطقة ووراثةِ النفوذ البريطاني وصياغةِ التحالفات، وهي في مأزقٍ يتعلّقُ بصعوبةِ وجودِ نمطٍ ثابثٍ لإدارة علاقاتها مع حلفائِها وخصومِها على السواء. فكلُّ حليف لواشنطن له خصوصيتُه السياسيةُ التي قد تختلف عن خصوصيةِ حلفاءٍ آخرين، كما أن كلَّ خصمٍ من خصومها له قضية قد تختلف عن قضية خصومٍ آخرين.
هذا الوضعُ - الذي يتضمن تعدّداً في مُحدّدات العلاقة التي تربطُ بين واشنطن وبين الدول الشرق أوسطية - يختلفُ عن ما هي عليه طبيعةُ العلاقة التي تربطُ بين الولايات المتحدة وأوروبا، إذ أن العلاقات الأمريكية الأوروبية متّسقة ومنظّمة ومؤسّسية، وتمَّ ويتمُّ تباحثُ أوجه العلاقات بينهما من خلال مؤسساتٍ راسخة، مثل: حلف الناتو، أو مؤسسات الاتحاد الأوروبي. كما أن الحليفَ الأوروبي ناضجٌ على الصعيدين: السياسي والإداري، لذا غلَب على التفاعلات الأمريكية الأوروبية طابعَ الوضوح والدقة، فعلى واشنطن العمل على توفير مظلّة أمنية ضد التهديد الروسي والصيني في المقابل تُوفّر أوروبا سوقاً استهلاكياً للسلع الأمريكية. وبذلك يختلفُ منطق العلاقات الأمريكية الأوروبية عن منطق العلاقات التي تربطُ واشنطن بحلفائها الشرق أوسطيين، فحتى الآن لا يبدو واضحاً ماهيّة الأمر الذي تريدُه السياسة الخارجية الأمريكية من هذا الإقليم - الشرق الأوسط.
إلا أنّهُ يمكنُ القولُ بأن نظرة الولايات المتحدة للمنطقة اتّسمت بمحدّدات رئيسية أبرزها؛أولاً: ضمانُ أمن إسرائيل، وثانياً: ضمانُ انسيابية النفط والسلع عبرَ المضائق الحيوية، كالخليج العربي وقناة السويس، وثالثاً: تلبيةُ المتطلبات الأمنية للحلفاء، ورابعاً: محاولةُ "دمقرطة المنطقة" ضمن استراتيجيتها الشاملة في مكافحة الإرهاب والتطرف.
وبقراءة المشهد الحالي، فإنه يُلاحظ رسمياً تغيُّر تصنيف إسرائيل في العديد من الدول العربية، من خصمٍ تقليدي، إلى حليفٍ محتمل في مواجهة الخطر الإيراني، كما تراجعَ خطرُ تبنّي بعض المؤسسات الرسمية للخطاب المتطرف، وانتهجت بعضُ الدول التي كانت منغلقة، نوعاً من الانفتاح الاجتماعي والثقافي ضمن رؤية تهدف إلى منع تسلُّل الأفكار المتطرفة إلى جيل الشباب. والأكثرُ دلالةً مما سبق هو تحوُّل الولايات المتحدة إلى منتجٍ للطاقة وذلك من خلال صناعة النفط الصخري، وكل ما سبق يؤكدُ على أن محددات العلاقة الأمريكية - التي تربطُها مع غيرها من الدول - منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قد تغيّرت تدريجياً منذ مطلع العقد الثاني من هذا القرن.
كما أنَّ الولايات المتحدة لم تعد متحمّسة لفرض الإيقاع السياسي الإقليمي، لا بل أثار توقيعُ إدارة الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، لاتفاقٍ نووي مع إيران دون تنسيق هذه الإدارة مع حلفائها في المنطقة، جدلاً واسعاً يتعلّقُ بمدى التزام واشنطن بقواعد محدّدة في الشرق الأوسط. وهذا "الجفاءُ السياسي" أدّى إلى إحداثِ نوع من تراجع قدرة الولايات المتحدة على تشكيل الأحداث في المنطقة، بالترافق مع تنامي الحضور العسكري الروسي للمرة الأولى فيها، وبروز روسيا كحليف يُعتمد عليه ويُمكن الوثوق به؛ استناداً على دعمها اللامحدود للدولة السورية.
