اتفاق وقف إطلاق النار فى شرم الشيخ 9 أكتوبر 2025، أعلن كرزمة مرحلية: انسحاب عسكرى جزئى أو محدود، إطلاق سراح رهائن، وإيصال مساعدات إنسانية موسعة، مع وعود بخطوات لاحقة تتناول مسائل أعمق، مثل إدارة القطاع والضمانات الأمنية. هذا التدرّج ليس معلومة جديدة فى سياسة منطقة الشرق الأوسط، بل هو نمط متكرر فى صفقات ما بعد الحرب التى تتطلب تهدئة فورية ثم إدارة انتقالية طويلة الأمد. لكى نفهم هذه المقاربة، يجب أن نعيد النظر فى تجارب سابقة: اتفاقات الهدنة عام 1949 التى أنهت جولة القتال الكبرى بعد 1948، واتفاقات فضّ الاشتباك بعد حرب 1973/1974 التى تُوّجت بعمل دبلوماسى أمريكى نشط، وكذلك مسارات السلام التى ترافقت مع ترتيبات تنفيذية مؤجلة (كامب ديفيد/معاهدة السلام المصرية 1978-1979، ومعاهدة وادى عربة 1994 بين الأردن وإسرائيل). المقارنة التاريخية تُظهر نمطًا متكررًا: اتفاقات أولية تليها مراحل تنفيذية، ورعاية دولية أو إقليمية تُطوّع أدوات سياسية وتقنية لضمان الالتزام. صفات الاتفاق المرحلى الصفات الشكلية لاتفاق شرم الشيخ - ترتيب مرحلى يبدأ بالتخفيف عن المدنيين (الإفراج المتبادل عن الرهائن والأسرى، المساعدات، تحسين وصول الخدمات)، متبوعًا بإجراءات عسكرية محدّدة وإجراءات تسوية جزئية كتحرير الأسرى - تكررت عبر العقود. فى عام 1949 كانت اتفاقات الهدنة بين إسرائيل وجيرانها وثيقةً لإنهاء الأعمال القتالية الفورية ووضع خطوط فاصلة، لكنها لم تكن معاهدة سلام شاملة؛ إذ تركت كثيرًا من القضايا السياسية للمستقبل. هذه الطبيعة المرحلية تسمح بتحويل التوتر العنيف إلى عملية تفاوضية يمكن فيها خلق ثقة تدريجية وفرض آليات مراقبة. الفرق المصيرى بين الفشل والنجاح يكمن فى ما إذا كانت الآليات اللاحقة (مراقبة التنفيذ، الضمانات، والإطار السياسى لمرحلة ما بعد الاتفاق) موجودة. فإذا اقتصرت الصفقة على إعلانٍ لحظى دون رعاية تنفيذية، فغالبًا ما تندثر بسرعة. أما إذا ترافق الإعلان مع خطة مرحلية واضحة ورعاية دولية يمكنها توفير الحوافز والعقوبات، يصبح تحقيق الاستقرار ممكنًا تدريجيًا. وهذا بالضبط ما يجعل الحديث عن «مراحل متتالية» أمرًا منطقيًا، لا مريعًا ولا مفزعًا. دروس من 1949: هدنةٌ تتحوّل إلى إدارة سلمية طويلة المدى اتفاقات الهدنة فى 1948-1949 لم تكن - فى جوهرها - اتفاقيات سلام نهائية، بل كانت ترتيباتٍ لوقف القتال ورسم خطوط فاصلة (الGreen Line). وظيفتها الأساسية كانت إعطاء فسحة زمنية لتهدئة النزاع وإمكانية الانتقال إلى ترتيبات دبلوماسية أشمل؛ لكنها أيضًا احتوت على آليات عملية: لجان ميدانية، مراقبة الأممالمتحدة، قواعد لتبادل الأسرى والرعاية الإنسانية. ما يهم هنا هو نقطة تقنية: الهدنة أنشأت بنية مؤقتة للإدارة السلمية للصراع فى الشرق الأوسط، يمكن أن تتطوّر أو تنهار اعتمادًا على الضمانات الخارجية والضغوط الداخلية. وبالنظر إلى غزة 2025، يمكن القول إنّه إذا بقيت الصفقة فى شرم الشيخ مجرد نصوصٍ موقَّع عليها دون آلية دولية قوية لمراقبة التنفيذ - من قوافل إغاثة متفق عليها إلى نقاط تفتيش وإزالة سلاح - فإن فرصة التراجع أو الانهيار تبقى حقيقية. أمّا إذا رافق الاتفاق جدول زمنى وخطوات محددة تتولّى مراقبتها، كلما أعلنها، دولة أو مجموعة من الدول كضامنين، فسيكون بمقدوره تجاوز الصدمة الأولية. 