ما دور الجامعة الأساسى؟ ما الذى يهدد وجود الجامعات؟ هل فعلًا نريد أن تختفى الجامعات؟ هل لاحظت أن شركة مثل أوبر، المسئولة عن توصيل الركاب والبضائع، لا تمتلك سيارة واحدة؟ وشركة مثل (Airbnb)، المسئولة عن تسكين الناس، لا تمتلك شقة واحدة؟ هذا نتيجة وجود الإنترنت وبرمجيات الذكاء الاصطناعى، فهل يمكن أن يمتد ذلك إلى الجامعات؟ هل يمكن أن نرى جامعة لا تتواجد فى الحقيقة كقاعات ومعامل، وتتواجد فقط عن طريق الإنترنت؟ لا أتكلم عن الجامعات الوهمية التى تبيع الشهادات، لكنى أتكلم عن جامعة حقيقية. ذلك قد يحدث فى المستقبل عن طريق الإنترنت والواقع المعزز، لكن ليس فى المستقبل القريب، لأنه يحتاج إلى تطور أكبر فى وسائل الاتصال وقدرات الواقع المعزز التى تستطيع إعطاء التجربة الثقافية والإنسانية والعلمية. لكن هناك سؤالًا أكثر عمقًا: هل سنحتاج إلى الجامعات أصلًا فى المستقبل؟ الحصول على المعلومات أصبح سهلًا ميسورًا دون الحاجة إلى جامعات أو أساتذة، والشركات الكبرى أصبح لديها مراكز تدريب تمكّن الموظفين الجدد من تحصيل المهارات المطلوبة للوظيفة، وكل عدة سنوات يمكن إعطاء الموظف دورة تدريبية أخرى لتحسين مهاراته. إذًا، فما الحاجة إلى الجامعة، خاصة أن الكثير من الجامعات (للأسف) أصبحت تسعى فقط للربح، وأصبحت تعطى الدرجة (أى الشهادة) لمن يدفع المصروفات الباهظة، وأصبحت الشركات تدرك ذلك، وهذا معناه أن أهمية تلك الشهادة ستقل، وقد تختفى فى المستقبل. إذا استمر الحال على هذا المنوال فستختفى الجامعات فعلًا، أقصد الجانب التدريسى منها. لن نتكلم عن البحث العلمى فى هذا المقال، لكن سنركز على ما يجب أن تدركه الجامعات حتى لا تختفى ويحل محلها برمجيات الذكاء الاصطناعى. • • • المعلومات موجودة وسهل الحصول عليها نحن فى عصر البيانات الغفيرة والمعلومات المتوافرة بضغطة زر، ليس فقط محركات البحث التى أصبحت تكنولوجيا قديمة، بل برمجيات الذكاء الاصطناعى تستطيع إعطاء المعلومة بدقة، بل وتجيب عن الأسئلة المتعلقة بتلك المعلومات التى قد تدور فى ذهن مستخدم تلك البرمجيات، وقد تقترح على المستخدم معلومات أخرى تتكامل مع المعلومات التى طلبها. إذًا، فالحصول على المعلومة أصبح فى متناول الجميع، فما المشكلة إذن؟ • • • ما وراء المعلومات هو المهم لو كان الهدف الوحيد للجامعات، متمثلًا فى أساتذتها، هو إعطاء المعلومة للطلبة، فستنقرض الجامعات لا محالة، أو ستصبح مجرد شكل يأخذ مصروفات باهظة من الطلبة ويعطيهم ورقة تُسمى الشهادة. لأن الحصول على أكثر المعلومات تعقيدًا، بل والحصول على شرحٍ لها، لا يحتاج إلا إلى وجود جهاز متصل بالإنترنت، سواء كان هذا الجهاز لابتوب أو تليفونًا أو تابلت، ولا حاجة للأساتذة. لكن هناك أشياء مهمة يجب أن ننتبه لها بعد الحصول على المعلومة: • كيف يمكن الربط بين المعلومات المختلفة، خاصة تلك المتعلقة بمجالات معرفية وتخصصات متباينة؟ المعلومة هى جزء فى لعبة بازل كبيرة، يجب أن نضع القطع بجانب بعضها بطريقة صحيحة حتى نرى الصورة الكاملة، أو أقرب شىء إلى الصورة الكاملة. تلك الصورة هى التى تساعدنا على اتخاذ القرارات المختلفة. • هل المعلومات التى أعطتها لنا تلك البرمجيات صحيحة ودقيقة؟ لاحظ أن جميع برمجيات الذكاء الاصطناعى تم تصميمها وتدريبها عن طريق بيانات لا نعرف دقتها ولا تحيزها. كيف نتأكد من صحة ودقة تلك المعلومات؟ الأمر يحتاج إلى تفكير نقدى ومناقشات بين الطلبة والأساتذة. • الحصول على المعلومة الكاملة يبدأ بسؤال دقيق، فهل يعرف الطالب فن إلقاء السؤال؟ هناك طبعًا بعض المعلومات البسيطة التى لا تحتاج إلى أسئلة معقدة، لكننا نتكلم عن المادة العلمية لتخصصات جامعية، ودقة السؤال لها تأثير كبير على جودة الإجابة. إذا كان الأمر كذلك، وأصبحت المعلومات متاحة، فما هو دور الجامعة فى المستقبل؟ • • • إعادة تشكيل الجامعات فى عصر الذكاء الاصطناعى الجامعة ليست فقط مكانًا لإعطاء المعلومة، بل دورها أكبر من ذلك. لن نتكلم عن البحث العلمى والدراسات العليا من ماجستير ودكتوراه، لكننا نناقش فى هذا المقال الدور التعليمى للجامعة. • الجامعة مكان يسمح بعقد علاقات إنسانية وشبكات لتبادل الخبرات بين الطلبة، وهذا لا يستطيع الطالب الحصول عليه إذا جلس فى بيته أمام شاشة. هذه العلاقات الإنسانية مهمة لبناء شخصية سوية. قد يقول قائل إن هذا الشاب يستطيع أن يذهب إلى مراكز الشباب أو النوادى أو حتى الجلوس «على القهوة» لبناء تلك العلاقات الإنسانية والخبرات الحياتية، وهذا قد يعطى بعض الخبرات، لكن الحصول عليها داخل الجامعة وفى محيط المناقشات العلمية وضغط الدراسة يصقل التجربة أكثر من المقابلات الترفيهية الخالية من أية ضغوط. العمل تحت الضغط هو سمة هذا العصر، وإذا لم يتدرب عليه الطالب فقد يفشل فى حياته العملية. • وفى سياق متصل بالنقطة السابقة، يجب أن تعلّم الجامعة الطالب التفكير النقدى والقدرة على التحليل. يحدث ذلك داخل قاعات المحاضرات، وأيضًا عن طريق عقد المناظرات بين الطلبة تحت إشراف الأساتذة. هذا يشبه ما يتم تدريسه مثلًا فى كليات إدارة الأعمال فى الجامعات العريقة مثل هارفارد، حيث يتم عرض مشكلة متعلقة بشركة معينة ثم يتناقش الطلبة والأستاذ فى كيفية حلها، ويدلى كل طالب بدلوه ويحاول الدفاع عن رأيه. تسمى تلك الطريقة (Cases) أى «حالات»، وصعب الحصول على تلك الخبرة منفردًا. • الحصول على المعلومة شىء، والتصرف على أساسها من منظور أخلاقى شىء آخر. فالتكنولوجيا بجميع أنواعها مجرد أداة يمكن استخدامها بشكل جيد أو بشكل سيئ، والطالب يحتاج إلى الحصول على تلك «البوصلة»، وهذا دور الجامعة أيا كان التخصص، ولا يمكن للذكاء الاصطناعى تعليمه للطالب إلا بشكل سطحى جدًا وشكلى. • يجب أن تنمى الجامعة فى الطالب القدرة على الابتكار والوصول إلى حلول غير تقليدية، وهذه مهارة تحتاج إلى وجود أستاذ وطلبة وتفاعل بينهم. إذًا، دور الجامعة الجديد هو تدريب الطلبة على استخدام التكنولوجيا للحصول على المعلومة، ثم القيام بالمهام التى ذكرناها أعلاه. الأستاذ الجامعى الذى يدخل المحاضرة ليقرأ من أوراقه ثم يخرج، لم نعد فى حاجة إليه وسينقرض قريبًا، لأنه مجرد مصدر للمعلومات، والتكنولوجيا تعطينا مصدرًا أكثر دقة. نحن نريد الأستاذ أن يكون مصدرًا للحكمة والخبرة، ولو لم يطور الأستاذ من دوره أو تدفعه الجامعة لذلك، فسيصبح مجرد «رجل بركة». هذه الجمل قد تكون قاسية، خاصة أن أغلب الأساتذة فى بلادنا يعانون اقتصاديًا، ولا وقت لديهم للتدريب على تكنولوجيا جديدة أو تجديد معلوماتهم لانشغالهم بطلب الرزق فى أماكن عدة، لكن هذه هى الحقيقة المرة، ويجب أن يفطن إليها الجيل الجديد من الأساتذة، ويجب أن نساعد بكل ما نستطيع الجيل القديم حتى يتطور. • • • إذا كان دور الجامعات هو فقط إعطاء المعلومة وإعطاء الشهادة بمصروفات باهظة، فأغلب الظن أنها ستختفى فى المستقبل... لذلك يجب أن ننظر بجدية إلى الدور الأعمق للجامعات ونهتم بتنميته.