- خسر تجارته في الكساد الكبير.. وحصل على البوليتزر.. وتزوج من مارلين مونرو.. محطات في حياة رائد المسرح الأمريكي آرثر ميلر - بين نعمان عاشور وسعد الله ونوس.. كيف أثر الكاتب المسرحي آرثر ميلر في وجدان المسرح المصري والعربي في القرن الماضي في السابع عشر من أكتوبر، تحل ذكرى ميلاد الكاتب المسرحي الأمريكي الكبير، آرثر ميلر ، والذي يعد أحد أهم رموز الأدب المسرحي في القرن العشرين، وصاحب البصمة الأعمق في كشف تناقضات "الحلم الأمريكي" بين بريق الثراء الزائف وحياة الإنسان العادي المليئة بالتحديات. وكان "ميلر" في حياته نموذجًا للفنان الملتزم بقضايا مجتمعه، والضمير الحي الذي قاوم الزيف السياسي والاقتصادي والفكري، مؤمنًا بأن المسرح لا يمكن أن ينفصل عن الواقع ولا عن الإنسان. البدايات: الانحدار الطبقي بسبب الكساد الكبير وُلد آرثر ميلر في حي هارلم في نيويورك لأسرة يهودية من الطبقة الوسطى؛ وكان والده صاحب مصنع صغير للملابس النسائية، ولكن الكساد الكبير الذي وقع عام 1929 دمّر تجارة العائلة وأفقدهم الاستقرار المادي، ليعيش "ميلر" تجربة الانحدار الطبقي مبكرًا. وترك المدرسة لفترة ليعمل في مهن متواضعة، قبل أن يتمكن من الالتحاق بجامعة "ميشيجان" باجتهاده الشخصي، حيث درس الأدب المسرحي وبدأ كتابة نصوصه الأولى التي كشفت مبكرًا عن حس اجتماعي ناقد ووعي مأساوي بالعدالة الإنسانية. طريق الشهرة: من "كلهم أبنائي" إلى "موت بائع متجول" وفي منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، بدأ نجم "ميلر" يسطع في سماء المسرح الأمريكي، وكانت مسرحيته «كلهم أبنائي» الصادرة عام 1947 أول عمل يحقق له الاعتراف النقدي والجماهيري، إذ تناولت بجرأة مسؤولية الأفراد والشركات عن مآسي الحرب، من خلال قصة أب باع معدات حربية معيبة تسببت في مقتل طيارين أمريكيين، وأثبت "ميلر" عبر هذا العمل أنه لا يخشى مساءلة الضمير الأمريكي في لحظات انتصاره الظاهري. ولكن مجده الأدبي الحقيقي تجسد بعد عامين فقط في «موت بائع متجول» الصادرة عام 1949، وهي واحدة من أعظم المسرحيات في تاريخ الأدب العالمي؛ حيث عبّر بطلها "ويلي لومان" عن رمز الأمريكي المطحون بين حلم النجاح الشخصي وضغط المجتمع المادي، ليصير سقوطه مأساة إنسانية تمس كل إنسان يسعى وراء قيمة ذاته وسط عالم لا يرحم. وقد حصدت المسرحية جوائز أدبية مرموقة؛ على غرار جائزة "البوليتزر" وجائزة "توني" لأفضل عمل درامي، وترجمت إلى عشرات اللغات، ومثلت على مسارح العالم كله، بل وصارت مرجعًا أكاديميًا في دراسة "المأساة الحديثة". مواجهة المكارثية ومسرحية «البوتقة» وبحلول أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، صار "ميلر" من أبرز المثقفين الأمريكيين الذين رفضوا الخضوع لحملات التخوين السياسي التي قادها السيناتور الأمريكي، جوزيف مكارثي ، ضد المفكرين والفنانين بتهمة "التعاطف مع الشيوعية". واستُدعي "ميلر" عام 1956 للمثول أمام لجنة "الأنشطة غير الأمريكية"، لكنه رفض الإدلاء بأسماء زملائه، فتمت إدانته وحرمانه من جواز سفره لفترة، ورد على هذه الحملة بأسلوبه الفني المعتاد، فكتب مسرحيته الشهيرة «البوتقة» عام 1953، التي استوحاها من محاكمات الساحرات في بلدة سالم في القرن السابع عشر، لكنها كانت في الحقيقة رمزًا لمحاكم التفتيش السياسية في أمريكا الحديثة. وتحولت المسرحية إلى بيان فني ضد القمع الفكري، وإلى واحدة من أكثر أعماله تمثيلًا على خشبات المسرح في العالم. زواجه من مارلين مونرو: بين الأسطورة والحقيقة وفي عام 1956، تزوج الكاتب اللامع من النجمة العالمية، مارلين مونرو، بعد علاقة مثيرة للجدل جمعت بين الكاتب المثقف والنجمة التي كانت رمزًا للجمال في هوليوود، ولكن الزواج لم يصمد طويلًا أمام اختلاف العوالم بينهما وضغوط الشهرة، فانتهى بالطلاق عام 1961. وتأثر "ميلر" بهذه التجربة الإنسانية العاصفة، وظهرت ملامحها في مسرحيته «بعد السقوط» عام 1964، حيث تناول موضوع الذنب والخذلان من منظور شخصي وفلسفي. أواخر المسيرة الأدبية وأعمال النضج الفكري وواصل "ميلر" الكتابة والإخراج المسرحي حتى سنواته الأخيرة، ومن أبرز أعماله في المراحل اللاحقة، نذكر: «مشهد من الجسر» الصادرة عام 1955، والتي كانت تدور حول الهجرة والهوية والصراع الطبقي، و«الهبوط من جبل مورجان» الصادرة عام 1953، والتي تناولت خيانة الذات والازدواج الأخلاقي في المجتمع الأمريكي الحديث. ونال "ميلر" خلال مسيرته العديد من الجوائز والتكريمات، وظل حتى وفاته عام 2005 رمزًا للمثقف الذي لا يساوم على الحقيقة، والكاتب الذي يرى المسرح وسيلة لتعرية الزيف لا لتجميله. إرثه وتأثيره في المسرح العالمي والعربي وقد أثّر آرثر ميلر في أجيال من الكتاب والمخرجين حول العالم، إذ أرسى نموذج المأساة الحديثة التي تستبدل الأبطال الأسطوريين بالإنسان العادي المقهور في المجتمع الصناعي الحديث، ووجدت أعماله طريقها مبكرًا إلى المسرح المصري منذ خمسينيات القرن العشرين، حيث استلهمها كبار المخرجين والمسرحيين الذين رأوا في نصوصه نموذجًا للمسرح الإنساني القادر على كشف أزمات المجتمع. كما امتد تأثير "ميلر" إلى الكتّاب الدراميين الذين وجدوا في مسرحه نموذجًا للالتزام الاجتماعي والفكر النقدي؛ على غرار رائد المسرح الواقعي المصري، نعمان عاشور، الذي تأثر بروح "ميلر" في رسم الشخصيات العادية التي تصطدم بواقع قاسٍ يفوق طاقتها، مثلما نرى في مسرحيته «الناس اللي تحت» و «الناس اللي فوق»، اللتين جسّدتا مأساة الطبقات المهمشة في مواجهة الفساد والسلطة، على غرار ما فعل "ميلر" في «موت بائع متجول». أما الكاتب المسرحي المصري ألفريد فرج ، فاستلهم من "ميلر" فكرة المسرح بوصفه أداة للتنوير وكشف الخداع السياسي، وظهر ذلك في أعماله مثل «سليمان الحلبي» و«حلاق بغداد»، حيث تتخذ الشخصيات مواقف أخلاقية تتجاوز حدودها الفردية، شأنها شأن أبطال "ميلر" الذين يُختبرون دائمًا بين الصدق والمصلحة. بينما تجلّى التأثير الأعمق في تجربة الكاتب المسرحي السوري، سعد الله ونوس، الذي أعلن صراحة إعجابه بميلر واعتبره من أبرز من جسد وظيفة المسرح كمحكمة للضمير الإنساني؛ ففي مسرحيات مثل «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» و«الملك هو الملك»، تردد صدى رؤية "ميلر" التي تربط بين المأساة الفردية والفساد الجماعي، وتحوّل خشبة المسرح إلى مساحة لمساءلة السلطة والمجتمع معًا. وقد أصبحت روح "ميلر" بهذا كله جزءًا من الذاكرة المسرحية العربية، حيث امتزجت نصوصه بالهموم الاجتماعية والسياسية للمتلقي العربي، ليؤكد أن الإنسان — أينما كان — يواجه المأزق ذاته بين الحلم والواقع، وبين الصدق والزيف كما ظهر جليًا في أعماله عن انهيار "الحلم الفردي" في مواجهة الواقع القاسي. وفي الختام، فقد أصبح إرث آرثر "ميلر" جزءًا أصيلاً من تكوين المسرح العربي الحديث، الذي تبنّى - على نهجه - فكرة أن المسرح ليس ترفيهًا، بل وعيًا وموقفًا أخلاقيًا، أو كما قال في إحدى مقابلاته الأخيرة التي نشرتها مجلة "ذا أتلانتيك": "لقد بدأت الحضارة الأمريكية مؤخرًا فقط أن تدرك أن الفن ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة من ضرورات الحياة".