ففي السابق، كانت واشنطن هي المحدّدةُ لمهامّ الدول الشرق أوسطية الحليفة لها في المنطقة؛ فمثلاً كان ل "عاصفة الصحراء" - التي قادتْها القوات الجوية الأمريكية بمشاركة دولية واسعة – الدور َالبارز في إجبار الجيش العراقي على الانسحاب من الكويت. أما بعد الاتفاق النووي الإيراني، لم تعُد بعضُ العواصم العربية ترى في واشنطن ضرورة واجبة للتحرك ضمن إطارها، فمثلاً، عمليات "التحالف العربي" في اليمن التي بدأت في مارس 2015 لم تُشارك فيها واشنطن عملياتياً، ولم يتم تنسيقُها وإدارتُها من خلال القيادة العسكرية الأمريكية الوسطى "USCENTCOM" - المسؤولة عن الأنشطة العسكرية الأمريكية بين قارّتي أوروبا وإفريقيا، وإنما اقتصرت المشاركة الأمريكية على توفير مستشارين عسكريين وإمداد لوجستي ونشر أنظمة باتريوت متقدمة عند تطوّر القتال إلى مستويات خطرة.
وفيما يتعلّقُ بهدف إسقاط الحكومة السورية؛ فقد تم التراجُع عنه منذ بدء عمليات التحالف الدولي ضد "داعش"، إذ أن واشنطن لم تعُد راغبة في المجازفة بوضعِ حُكْمٍ هشّ عاجز ٍعن ضبط الإرهاب مكانَ حُكْمٍ مركزي مسيطر. أما أنقرة فهي في خلافٍ مُزمنٍ مع واشنطن، ويتعلّقُ - هذا الخلاف - بالملف الكردي بسبب تناقض تقييم كل من أنقرة وواشنطن لقوات سوريا الديمقراطية، ففي حين تراها الولاياتُ المتحدة حليفاً في مكافحة الإرهاب وجزءاً من مشهد سوريا القادمة، فإن أنقرة تُصنّفها على أنها إرهابية بل وعلى رأس قوائمها للإرهاب.
إنَّ ما سبق لا يعني ضعفاً أمريكياً، أو انحساراً لقيادتها الدولية مثلما يروجُّ البعض، فالمنطقةُ بكُلّ تناقضاتها وتعدّد الأطراف الفاعلة فيها، يجعلان من الصعب جداً وجودَ طرفٍ قادرٍ على ضبط مسار الأحداث، لذلك تغلُب المفاجآتُ - التي يصعب التنبؤ بها - على الطابع السياسي للشرق الأوسط، إذ أنهُ لا توجد قوة باستطاعتها التأثير على ديناميكية التفاعلات في المنطقة كالولايات المتحدة، وحتى لو خفّضت تواجدها وانكفأت عن المنطقة، فلن يوجد من يَقدر على ملء فراغ الدور الأمريكي بصورة مماثلة.
ويُمكن القول إن الولايات المتحدة سئمت من تحمُّل كلفة عالية لنفوذ مُرهق في المنطقة، فهي إن كانت "قادرة" على إدارة المنطقة، إلا أنها لم تعد "راغبة" في هذه المهمة التي لا تنتهي، لا سيّما في ظل صعود أولويات أخرى تتمثل في الداخل الأمريكي "أمريكا أولاً"، وصعود الشرق الأقصى كإقليم جيواستراتيجي في التصورات الأمريكية على حساب الشرق الأوسط. وجاءت "سياسة محور آسيا" التي تم تبنيها عام 2012، لتحمل إقراراً بأن منطقة آسيا والمحيط الهادئ قد تحولت لتكون المحرك الرئيسي للسياسة الدولية.