1974: فضّ اشتباك برعاية أمريكية - نموذج لتطبيق مراحل التنفيذ بعد حرب أكتوبر 1973 دخلت جهود الوساطة الأسرع والأكثر عملًا: سياسة «الدبلوماسية المكوكية» (shuttle diplomacy) التى اتبعها وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر، فقادت إلى اتفاقات فضّ اشتباك متتابعة بين إسرائيل ومصر، ثم بين إسرائيل وسوريا؛ كانت كل اتفاقية محددة فى النطاق العسكرى، تتضمن سحب القوات، وإنشاء مناطق منزوعة السلاح، وإجراءات لفتح قنوات اتصال وتبادل أسرى. النجاح الجزئى لهذه المسارات لم يكن نتيجة توافق على الإدارة السلمية لمرحلة ما بعد الحرب بين الأطراف المتحاربة بقدر ما كان نتيجة رعاية أمريكية نشطة وفعل تقنى لدفع التنفيذ. الدرس العملى هنا أن الولاياتالمتحدة لم تكتفِ بوساطة لحظة التوقيع، بل طوّرت أدوات متابعة (فرق تفاوضية، ضغوط دبلوماسية، حزم مساعدات أو تقليصات أمنية) للحفاظ على الإطار المرحلى لاتفاقات فض الاشتباك، وهو ما جعلها قابلةً للاستمرار والتماسك. ويمكن قراءة اتفاق شرم الشيخ فى ضوء ذلك: فوجود أمريكى فاعل ومشارك فى صياغة وإعلان الصفقة يزيد من احتمالات تحويل المرحلة الأولى إلى مسار تنفيذ مستدام عبر مراحل متتالية. كامب ديفيد 1978 ومعاهدة 1979: من اتفاق إطار إلى معاهدة سلام بالتدريج اتفاقات كامب ديفيد الموقعة بين إسرائيل ومصر لم تُوَلِّد حلًا فوريًا لكل القضايا، بل قدّمت إطارين: أحدهما لسلامٍ شامل بين إسرائيل ومصر، وآخر لحقوق الفلسطينيين (الذى لم يُطبَّق كاملًا). الأهم أن الاتفاقات كانت مصحوبةً بتعهد أمريكى بتسهيل التفاوض، وتقديم حزم مساعدات، وضمان التزام أطرافها. بعد كامب ديفيد جاءت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (مارس 1979) التى طُبّقت بنودها عبر مراحل: تبادل أراضٍ، انسحابات متدرجة، ترتيبات أمنية، ومعايير لوقف الأعمال العدائية. الرعاية الأمريكية هنا لم تقتصر على الحضور الرمزى، بل تحولت إلى آليات ملموسة للضغط والإغراء: مساعدات اقتصادية وعسكرية، وغطاء دبلوماسى، ومشاركة فى قوة دولية متعددة الأطراف على الحدود لضمان التزام إسرائيل ومصر ببنود المعاهدة. إذًا، عندما يقترن الاتفاق المرحلى بتعهدات دولية ملموسة - شاملة للضمانات الاقتصادية والأمنية وقوات دولية لحفظ السلام أو لمراقبة الأوضاع - يمكن للمرحلة الأولى أن تؤسس لمسار تحويلى أكبر. أما غياب مثل هذه التعهدات فيقلّص حتمًا من قدرة أى اتفاق على الصمود أمام تغيّر التوازنات الداخلية أو تقلبات الأوضاع الإقليمية والدولية، وهو ما دللت عليه، كمثال سلبى، اتفاقات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية الموقعة فى عام 1993. وادى عربة 1994: محاولة دمج الأمن والتعاون الاقتصادى فى مسار مرحلى أما معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن لعام 1994 فتميّزت أيضًا بطابع مراحل التطبيق: ترسيم الحدود، تخفيض الوجود العسكرى على الحدود، ترتيبات للتعاون المائى والاقتصادى، وتفاهمات أمنية متتابعة. كانت الولاياتالمتحدة الراعى الحاضر فى توقيع المعاهدة وعلى مستوى ضمانات ومحفزات التطبيق. وقد كان نجاح التطبيق، فيما يخص معاهدة وادى عربة، نسبيًا ومحدودًا فى بعض المجالات، لكنه فى المجمل أظهر أن الاتفاقات الثنائية، إذا أحاطتها آليات تعاون طويل الأجل، يمكن أن تتحول إلى نظام للإدارة السلمية للصراعات المركبة والقضايا التى تستعصى على الحل النهائى. وبالنظر إلى جميع هذه الأمثلة، يمكن استخلاص مجموعة من العوامل الحاسمة لنجاح اتفاقات وقف إطلاق النار والهدن والسلام المبنية على مراحل: • رعاية دولية/إقليمية مستمرة: ليست مجرد حضور لحظة التوقيع، بل قدرة على التتبع وتقديم الحوافز والعقوبات. وقد أظهرت تجارب الشرق الأوسط مركزية دور الولاياتالمتحدة وبعض الرعاة الإقليميين كمصر وقطر فى تحويل بنود وتعهدات الاتفاقات إلى واقع عملى وتجاوز عقبات المراحل المتلاحقة. • آليات فنية ومراقبة: لا بد من