رغم حقيقيته الصادمة، تكراره، ترقبه واجتنابه، والاحتفال به والتهرب منه، ورغم قدمه العتيق يظل الموت دائما تيمة خاما يا أخى!. لها نفس الهول ونفس المفاجأة، ونفس الخصوصية والحضور فى الكتابة. ولدى الطاهر شرقاوى، صاحب الرواية الفارقة «فانيليا» (شرقيات 2008)، لم تغب أبدا هذه التيمة فى مجمل كتاباته، فماتت بطلة روايته قبل أن تحتفل بيوبيلها الفضى وبلوغها ال25، وفى نفس الرواية كان هناك ملحق خاص بالجنائز، فضلا عن الموت المرشوش على عتبات أغلب شخوص الرواية، لكن يبدو أن طاهر لم يشبعه كل هذا الموت، فبنى فى مجموعته الجديدة «عجائز قاعدون على الدكك» (نهضة مصر)، مقبرة من أول وجديد «بعدما خربتها السيول»، وسورها بحكايات كثيرة عن موتى فى طريقهم إلى هناك، يقول: «كان جميلا، فى المدخل تنتصب أعمدة أسطوانية، رفيعة وطويلة، تتوجها أقواس تطرز حوافها زخارف إسلامية، ووراء الأعمدة، تستقر حجرتان، ترتفعان عن مستوى الأرض، بمقدار قامة رجل. الحجرة اليمنى مخصصة للرجال، واليسرى للنساء». حول هذا المدفن الجديد أو فى الطريق إليه كان بشر كثيرون وضجيج، تفاصيل ريفية محببة، وحيوانات تمنح المشهد ألوانه وبهجته رغم الموت العالق هناك. وكان هناك عجائز كثيرون يملأون بتفاصيلهم وبطولاتهم العتيقة التى «على القد» المشهد الواسع، يروحون للموت برضا وباستعداد، وبكرنفالية شديدة يشيعهم الموتى المرتقبون: «كل الظروف تهيأت ليكون موته كما يريد»، فى أبهى صورة، خلت السماء من الغيوم الداكنة.. وبدت جميلة بزرقتها الخفيفة.. وعلى غير العادة تكلم كثيرا، وهو مقرفصٌ قدام المزين الذى قال وهو يلم الفوطة البيضاء، وينفضها أسفل الحائط «نعيما يا حاج». هكذا كان «يوم ملائم تماما» ليموت الحاج «دفيانا وشبعانا»، ولهم أيضا كان «جوٌ ملائم تماما لأن يأتى كل الجيران والأقارب والأصدقاء والغرباء، لحضور الجنازة، وسيجدونها فرصة مناسبة لعدم الذهاب إلى الشغل والقعود فى السهراية». لكن هذا لا يعنى انفراد العجائز بحكايات المجموعة ولا حتى بالموت، فعلى مقاس شاب طوله (176 سم) بنى الطاهر شرقاوى رحما طويلا، ورحما آخر مشتعلا على مقاس البنت التى أخرجها أبوها من المدرسة من خامسة ابتدائى، وثالث على مقاس بائع الطماطم الذى «من أجلهم كان خفيفا» فى نعشه، «ضئيلا، قصيرا، كأنه وسادةٌ من الإسفنج»، وأرحامٌ أخرى كثيرة، تنتظر الميتين من العجز، أو الفقر، أو التشوه، أولئك الذين يتوزعون على حفر صاخبة حول المدفن الجديد. هكذا ودون ألم زاعق سيشبع قارئ هذه المجموعة الشائخة موتا، ومتعة، وفتنة باللغة الشاعرية الموصوفة للممسوسين بالعشق والحياة، وبألوان الأماكن، وأصوات الأغنام، والديوك، والحمير، وحبات الندى اليومية، والطين الغامق، والغبار، لكن بعد قراءة آخر قصص المجموعة سنعرف بالضبط ما الذى كان يقصده الطاهر «الشرير» فى أول المجموعة عندما وعدنا ب«نوع جديد من الشر، لم تسمعوا به من قبل» سنعرف أن هذا الكاتب التى تصلح مجمل كتاباته لأن تكون سيناريوهات أفلام صامتة «شرير حقيقى» أما جميعنا «فمجرد فالصو».