- كتابان جديدان لمؤرخ أمريكى وآخر ألمانى يرصدان آثارها السلبية على الولاياتالمتحدة لم تعد الحروب فى عالمنا المعاصر محصورة فى مكان أو زمان محدد، إذ جعلت التكنولوجيا من الصراع حدثا عالميا يتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة، ويتغلغل فى مختلف مظاهر الحياة المدنية، وقد صدر حديثا كتابان عن الحرب العالمية الثانية أكدا تلك الحقيقة؛ ألا وهما «1942» للمؤرخ الألمانى بيتر فريتشه، و«الجيل الجريح» للمؤرخ الأمريكى ديفيد ناساو، إذ بيّن كلا العملين أن آثار الحرب امتدت إلى ما بعد نهايتها، لتشكل تحولات اجتماعية ونفسية وسياسية طويلة الأمد. وفى كتابه «1942»، قدم «فريتشه» قراءة شاملة لعام واحد من الحرب العالمية الثانية، وصفه بأنه لحظة حاسمة فى مسار تفكك العالم، ورأى المؤرخ، المتخصص فى دراسة الحياة تحت الرايخ الثالث، أن الإرث الحقيقى للحرب لا يتمثل فى القنبلة الذرية، بل فى عملية «تفكك عالمى متواصل». وأوضح أن مجاعة البنغال التى أودت بحياة نحو ثلاثة ملايين إنسان بدأت فى ذلك العام، وظهرت المذابح الجماعية ضد اليهود بوصفها إشارة إلى الطبيعة المنهجية ل«الحل النهائى» فى ألمانيا، ووصف «فريتشه» ضحايا المدنيين بأنهم «الإنجاز الأوحد للحرب»، وأطلق على عام 1942 «عام اللاجئ»، إذ شهد نزوح الملايين بسبب العدوان الشمولى وانهيار الإمبراطوريات. ورأى «فريتشه» أن الولاياتالمتحدة، رغم ما شهدته من رخاء اقتصادى، عانت من اضطرابات اجتماعية عميقة؛ من نزوح الملايين بحثًا عن العمل بعد الكساد الكبير، إلى دخول النساء إلى سوق العمل، واعتقال الأمريكيين اليابانيين، وصعود حملة «النصر المزدوج» التى رفعها الأمريكيون ذوى البشرة السمراء دفاعًا عن الحرية فى الخارج والمساواة فى الداخل. أما المؤرخ ديفيد ناساو، فتناول أثر الحرب على المجتمع الأمريكى موجهًا نظره إلى ما خلّفته من جراح فى أجساد المقاتلين وأرواحهم فى كتابه «الجيل الجريح»، وتتبع المؤرخ - المعروف بسيرته عن رجل الأعمال الأمريكى أندرو كارنيجى والناشر والصحفى الأمريكى ويليام راندولف هيرست - عملية إعادة الجنود إلى الوطن بعد الحرب، وما رافقها من بطء فى التسريح واحتجاجات واسعة بين الجنود فى مختلف مواقعهم. كما رصد «ناساو» عبر صفحات الكتاب - الذى تربع على قوائم أمازون لأفضل الكتب مبيعًا هذا الأسبوع - ما أسماه «الآثار اللاحقة» لسلوكيات الحرب، مثل الإدمان على السجائر والكحول بوصفهما وسيلتين للهروب من الخوف والملل، والانفلات الجنسى لبعض الجنود فى أوروبا، إضافة إلى الصدمات النفسية التى لم تُشخّص أو تُعالج بسبب الخوف من وصمة الاضطراب العقلى. ومع عودة الجنود، واجهت الولاياتالمتحدة قلقا اجتماعيا بشأن تأثير هذا العدد الكبير من العائدين على الاقتصاد والمجتمع، وترافقت المرحلة مع أعمال عنف استهدفت محاربين من ذوى البشرة السمراء على يد أمريكيين ساعين للحفاظ على نظام التمييز العنصرى. وركز «ناساو» على نشأة ما يسميه «دولة رفاه المحاربين»، التى تجسدت فى قانون إعادة تأهيل العسكريين لعام 1944 المعروف ب«قانون الحقوق للمحاربين القدامى»، ورغم سخاء هذا البرنامج، فإن تطبيقه على مستوى الولايات جعل الاستفادة منه محدودة أمام النساء والأمريكيين السود، كما استبعدت فئات أخرى شاركت فى المجهود الحربى كالعاملين فى الصناعة والطيارات الأمريكيات. وأوضح «ناساو» أن هذا القانون فتح فرصًا واسعة للتعليم والتدريب المهنى، لكنه عزز فى الوقت نفسه التفاوتات الاجتماعية بين الجنسين والأعراق، إذ كان المستفيدون فى الغالب من الرجال من ذوى العرق الأبيض، وقد ساهمت هذه السياسة فى تحويل بنية التعليم الأمريكى، وخلقت نهضة ثقافية فى مجالات الفنون والموسيقى والرقص. ومن بين المستفيدين فنانين بارزين مثل الفنان التشكيلى، إلسوورث كيلى، والفنان روى ليختنشتاين، إلى جانب أسماء أقل شهرة مثل الراقص، روبرت بارنت، الذى أصبح لاحقًا مديرًا فنيًا لفرقة باليه أتلانتا. وضم الكتاب رسوم رسام الكاريكاتير الأمريكى، بيل مولدن، الساخرة التى عكست معاناة الجنود ومشاعرهم أثناء الحرب، وقد وجد الجنود فى هذه الرسوم انعكاسًا لتجربتهم بكل ما تحمله من ألم وصمود، وما جسدته من قدرة على مواجهة القسوة بروح الدعابة والكرامة الإنسانية.