وقد ألقت أزمة "كورونا" بظلالها على أولويات الأمن القومي الأمريكي، فانزاحت أعمقُ الجهود الأمريكية نحو البحث عن سبل لاحتواء تفشي الفيروس، وتراجعَ الاهتمامُ بالسياسة الخارجية كثيراً. ونظراً لأن تبعات أزمة "كورونا" ستقود إلى "أزمة ما بعد كورونا" التي يراها بعضُ الخبراء بأنها ستكون أعقد وأطول؛ فإن الدولة الأمريكية ستُسخّر جهودها نحو الداخل الأمريكي، وستحاول الدبلوماسية الأمريكية التعامل مع العلاقات الدولية في مرحلة "ما بعد كورونا" بنوعٍ من الصلابة، وستُمارس نوعاً من إعادة التقييم للملفات التي تنخرط فيها، وقد تتوصلُ الدولة الأمريكية العميقة إلى قناعة راسخة بوجوب الهيمنة على منطقة الشرق الأقصى الذي تتنافس فيه كلٌّ من: الولايات المتحدة والصين وبعض النمور الاقتصادية الصاعدة.
وهنا تُثار تساؤلاتٌ حول مستقبل النفوذ الأمريكي في المنطقة؛ لعلّ من أبرزها: هل تريدُ الولايات المتحدة فعلاً الحفاظ على حالة "Status Que" فيما يتعلق بنفوذها الشرق أوسطي؟ وفي ظلّ انخفاض أسعارالنفط وتحوّل الولايات المتحدة لمنتج للطاقة من خلال صناعة النفط الصخري؛فكيف قد تتغير أولويات الأمن القومي الأمريكي ذات الصلة بالشرق الأوسط؟
ويبقى الثابتُ المُقلق في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط هو أنه عندما تُوضع الأمورُ على المحكّ؛ تقوم الولايات المتحدة أحياناً بتضليل حلفائها، أو أنها لا تسندُهم مثلما كان متوقعاً، فمثلاً تلا التدخلَ الأمريكي في العراق عام 2003، تغلغلٌ للنفوذ الإيراني في "العراق الجديد"، وتناميٌ لحضور إيران الإقليمي، بالرغم من أن هناك دولاً خليجية تحمّلت جزءاً من تمويل الحرب وساهمت لوجستياً في العمليات الدائرة.
ويتضحُ ممّا سبق أن واشنطن لا تمتلكُ الرغبة و/أو القدرة على رسْم طبيعة التفاعلات الشرق أوسطية، ففي إقليم لم تنضُج بنية أنظمته السياسية بعد، يُعبّر قرار السياسة الخارجية في كثير من هذه الدول عادةً عن توجهات شخصية وليس عن رؤية مؤسسية، لذا تستمرُّ النزاعات ويتعذّرُ التوصلُّ إلى حل توافقي وذلك بسبب تمسُّك المرجعيات ذات الصلة بوجهة نظرها. ولو كانت منظومةُ صناعة القرار في دول الإقليم تتّبع معاييرَ موضوعية، لتمَّ بناء أسس من الحوار البنّاء لحلّ ما يستجدُّ من خلافات، تماماً كما هو الحال في علاقة واشنطن مع الاتحاد الأوروبي، أو في العلاقات الأوروبية البينية.
لذلك تواصلُ الولايات المتحدة اللعب على توازنات غير مكتملة، ترجّحُ كفّة وتضبط أخرى، وبذلك تُديم حالة التوتر المزمن (إدارة الصراع لا حله) التي تسمح لها بتوظيف الفوضى لصالحها، فحالة عدم الاستقرار هي واقعٌ شبهُ حتميّ. وتدركُ أدواتُ تنفيذ السياسة الأمريكية جيداً أن التعريف الأكثرَ واقعية في تعريفات السياسة هو "السياسة: فن الممكن".
وعليه؛ يبدو أن الحفاظَ على وجود "فزّاعة" هو ضرورةٌ حيويةٌ لديمومة النفوذ الأمريكي في المنطقة، وهو ما يتطلبُ نوعاً من "عدم اليقين" والذي يراه البعض أحياناً قصوراً أمريكياً، ولكن السياسة الأمريكية ليست سياسة مترددة، بل مدروسة بإتقان للحفاظ على هامش حر من الحركة للقرار الأمريكي في المنطقة، فما يبدو أنه تردّدٌ قد يكونُ وسيلةَ ضغطٍ لانتزاع مزيدٍ من المكاسب والتنازلات من الدول الصديقة، والشواهدُ على التردّد الأمريكي تجاه الأحداث الشرق أوسطية كثيرة، منها إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عدّة مرات عن سحب قواته من شرق سوريا، وذلك قبل أن يصحّح أحدُ كبار مسؤولي إدارته الموقف ويُعلن بعد أيام أنه لن يكون هناك انسحابٌ نهائيٌ بل سيتم العمل على إعادة التموضع وخفض أعداد القوات الأمريكية هناك. وتمارسُ الإدارةُ الأمريكية الآن نفسَ الغموض المتقن فيما يتعلق بمستقبل قواعدها العسكرية في العراق، فبالرغم من التصريحات الأمريكية بانسحابٍ عسكري مرتقب، إلا أنه من المستبعَد مجازفة المَجْمَع الاستخباري الأمريكي بترك الساحة العراقية في ضوء المعادلة العراقية والإقليمية الراهنة.
وبغضّ النظر عن التوازنات الدولية والإقليمية؛ فإنهُ يُمكن القول بأن إقليم الشرق الأوسط لم يخضع للسيطرة الأمريكية، فكثيرٌ من الأحداث داهمت الحسابات الأمريكية، كما أن أزمات المنطقة لم تُحَلّ بل تمَّ العمل على إدارتها وإدامتها وتركها معلّقة دون نتيجة نهائية. ويبدو أن "عقيدة الصدمة" هي وسيلةُ واشنطن الوحيدة للحفاظ على ما حققته في الإقليم - هذا إن كانت جادّة في هذا الحفاظ - وذلك من خلال اتخاذ إجراءات استثنائية وفرضها بذريعة مواجهة الظروف الطارئة المتجددة.
أما مَن يفترض وجود "قيادة" لدفّة الأحداث الشرق أوسطية، فعليه أن يقرأ شواهدَ التاريخ ويدرس تناقضات المنطقة الأيديولوجية، ولكن ذلك لا يعني أن واشنطن غير قادرة على تأمين مصالحها، فهي دائماً ما تُعيد تذكير كل الأطراف إقليمياً ودولياً بأنها صاحبة اليد العليا، وبأنها تمتلكُ الأدوات اللازمة لضبط كفّة التوازنات. وإن اغتيال قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، ليس ببعيد، وكذلك مقتل منتسبين روس - قدّرتهم صحيفة "The New York Times" بالعشرات في حين اعترفت موسكو بمقتل خمسة فقط - لشركة فاغنر الأمنية في دير الزور في فبراير 2018 ليس ببعيد أيضاً، إذ تعاملَ الجيشُ الأمريكي بالقوة المناسبة مع مجموعة مسلّحة اقتربت من مصالح أمريكية، تتمثل بالنفط وتشكيلٍ كردي حليف.
وخلاصةُ القول؛ سيظلُّ الشرقُ الأوسط هو الساحةُ المفضّلة لتسوية نزاعات القوى الكبرى، وميدانُ التفاعلات الدولية الأخطر؛ فهو بذلك "باروميتر" النفوذ الدولي، رغم أن الدول الشرق أوسطية تُساهم بتأثيرٍ محدودٍ في صياغة السياسة الدولية الناظمة. وهو ما يدفعُ بضرورة بروز تحالف - أو تفاهم - إقليمي عابر للخلافات لتنسيق رؤية شبه موحدة من شأنها أن تُراعي أولويات المنطقة، فبدلاً من تقييم مدى قُدرة هذه الدولة أو تلك على قيادة دفة المنطقة، فإنه من الأفضل صناعة "سيادة إقليمية" تُلبي احتياجات سكان المنطقة، وتتواصل مع القوى الكبرى في إطارٍ من الاحترام المتبادل.
وهذا ليس تنظيراً أجْوَفاً، وإنمّا رؤية تحتاج إلى إرادة لتذليل كُلّ الصعاب التي تحول دون بلورة موقف إقليمي متّسق. ففي ظل أزمة "كورونا" وما سيتبعُها من تغيرات في العلاقات الدولية؛ لا توجدُ قوةٌ راغبة في تحمّل الكلفة العالية لضبط مسار أحداث الإقليم المتشعبة. فحتى واشنطن تتملْمل من إقليم غير مستقر، وتسعى إلى الانسحاب التدريجي منه، ولكن دون إحداث فراغ يستطيع منافسوها – روسيا والصين – استغلاله.
