أعترف بأنى كثيرًا ما شعرت بالحيرة وأنا أراقب - منذ سنوات طويلة - محاولات «تفعيل العمل العربى المشترك» تتكرر بنفس اللغة، بنفس الأدوات، وبنفس النهايات. كأنّ الزمن العربى يتحرك فى دائرة مغلقة: الاجتماعات تتوالى، البيانات تُصاغ بعناية، ثمّ يتوارى كل شىء خلف واقع لا يتغيّر. ومع الوقت، أدركت أن المشكلة ليست فى النوايا، بل فى المنهج الذى نُفكر به فى معنى «العمل المشترك» ذاته. لقد اعتدنا أن نفكر فى التعاون العربى من خلال الدولة، من خلال المؤسسات الرسمية، من خلال الاقتصاد والسياسة، لا من خلال الإنسان العربى نفسه. لكنّى اليوم أرى أن بداية الطريق الجديد لا تكمن فى قاعات الاجتماعات، بل فى العقول العربية حين تتصل ببعضها، حين تنشئ معًا ما يمكن أن أسميه: الذكاء العربى الجماعى. ولدت فكرة الذكاء العربى فى ذهنى حين لاحظت أن العالم من حولنا لم يعد يتقدم بالدول وحدها، بل بالشبكات. العقل لم يعد معزولًا داخل حدود الجغرافيا، بل أصبح جزءًا من منظومة منفتحة تُسمّى «الذكاء الجماعى». فماذا لو استطعنا أن نصنع نسختنا العربية منه؟ ماذا لو اتفقنا على أن مستقبلنا كعرب لا يُصنع فقط من قرارات القمة، بل من قدرة العقول العربية على التفكير والعمل والإنتاج معًا عبر فضاءٍ واحد؟ أتخيل شبكة فكرية رقمية تربط الباحث العربى فى القاهرة بالمبرمج فى الدار البيضاء، وبالمهندسة فى عمّان، وبالمفكر فى الخرطوم. ليس فى شكل مؤسسة بيروقراطية جديدة، بل منظومة حية تتنفس الأفكار، وتُحوِّلها إلى مشاريع معرفية واقتصادية وثقافية مشتركة. الذكاء العربى الجماعى لا يعنى إنشاء قاعدة بيانات ضخمة، بل إعادة اكتشاف القيمة العربية فى ذاتها. نحن أمة تمتلك ثروة من العقول، لكنها مشتتة ومتناثرة. كل دولة تبنى جدارًا حول علمائها، حول خبراتها، حول لغتها الخاصة فى التفكير. وكلما ازداد هذا التشتت، أصبح "العمل العربى المشترك" مجرّد شعار خاوٍ من الروح. لذلك، فإن ما أدعو إليه هو أن نتحرك من فكرة الوحدة السياسية إلى وحدة الإنتاج المعرفى. أن نصنع أولًا وحدة فكرية رقمية، فيها تتلاقى الخبرات وتتفاعل، وفيها يُبنى الوعى الجديد الذى يمكن أن يسبق أى شكل من أشكال الوحدة الأخرى. هذه الفكرة مختلفة، لأنها لا تطلب المستحيل، ولا تنتظر الإجماع السياسى. هى فكرة تبدأ من تحت، من المجتمع العربى المفكر، الباحث، المبدع. يمكن أن تبدأ بإنشاء «سحابة عربية للمعرفة»، مشروع رقمى مفتوح لكل من يريد أن يُسهم ببحث أو ابتكار أو فكرة عملية تخدم العالم العربى. يمكن أن تبدأ بإنشاء مجلس معرفى عربى لا يعترف بالحدود، يجمع كفاءات المهجر وكفاءات الداخل فى فضاء واحد. إنها ببساطة تحويل العمل العربى المشترك من فكرة مؤسسات إلى فكرة حضارية. لو بدأنا بهذه الرؤية، فإننا لن ننتظر قرارات حكومية كى نتحرك. بل سنخلق حركة فكرية جديدة تؤدى بطبيعتها إلى اقتصاد عربى أكثر تماسكًا، وإلى رؤية عربية موحدة فى مجالات التقنية، والعلوم، والبيئة، والطاقة، والثقافة الرقمية. بل إن هذا المشروع، لو كُتب له النجاح، سيعيد للعرب مكانتهم فى خريطة المعرفة الإنسانية- لا كمنطقة تبحث عن حلول جاهزة، بل كعقل جماعى يقدم حلولًا للعالم. فى النهاية، لست أرى فى «الذكاء العربى الجماعى» حلمًا طوباويًا، بل بداية تحوّل واقعى. إنه ميلاد جديد لروح التعاون العربى، لكنه ميلاد لا يأتى من القمم، بل من القاع، من الفكر، من الوعى، من إرادة المثقف والباحث والمهندس والمعلم. ولعلّ أعظم ما يمكن أن نفعله اليوم هو أن نُحوّل «الوحدة» من شعار سياسى إلى مشروع معرفى. فعندما تتصل العقول العربية، حينها فقط، سيولد العالم العربى من جديد.
وكيل لجنة الشئون الخارجية والعربية والإفريقية بمجلس الشيوخ