قراءة الملامح الأولى لسياسات الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه الشرق الأوسط حتى كتابة هذه السطور تشير إلى أن واشنطن تعمل على إعادة ترتيب سياساتها في على أساس أولويات تندرج تحت مبدأ عدم التدخل المباشر لحل مشاكل حلفائها في المنطقة، وإعادة تدوير سياسة الإدارة السابقة الخاصة بالانسحاب من الشرق الأوسط إلى انكماش يؤدي إلى عدم الانخراط السياسي العسكري المباشر المُكلف الذي لا فائدة منه فيما يتعلق بالنفط، وفق أولويات يتم على أساسها إعادة ترتيب التحالفات وتبيان مدى تفاعل دول المنطقة مع هذه الأولويات الأميركية سلباً أو إيجاباً. الأولويات الأمريكية المستنبطة من خطاب إدارة ترامب منذ إعلان ترشحه وحتى الآن يمكن حصرها كالتالي: تحجيم نفوذ إيران بالتعاون مع إسرائيل والسعودية بشكل رئيسي، دون تدخل مباشر قد يؤدي إلى اندلاع حرب تتورط فيها واشنطن مباشرة. لملمة فوضى الربيع العربي من زاوية توظيف ما نتج عنه سلباً أو إيجاباً وفق بوصلة السياسات الأميركية وليس وفق عشوائية وارتجال حلفاء واشنطن وعلى رأسهم السعودية. إنهاء فوضى داعش والاستفادة من مرحلة ما بعد القضاء على التنظيم في سوريا والعراق لإبقاء اليد العليا لواشنطن وليس لأي من القوى الإقليمية أو الدولية. هذه الأولويات لا يوجد خلاف جوهري عليها بين واشنطن وحلفائها التقليديين، ولكن الخلاف الأكبر هو ترتيب هذه الأولويات وبالتالي منهجية تنفيذها وكيفية معالجة العوائق التي تحول دون رسم سياسات واضحة المعالم على المدى المتوسط والبعيد. وهذا الأمر لا يتعلق فقط بالتحفظات والمشكلات الثنائية التي بين واشنطن وبين دولة مثل السعودية –قانون جاستا على سبيل المثال- ولكن على كيفية تنحية الخلافات بين حلفاء واشنطن مثل التي بين القاهرةوالرياض أو المتعلقة بتسوية القضية الفلسطينية من أجل إدماج إسرائيل بفاعلية كاملة ضمن محور "الاعتدال" القديم/الجديد. ناهيك عن أن كل من حلفاء واشنطن لديه ترتيب أولويات مختلف يفرض تباين قد يصل إلى حد التنافس على موقع قاطرة السياسات الأميركية في المنطقة. في السياق نفسه، ترتبط هذه الإشكالية بمعامل بنيوي إضافي وهو مدى توسع الإدارة الأميركية الجديدة في موازنة التقاطعات بينها وبين روسيا تجاه –على سبيل المثال- القضاء على داعش، وبين سعي موسكو لإعادة تأسيس نفوذ استراتيجي لها في المنطقة. وهو ما يخالف أولويات ورؤى حلفاء واشنطن وعلى رأسهم السعودية وإسرائيل؛ فكل من الدولتين فيما يخص سوريا تريد هدم الدولة السورية وتفكيك بنية الجيش السوري في إطار صراعهما مع إيران، وفيما يخص البرنامج النووي الإيراني يريدان عودة العقوبات وربما إلغاء الاتفاق. وهو ما يترجم أميركياً على التوالي بتمدد وتوسع الجماعات الإرهابية في سوريا والمنطقة بشكل عام، واحتمالية كبيرة لنشوب حرب على أثر إلغاء الاتفاق النووي وعودة البرنامج النووي الإيراني لسابق عهده وتوسعه وعودة العقوبات، ويمتد ذلك إلى إجهاض أي محاولة للتوافق بين موسكووواشنطن وربما يمتد فيما يخص الاتفاق النووي إلى خلافات لا حاجة للإدارة الأميركية لها مع باقي القوى الدولية الضامنة للاتفاق. النقطة السابقة توضح التباين بين توجه ترامب التوافقي حول محاربة داعش وتسوية الأزمة السورية من البوابة الروسية، وتحفظه على دور السعودية وسياساتها المختلفة، وبين انحيازه للمشتركات بين بلاده وبين الرياض وتل أبيب حول إيران ودورها والاتفاق النووي. وهنا تأتي البرجماتية والأولويات لكل من واشنطن وحلفائها في المنطقة في تنحية الخلافات وتأجيلها مع ترامب، والتركيز في الدفع ناحية تحقيق المصلحة المشتركة ضد خصم مشترك هو إيران، سواء عن طريق الاستثمار في إحداث صدع بين طهرانوموسكو فيما يخص تسوية الأزمة السورية، أو تصعيد الخلاف مع طهران حول "الاتفاق النووي السيئ" –بتعبير ترامب- والبرنامج الصاروخي الإيراني وغيره من الملفات والقضايا إلى حد الصدام الوشيك، خاصة وأن جوهر الخلاف بين إدارة أوباما من جهة والرياض وتل أبيب من جهة أخرى أساسه سياسات هذه الإدارة تجاه طهران، وأن جوهر معارضة ترامب وإدارته وحزبه للاتفاق النووي وسياسات سلفه تتوافق مع مصالح كل من السعودية وإسرائيل. هذا التشابك السابق حال السير فيه ولو بخطوات حثيثة يفرض على واشنطن حتمية التدخل المباشر في الشرق