لا يزالُ الشرقُ الأوسط معضلةً للسياسة الخارجية الأمريكية، فمنذُ أن ابتَدأت واشنطن بالالتفاتِ إلى المنطقة ووراثةِ النفوذ البريطاني وصياغةِ التحالفات، وهي في مأزقٍ يتعلّقُ بصعوبةِ وجودِ نمطٍ ثابثٍ لإدارة علاقاتها مع حلفائِها وخصومِها على السواء. فكلُّ حليف لواشنطن له خصوصيتُه السياسيةُ التي قد تختلف عن خصوصيةِ حلفاءٍ آخرين، كما أن كلَّ خصمٍ من خصومها له قضية قد تختلف عن قضية خصومٍ آخرين.
هذا الوضعُ - الذي يتضمن تعدّداً في مُحدّدات العلاقة التي تربطُ بين واشنطن وبين الدول الشرق أوسطية - يختلفُ عن ما هي عليه طبيعةُ العلاقة التي تربطُ بين الولايات المتحدة وأوروبا، إذ أن العلاقات الأمريكية الأوروبية متّسقة ومنظّمة ومؤسّسية، وتمَّ ويتمُّ تباحثُ أوجه العلاقات بينهما من خلال مؤسساتٍ راسخة، مثل: حلف الناتو، أو مؤسسات الاتحاد الأوروبي. كما أن الحليفَ الأوروبي ناضجٌ على الصعيدين: السياسي والإداري، لذا غلَب على التفاعلات الأمريكية الأوروبية طابعَ الوضوح والدقة، فعلى واشنطن العمل على توفير مظلّة أمنية ضد التهديد الروسي والصيني في المقابل تُوفّر أوروبا سوقاً استهلاكياً للسلع الأمريكية. وبذلك يختلفُ منطق العلاقات الأمريكية الأوروبية عن منطق العلاقات التي تربطُ واشنطن بحلفائها الشرق أوسطيين، فحتى الآن لا يبدو واضحاً ماهيّة الأمر الذي تريدُه السياسة الخارجية الأمريكية من هذا الإقليم - الشرق الأوسط.
إلا أنّهُ يمكنُ القولُ بأن نظرة الولايات المتحدة للمنطقة اتّسمت بمحدّدات رئيسية أبرزها؛أولاً: ضمانُ أمن إسرائيل، وثانياً: ضمانُ انسيابية النفط والسلع عبرَ المضائق الحيوية، كالخليج العربي وقناة السويس، وثالثاً: تلبيةُ المتطلبات الأمنية للحلفاء، ورابعاً: محاولةُ "دمقرطة المنطقة" ضمن استراتيجيتها الشاملة في مكافحة الإرهاب والتطرف.
وبقراءة المشهد الحالي، فإنه يُلاحظ رسمياً تغيُّر تصنيف إسرائيل في العديد من الدول العربية، من خصمٍ تقليدي، إلى حليفٍ محتمل في مواجهة الخطر الإيراني، كما تراجعَ خطرُ تبنّي بعض المؤسسات الرسمية للخطاب المتطرف، وانتهجت بعضُ الدول التي كانت منغلقة، نوعاً من الانفتاح الاجتماعي والثقافي ضمن رؤية تهدف إلى منع تسلُّل الأفكار المتطرفة إلى جيل الشباب. والأكثرُ دلالةً مما سبق هو تحوُّل الولايات المتحدة إلى منتجٍ للطاقة وذلك من خلال صناعة النفط الصخري، وكل ما سبق يؤكدُ على أن محددات العلاقة الأمريكية - التي تربطُها مع غيرها من الدول - منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قد تغيّرت تدريجياً منذ مطلع العقد الثاني من هذا القرن.
كما أنَّ الولايات المتحدة لم تعد متحمّسة لفرض الإيقاع السياسي الإقليمي، لا بل أثار توقيعُ إدارة الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، لاتفاقٍ نووي مع إيران دون تنسيق هذه الإدارة مع حلفائها في المنطقة، جدلاً واسعاً يتعلّقُ بمدى التزام واشنطن بقواعد محدّدة في الشرق الأوسط. وهذا "الجفاءُ السياسي" أدّى إلى إحداثِ نوع من تراجع قدرة الولايات المتحدة على تشكيل الأحداث في المنطقة، بالترافق مع تنامي الحضور العسكري الروسي للمرة الأولى فيها، وبروز روسيا كحليف يُعتمد عليه ويُمكن الوثوق به؛ استناداً على دعمها اللامحدود للدولة السورية.
ففي السابق، كانت واشنطن هي المحدّدةُ لمهامّ الدول الشرق أوسطية الحليفة لها في المنطقة؛ فمثلاً كان ل "عاصفة الصحراء" - التي قادتْها القوات الجوية الأمريكية بمشاركة دولية واسعة – الدور َالبارز في إجبار الجيش العراقي على الانسحاب من الكويت. أما بعد الاتفاق النووي الإيراني، لم تعُد بعضُ العواصم العربية ترى في واشنطن ضرورة واجبة للتحرك ضمن إطارها، فمثلاً، عمليات "التحالف العربي" في اليمن التي بدأت في مارس 2015 لم تُشارك فيها واشنطن عملياتياً، ولم يتم تنسيقُها وإدارتُها من خلال القيادة العسكرية الأمريكية الوسطى "USCENTCOM" - المسؤولة عن الأنشطة العسكرية الأمريكية بين قارّتي أوروبا وإفريقيا، وإنما اقتصرت المشاركة الأمريكية على توفير مستشارين عسكريين وإمداد لوجستي ونشر أنظمة باتريوت متقدمة عند تطوّر القتال إلى مستويات خطرة.
وفيما يتعلّقُ بهدف إسقاط الحكومة السورية؛ فقد تم التراجُع عنه منذ بدء عمليات التحالف الدولي ضد "داعش"، إذ أن واشنطن لم تعُد راغبة في المجازفة بوضعِ حُكْمٍ هشّ عاجز ٍعن ضبط الإرهاب مكانَ حُكْمٍ مركزي مسيطر. أما أنقرة فهي في خلافٍ مُزمنٍ مع واشنطن، ويتعلّقُ - هذا الخلاف - بالملف الكردي بسبب تناقض تقييم كل من أنقرة وواشنطن لقوات سوريا الديمقراطية، ففي حين تراها الولاياتُ المتحدة حليفاً في مكافحة الإرهاب وجزءاً من مشهد سوريا القادمة، فإن أنقرة تُصنّفها على أنها إرهابية بل وعلى رأس قوائمها للإرهاب.
إنَّ ما سبق لا يعني ضعفاً أمريكياً، أو انحساراً لقيادتها الدولية مثلما يروجُّ البعض، فالمنطقةُ بكُلّ تناقضاتها وتعدّد الأطراف الفاعلة فيها، يجعلان من الصعب جداً وجودَ طرفٍ قادرٍ على ضبط مسار الأحداث، لذلك تغلُب المفاجآتُ - التي يصعب التنبؤ بها - على الطابع السياسي للشرق الأوسط، إذ أنهُ لا توجد قوة باستطاعتها التأثير على ديناميكية التفاعلات في المنطقة كالولايات المتحدة، وحتى لو خفّضت تواجدها وانكفأت عن المنطقة، فلن يوجد من يَقدر على ملء فراغ الدور الأمريكي بصورة مماثلة.
ويُمكن القول إن الولايات المتحدة سئمت من تحمُّل كلفة عالية لنفوذ مُرهق في المنطقة، فهي إن كانت "قادرة" على إدارة المنطقة، إلا أنها لم تعد "راغبة" في هذه المهمة التي لا تنتهي، لا سيّما في ظل صعود أولويات أخرى تتمثل في الداخل الأمريكي "أمريكا أولاً"، وصعود الشرق الأقصى كإقليم جيواستراتيجي في التصورات الأمريكية على حساب الشرق الأوسط. وجاءت "سياسة محور آسيا" التي تم تبنيها عام 2012، لتحمل إقراراً بأن منطقة آسيا والمحيط الهادئ قد تحولت لتكون المحرك الرئيسي للسياسة الدولية.
وقد ألقت أزمة "كورونا" بظلالها على أولويات الأمن القومي الأمريكي، فانزاحت أعمقُ الجهود الأمريكية نحو البحث عن سبل لاحتواء تفشي الفيروس، وتراجعَ الاهتمامُ بالسياسة الخارجية كثيراً. ونظراً لأن تبعات أزمة "كورونا" ستقود إلى "أزمة ما بعد كورونا" التي يراها بعضُ الخبراء بأنها ستكون أعقد وأطول؛ فإن الدولة الأمريكية ستُسخّر جهودها نحو الداخل الأمريكي، وستحاول الدبلوماسية الأمريكية التعامل مع العلاقات الدولية في مرحلة "ما بعد كورونا" بنوعٍ من الصلابة، وستُمارس نوعاً من إعادة التقييم للملفات التي تنخرط فيها، وقد تتوصلُ الدولة الأمريكية العميقة إلى قناعة راسخة بوجوب الهيمنة على منطقة الشرق الأقصى الذي تتنافس فيه كلٌّ من: الولايات المتحدة والصين وبعض النمور الاقتصادية الصاعدة.
وهنا تُثار تساؤلاتٌ حول مستقبل النفوذ الأمريكي في المنطقة؛ لعلّ من أبرزها: هل تريدُ الولايات المتحدة فعلاً الحفاظ على حالة "Status Que" فيما يتعلق بنفوذها الشرق أوسطي؟ وفي ظلّ انخفاض أسعارالنفط وتحوّل الولايات المتحدة لمنتج للطاقة من خلال صناعة النفط الصخري؛فكيف قد تتغير أولويات الأمن القومي الأمريكي ذات الصلة بالشرق الأوسط؟
ويبقى الثابتُ المُقلق في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط هو أنه عندما تُوضع الأمورُ على المحكّ؛ تقوم الولايات المتحدة أحياناً بتضليل حلفائها، أو أنها لا تسندُهم مثلما كان متوقعاً، فمثلاً تلا التدخلَ الأمريكي في العراق عام 2003، تغلغلٌ للنفوذ الإيراني في "العراق الجديد"، وتناميٌ لحضور إيران الإقليمي، بالرغم من أن هناك دولاً خليجية تحمّلت جزءاً من تمويل الحرب وساهمت لوجستياً في العمليات الدائرة.
ويتضحُ ممّا سبق أن واشنطن لا تمتلكُ الرغبة و/أو القدرة على رسْم طبيعة التفاعلات الشرق أوسطية، ففي إقليم لم تنضُج بنية أنظمته السياسية بعد، يُعبّر قرار السياسة الخارجية في كثير من هذه الدول عادةً عن توجهات شخصية وليس عن رؤية مؤسسية، لذا تستمرُّ النزاعات ويتعذّرُ التوصلُّ إلى حل توافقي وذلك بسبب تمسُّك المرجعيات ذات الصلة بوجهة نظرها. ولو كانت منظومةُ صناعة القرار في دول الإقليم تتّبع معاييرَ موضوعية، لتمَّ بناء أسس من الحوار البنّاء لحلّ ما يستجدُّ من خلافات، تماماً كما هو الحال في علاقة واشنطن مع الاتحاد الأوروبي، أو في العلاقات الأوروبية البينية.
لذلك تواصلُ الولايات المتحدة اللعب على توازنات غير مكتملة، ترجّحُ كفّة وتضبط أخرى، وبذلك تُديم حالة التوتر المزمن (إدارة الصراع لا حله) التي تسمح لها بتوظيف الفوضى لصالحها، فحالة عدم الاستقرار هي واقعٌ شبهُ حتميّ. وتدركُ أدواتُ تنفيذ السياسة الأمريكية جيداً أن التعريف الأكثرَ واقعية في تعريفات السياسة هو "السياسة: فن الممكن".
وعليه؛ يبدو أن الحفاظَ على وجود "فزّاعة" هو ضرورةٌ حيويةٌ لديمومة النفوذ الأمريكي في المنطقة، وهو ما يتطلبُ نوعاً من "عدم اليقين" والذي يراه البعض أحياناً قصوراً أمريكياً، ولكن السياسة الأمريكية ليست سياسة مترددة، بل مدروسة بإتقان للحفاظ على هامش حر من الحركة للقرار الأمريكي في المنطقة، فما يبدو أنه تردّدٌ قد يكونُ وسيلةَ ضغطٍ لانتزاع مزيدٍ من المكاسب والتنازلات من الدول الصديقة، والشواهدُ على التردّد الأمريكي تجاه الأحداث الشرق أوسطية كثيرة، منها إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عدّة مرات عن سحب قواته من شرق سوريا، وذلك قبل أن يصحّح أحدُ كبار مسؤولي إدارته الموقف ويُعلن بعد أيام أنه لن يكون هناك انسحابٌ نهائيٌ بل سيتم العمل على إعادة التموضع وخفض أعداد القوات الأمريكية هناك. وتمارسُ الإدارةُ الأمريكية الآن نفسَ الغموض المتقن فيما يتعلق بمستقبل قواعدها العسكرية في العراق، فبالرغم من التصريحات الأمريكية بانسحابٍ عسكري مرتقب، إلا أنه من المستبعَد مجازفة المَجْمَع الاستخباري الأمريكي بترك الساحة العراقية في ضوء المعادلة العراقية والإقليمية الراهنة.
وبغضّ النظر عن التوازنات الدولية والإقليمية؛ فإنهُ يُمكن القول بأن إقليم الشرق الأوسط لم يخضع للسيطرة الأمريكية، فكثيرٌ من الأحداث داهمت الحسابات الأمريكية، كما أن أزمات المنطقة لم تُحَلّ بل تمَّ العمل على إدارتها وإدامتها وتركها معلّقة دون نتيجة نهائية. ويبدو أن "عقيدة الصدمة" هي وسيلةُ واشنطن الوحيدة للحفاظ على ما حققته في الإقليم - هذا إن كانت جادّة في هذا الحفاظ - وذلك من خلال اتخاذ إجراءات استثنائية وفرضها بذريعة مواجهة الظروف الطارئة المتجددة.
أما مَن يفترض وجود "قيادة" لدفّة الأحداث الشرق أوسطية، فعليه أن يقرأ شواهدَ التاريخ ويدرس تناقضات المنطقة الأيديولوجية، ولكن ذلك لا يعني أن واشنطن غير قادرة على تأمين مصالحها، فهي دائماً ما تُعيد تذكير كل الأطراف إقليمياً ودولياً بأنها صاحبة اليد العليا، وبأنها تمتلكُ الأدوات اللازمة لضبط كفّة التوازنات. وإن اغتيال قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، ليس ببعيد، وكذلك مقتل منتسبين روس - قدّرتهم صحيفة "The New York Times" بالعشرات في حين اعترفت موسكو بمقتل خمسة فقط - لشركة فاغنر الأمنية في دير الزور في فبراير 2018 ليس ببعيد أيضاً، إذ تعاملَ الجيشُ الأمريكي بالقوة المناسبة مع مجموعة مسلّحة اقتربت من مصالح أمريكية، تتمثل بالنفط وتشكيلٍ كردي حليف.
وخلاصةُ القول؛ سيظلُّ الشرقُ الأوسط هو الساحةُ المفضّلة لتسوية نزاعات القوى الكبرى، وميدانُ التفاعلات الدولية الأخطر؛ فهو بذلك "باروميتر" النفوذ الدولي، رغم أن الدول الشرق أوسطية تُساهم بتأثيرٍ محدودٍ في صياغة السياسة الدولية الناظمة. وهو ما يدفعُ بضرورة بروز تحالف - أو تفاهم - إقليمي عابر للخلافات لتنسيق رؤية شبه موحدة من شأنها أن تُراعي أولويات المنطقة، فبدلاً من تقييم مدى قُدرة هذه الدولة أو تلك على قيادة دفة المنطقة، فإنه من الأفضل صناعة "سيادة إقليمية" تُلبي احتياجات سكان المنطقة، وتتواصل مع القوى الكبرى في إطارٍ من الاحترام المتبادل.
وهذا ليس تنظيراً أجْوَفاً، وإنمّا رؤية تحتاج إلى إرادة لتذليل كُلّ الصعاب التي تحول دون بلورة موقف إقليمي متّسق. ففي ظل أزمة "كورونا" وما سيتبعُها من تغيرات في العلاقات الدولية؛ لا توجدُ قوةٌ راغبة في تحمّل الكلفة العالية لضبط مسار أحداث الإقليم المتشعبة. فحتى واشنطن تتملْمل من إقليم غير مستقر، وتسعى إلى الانسحاب التدريجي منه، ولكن دون إحداث فراغ يستطيع منافسوها – روسيا والصين – استغلاله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.