زرتها طفلًا فى رحلات مدرسية ليلعب ويلهو مع أقرانه تحت رقابة المدرس المشرف على الرحلة. لا أذكر عدد هذه الرحلات، ربما كانت بعدد السنوات الدراسية فى المرحلة الابتدائية وعدد الرحلات العائلية التى كان الوالد ينظمها مع أقرب أصدقائه وأشقائه وزوجاتهم وكل أولادهم، وكانت أمى تستعد لهذه الرحلات بالعمل فى المطبخ لساعات خلال الأيام السابقة على موعد الرحلة. خمنت من إحدى الصور، وبالتحديد من صورة أجلس فيها أمام أمى، أن الرحلة ربما وقعت قبل دخولى مدرسة أو على الأكثر فى سنتى الدراسية الأولى. أما كيف ذهبنا وكيف عدنا فلم أعثر بعد على أحد، على كثرتهم فى الصورة، ما يزال بين الأحياء ليدلنى على حقيقة معلومة من هذا النوع. أستطيع أن أقر بأننا استخدمنا ركوب النهر وسيلة جمعت بين وظيفتين، كل منهما أهم من الأخرى، النقل والنزهة الممتعة. هى الوسيلة نفسها التى استخدمها منظمو رحلاتنا المدرسية. • • • أعترف أننى ما زلت أحن إلى حالة المرح والسعادة، الحالة التى كانت تغمرنى خلال رحلات النهر ولم تتكرر فى رحلات أخرى. وقعت مبكرًا فى حبه، حب ولد كبيرًا وعاش يكبر فى داخلى. شعور تجاه هذا النهر لم يفارقنى وأنا أركب الراين فى ألمانيا أو البارانا فى الأرجنتين أو الميسيسبى فى لويزيانا. هو النهر الأجمل والأنقى، وهو الوفى المخلص والأدق فى مواعيده. وقبل كل هذا وذاك هو الوحيد بين كل أنهار العالم الذى يبادلنى الحب وربما بأكثر منه. • • • عدت إلى القناطر مرارا. عدت إليها مرتديا ملابس الكشافة وحول رقبتى يتدلى منديلى الأحمر دليل تخرجى من مرحلة فريق الأشبال وانضمامى إلى فرق الكشافة. أقمنا معسكرات هناك، نقضى فيها الليل ونتجول فى أنحاء القناطر بحثا عن عجوز أو طفلة تبحث عن أهلها أو تلميذ ضاع عن فريق مدرسته أو عاشقة ألهاها الحب عن موعد البدء فى رحلة العودة أو أستاذ عرف كيف يصل إلى مسجد القناطر ليصلى الجمعة ولم يعرف كيف يعود إلى رحلة مدرسته. تعين علينا بإرادتنا الحرة وحماستنا لتأدية الواجب أننا قبل أن نغادر المكان الذى أقمنا عليه معسكرنا أن نتركه أنظف مما كان. عدت إليها وأنا طالب فى الجامعة. عدت ضمن مجموعة من الناشطين فى مجال الجغرافيا ورسم الخرائط وعلاقة النهر باليابسة، كل منهما يعرف تماما حاجة الآخر له، يعرف النهر متى يتقدم ومتى ينحسر. وتعرف اليابسة كيف تستقبل النهر وهى متعطشة وكيف تودعه وهى فى أبهى حلة، ومن حولهما من يعزف لهما أحلى النغم. الكل يودع وفى قلبه لوعة الفراق مختلطة بأروع الأحلام، حلم عودته. اعتدنا العودة إلى القناطر فى نهاية موسم الربيع فريقين، فريق يصل مشيًا على الأقدام والآخر يشتغل فى إعداد ما يلزم لإطعام فريق المشى فور وصوله وقبل ركوب باخرة العودة. هنا، وفوق المركب، يدور الحوار الأكاديمى عن استفادة الفريقين من التجربة وملاحظاتهما على الجديد فى جغرافية المكان ومستوى الاعتناء بالحدائق. اتصل بى فى مكتبى رئيس تحرير الأهرام متمنيًا أن يسمح وقتى بمشاركة مشوار معه إلى القناطر. كان دقيقًا كعادته فى تناول الأمور الدقيقة. انتظرت توضيحات أو إضافة. جاءت فى شكل فرصة متاحة لى للتحدث مع الرئيس أملًا فى إزالة الفجوة بيننا. ظهرت أمام كلماته غير متحمس. الرجل غاضب بسبب مقال كتبته مس مشاعره بالضيق وربما الغضب. أضاف رئيس التحرير بأن عودة الرئيس عن الغضب ضرورة حتمية إن كنا نريد علاقة أرحب تسمح بتحقيق تطلعات وأهداف. لم أعلق طول الطريق إلى القناطر وهناك فى القاعة سلمت باليد مثل الصحفيين الكبار المدعوين. كان سلامًا باردًا حتى أنه أثار ببرودته رعشة فى كل أطرافى شعر بها رئيس التحرير الواقف إلى جانبى. همس فى أذنى.. «أرجوك حافظ على برودك المعهود حتى نخرج من هنا». اقتربت من أذنه حتى لا يسمعنى سائق السيارة رغم كونه محل ثقتنا. «ضحكت عليا وقلت رايحين القناطر.. أنا فى الرحلة دى مشفتش غير دوار ريفى عادى وكراسى كتير وصحفيين بعدد الكراسى، ورئيس غضبان من روسيا ومن كل الصحفيين والإعلاميين». • • • بقيت القناطر، رغم هذه الزيارة، ذكرى باقية لأحلى أوقات قضيتها مع أحلى الناس، بقيت أيضًا شاهدة على أروع علاقة قامت بين طفل ونهر، علاقة ترعرعت فى شموخ بفضل ما قدماه لها على مر العقود من عز وحب. الطفل تغير وصار مراهقًا والمراهق تغير وصار رجلًا والرجل تغير وانحنى قليلًا تكريمًا للزمن وصار كهلًا. أما النهر فقد بقى بعنفوانه مخلصًا لسيرته، لا يتغير.