الأوسط، وليس إدارته دون انخراط بالتوافق مع قوى دولية وإقليمية مثل روسياوأنقرة، ويستند على مرتكز حلفاء واشنطن التقليديين مثل السعودية وإسرائيل والإمارات ومصر والأردن. وغني عن الذكر أن هذه الدول قامت سياساتها الخارجية في العقود الأربعة الماضية على كونها جزء متماهي ومتوافق مع السياسات الأميركية في المنطقة إلى حد التبعية، وبالتالي فإن الانكماش الأميركي الذي أدى لنوع من الفراغ أصبح شغله ما بين عجز وعشوائية وعدم رغبة من جانب هذه الدول، فتبقى الحل الواقعي العملي هو رسم خطوط عريضة للسياسات الأميركية والعمل على تنفيذها بشكل غير مركزي وغير مباشر بإيجاد مساحات توافق بين ترتيب أولويات هذه الدول –متباينة بطبيعة الحال- وبين ترتيب أولويات إدارة ترامب. السابق فرض سؤالاً جوهرياً يدور حالياً في أروقة السياسة وصناعة القرار في واشنطن هو: أي من دول "الاعتدال" يمكن أن تعتمد عليها واشنطن كوكيل إقليمي وقاطرة سياسات تتقاطع مصلحته مع المصلحة الأمريكية وقادر على تنفيذها بمساعدة واشنطن دون أن تضطر الأخيرة إلى تدخل مباشر؟ إلى الأن يبدو أن واشنطن لا تعتمد تخصيص الوكالة لدولة بعينها تجاه كل الملفات، وذلك لاختلاف الأولويات وترتيبها بينها وبين الدول الحليفة المعنية وبين هذه الدول وبعضها البعض. فلجأت إلى حل عملي -يبدو أنه مؤقت- وهو إيلاء الدعم والانحياز لرؤية دولة بعينها تجاه ملف معين بما يتوافق بأكبر نسبة ممكنة مع الأولويات والمصلحة الأمريكية. فعلى سبيل المثال انحياز واشنطن عسكرياً للإمارات في حرب اليمن وذلك بعد تصاعد الخلافات بين أبو ظبي والرياض على بوصلة الأهداف السياسية والميدانية هناك؛ فسياسات كل من أبو ظبي والرياض الخارجيتين المتباينة مع طول أمد الحرب على اليمن أدت إلى تضارب الأولويات السياسية والميدانية بينهما، وما جرى في مسار معارك الجنوب اليمني ومدى اختلاف الرؤى بين الاثنين الذي تطلب انحيازاً أمريكياً لأبوظبي ضد العشوائية السعودية هناك، وصل إلى ثقة البنتاجون في الرؤية والتكتيك العسكري الميداني للإمارات والسعي لتطويره بالشراكة الميدانية والتنسيق العسكري والاستخباراتي المؤسس في وسط وجنوب اليمن، فيما توقع مراقبون أن تتجاوز هذه المرحلة الجديدة من الشراكة بين واشنطنوأبوظبي الساحة اليمنية إلى ساحات أخرى في المنطقة على رأسها سوريا ومن مدخل يتسق مع الأولويات الإماراتية المتباينة مع "الحليف" السعودي المتماهي بالكامل في الساحة السورية منذ 2015 مع أنقرة. وبناء على هذه السردية المستنبطة من تحركات السياسة الخارجية للإدارة الأميركية الجديدة في المنطقة نجد أن هناك أربعة محددات رئيسية يتم أخذها في الاعتبار من جانب واشنطن هي: انتهاء فكرة محور الوكالة الأمريكية المتماسك المكون من دول في المنطقة الذي عُرف مسبقاً بمحور دول "الاعتدال". وذلك لأن تماسك هذا المحور كان قائماً في السابق على أن السياسات الخارجية لهذه الدول تعد في العموم جزءًا من السياسات الأمريكية، ويوجد بها تراتبية وتقاسم أدوار مثل تصدر القاهرة إدارة العلاقات العربية "الإسرائيلية" بما في ذلك "عملية السلام". التباينات بين هذه الدول المفترض أنها حليفة لواشنطن تفرض على الأخيرة تدخل مباشر لإنهائها وضمان عدم تكررها، وهو ما يقوض سياسة عدم الانخراط المباشر، وبالتالي أفضى هذا إلى اجتراح حلول مؤقتة مثل انحياز أمريكي لأبوظبي في اليمن على حساب الرياض. ضمان أن أولويات واشنطن ورؤيتها في شأن إقليمي يمس مصلحتها المباشرة لن يُغلب عليه أولوية أياً من الدول الحليفة لها وعلى رأسها تل أبيب والرياض؛ مثلما هو الحال عليه في سوريا التي تسعى واشنطن لإيجاد توافق دولي إقليمي يُعارض أولويات السعودية وإسرائيل. وهو ما يعزز الرأي القائل بأن انتهاء زمن خوض الولاياتالمتحدة معارك "حلفائها" قد ولى. تعوض دول "الاعتدال" الانكماش الأمريكي بمحاولات تكوين تحالفات تكتيكية بين بعضهما، وأيضاً بالانفتاح على قوى دولية أخرى دون التخلي عن علاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن، وهو ما يخلق فرص للمناورة قد تتطور إلى محاولات بعض من هذه الدول لتغليب رؤيتها حسب أولوياتها المُلحة. مثل توافق القاهرةوأبوظبي على دعم أحد أطراف الصراع الليبي وبوادر توافق بينهما وبين موسكو في هذا الشأن بعيداً عما تريده واشنطن في ليبيا.