تشكيل لجان مشتركة وبعثات مراقبة، وربما قوات دولية لحفظ السلام، وكذلك التنسيق مع منظمات إنسانية لتأمين تنفيذ البنود العاجلة (تبادل الأسرى، الانسحاب، تسليم السلاح، الإغاثة). فدون مثل هذه الآليات العملية تتحول الاتفاقات ببنودها وتعهداتها ووعودها إلى أوهام. • حزم من الحوافز والعقوبات مرتبطة بكل مرحلة وبالانتقال من مرحلة إلى أخرى: مساعدات اقتصادية، ضمانات أمنية، ووعود دبلوماسية طويلة المدى تُقدَّم كحافز للالتزام. وهنا تُقدّم معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية مثالًا واضحًا على ربط اتفاق سلام فى الشرق الأوسط بحوافز أمريكية طويلة المدى. • إدارة التوقعات المحلية: التواصل مع القوى المؤثرة فى الوضع الداخلى لدى الأطراف المتحاربة أو المتصارعة لطمأنتها أو استيعاب تحفظاتها بشأن ترتيبات السلام المنفذة فى مراحل. • فهم الطبيعة المرنة للاتفاقات المستندة إلى مراحل: وهنا تكمن أهمية العمل الدبلوماسى المتواصل من قبل الضامنين الدوليين والإقليميين. فالاتفاقات المرحلية فى الشرق الأوسط لا يمكن أن تُطبَّق إلا بمرونة، بل إن هذه المرونة، إن حَسُنَت نوايا الأطراف، ونظرًا للطبيعة المركبة وطويلة المدى لصراعات المنطقة، قد تكون أفضل من الاتفاقات الجامدة فيما يخص إنجاح التنفيذ. يقودنا التحليل المقارن، إذن، إلى نتيجة مزدوجة: أولًا، أن الطابع المرحلى لاتفاق 9 أكتوبر 2025 ليس دليلًا على هشاشة أو فشلٍ مسبق، بل هو قالب دبلوماسى تقليدى وعملى يسمح بالتقدم التدريجى الذى يبدأ بتبادل فورى للرهائن والأسرى، وحماية المدنيين من استمرار القتل والجوع والمرض، ثم الانتقال إلى مسائل أعقد. وثانيًا، أن فرص نجاح اتفاق 9 أكتوبر تعتمد بشكلٍ حاسم على استمرار الرعاية الدولية - خاصة الأمريكية - وارتكازها إلى دور دبلوماسى وسياسى يتداخل فى التفاصيل، ويضمن آليات التنفيذ والمساءلة، ويوفر حزم الحوافز والعقوبات. لا يعنى وجود مراحل متتالية فى اتفاقات السلام الفشل الحتمى، بل هو تعبير عن الدبلوماسية الواقعية. وما يميز بين المسار الذى يتطوّر إلى سلام مستدام والمسار الذى يرجّح أن ينهار هو ما يحدث بعد التوقيع: وجود آليات متابعة، حوافز وعقوبات قابلة للتفعيل، ورعاية دولية صلبة قادرة على المحافظة على ما تم تحقيقه خلال المراحل الأولى. يقدم تاريخ الشرق الأوسط أمثلة متعددة على المسارين: من معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية كمثال للنجاح، واتفاقات أوسلو بين إسرائيل والفلسطينيين كمثال للفشل. والقاسم المشترك بين المسارات الناجحة هو أن الدبلوماسية التى لا تتوقف عند لحظة التوقيع، بل تنتقل بعدها إلى متابعة التنفيذ عبر مراحل، هى الضمانة الأهم. لذلك، ينبغى على الضامنين الدوليين والإقليميين لاتفاق 9 أكتوبر 2025 العمل على تحويله إلى خارطة طريق مفصّلة تتضمن جداول زمنية قابلة للقياس، ولجان مراقبة مشتركة، وآليات للإبلاغ عن التجاوزات، وقواتٍ دولية لحفظ الأمن والسلام. وينبغى أيضًا حشد دعم أمريكى ودور دبلوماسى أمريكى متواصل، وإشراك فاعلين إقليميين كمصر وقطر وتركيا، وكذلك أوروبا والمنظمات الدولية لضمان تنفيذ كافة بنود الاتفاق والانتقال من مرحلة إلى أخرى. ولا بد من التوسع فى صياغة الحوافز المرتبطة بالتنفيذ السلس للاتفاق، كالضمانات الأمنية، والمساعدات الإنسانية، والتسهيلات الاقتصادية، وجهود إعادة الإعمار، والعقوبات المرتبطة بالإخلال بالتعهدات، لكى تقل فرص التوقف بين المراحل أو التراجع عنها. أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج الشرق الأوسط فى مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى