شهدت الوهابية الأصولية الانتشار السريع فى باكستان بفضل تمويل السعودية لبناء العديد من المدارس التى تملأ الفراغ بعد انهيار التعليم الحكومى. وهذه المدارس تربى فيها جيل كامل على مقت الإسلام المعتدل، والصوفية التوفيقية. كان رحمن بابا، «عندليب بيشاور»، الشاعر والموسيقى الذى عاش فى القرن 18، من الشعراء المؤثرين فى الثقافة الباكستانية. اعتزل رحمن العالم ووعد أتباعه بأنهم إذا خففوا من روابطهم بالدنيا فسوف يطهرون أرواحهم من القلق ويتجهون نحو تجربة إلهية مباشرة. وحسب قول الولى، فإن الشعائر والصيام للمتقين. كان المهم هو أن تدرك أن بوابة قلب الإنسان هى أفضل السبل للاتصال بالله بمعنى أن الجنة موجودة داخلنا، إذا نظرنا فى الاتجاه الصحيح. وعلى مدى عقود، ظل ضريح رحمن بابا عند سفح ممر خيبر تجمعا للعازفين والشعراء، وجعلت أوراده الصوفية بلغة البشتون منه الشاعر القومى للباتان. ثم، منذ 10 سنوات، أقيمت مدرسة وهابية بتمويل سعودى عند سفح الطريق المؤدى إلى الضريح. وسرعان ما أخذ تلاميذها على عاتقهم وقف ما اعتبروه ممارسات غير إسلامية. وفى زيارتى الأخيرة، تحدثت عن الوضع مع خادم الضريح، تيلا محمد. وأوضح كيف أن شباب المسلمين يأتون الآن ويشكون من أن الضريح أصبح مركزا للوثنية والخرافات. يقول تيلا، «ظلت أسرتى تغنى هنا على مدى أجيال. لكن الآن يأتى تلاميذ هذه المدرسة العربية ويثيرون المشكلات». ويضيف «إنهم يقولون لنا إن ما نفعله خطأ. وهم يطلبون من الناس الكف عن الغناء. وأحيانا يحمى النقاش، بل يصل الأمر حد تبادل اللكمات. لقد كان هذا دائما مكانا يقصده الناس طلبا لسكينة عقلهم. والآن عندما يأتون فهم لا يجدون إلا المتاعب، ولذلك توقفوا بالتدريج عن المجىء إلى هنا». ويكمن وراء العنف صراع دينى طويل يقسم العالم الإسلامى منذ قرون. وكان رحمن باب مؤمنا بحق بأهمية الموسيقى، والشعر، والرقص كطريق للوصول إلى الرب، وكوسيلة لفتح أبواب الجنة. لكن هذا الاستخدام للشعر والموسيقى فى الطقوس يمثل جانبا واحدا من جوانب الممارسة الصوفية التى أثارت حنق الإسلاميين المحدثين. فبالرغم من عدم وجود ما يمنع الموسيقى فى القرآن، ربط التراث الإسلامى دائما بين الموسيقى والرقص والانحلال، وهناك ميراث طويل من معارضة رجال الدين لهذا. وفى أتوك، التى لا تبعد كثيرا عن ضريح رحمن بابا، نجد الحقانية، أكثر المدارس تطرفا فى جنوب آسيا. وكثيرا من قادة طالبان، بمن فيهم الملا عمر، تلقوا تعليمهم فيها، وهو ما دعانى لسؤال مدير المدرسة، مولانا سامى الحق، عما سمعته عن مدفن رحمن بابا. وكان الموضوع بسيطا للغاية. قال، «الموسيقى ضد الإسلام. والأدوات الموسيقية تضلل الناس وهى آثمة. إنها ممنوعة، وهؤلاء الموسيقيون خطاة». وهذا التغير فى الاتجاهات الذى وقفت وراءه المدارس منتشر فى باكستان. وقد تضاعف عدد المدارس 27 ضعفا منذ 1947، من 245 مدرسة عند الاستقلال إلى 6870 مدرسة فى 2001. وترتب على هذا تطرف المضمون الدينى، فى أرجاء باكستان، وأصبح الإسلام الصوفى لأهل السنة البريلويين شكلا عتيقا فى شمال باكستان، خاصة فى المنطقة الحدودية الشمالية الغربية، الخاضعة لسيطرة الوهابية المتشددة والمسيسة. وفيما بعد عدت إلى الضريح وكان تيلا محمد يهتم بالمقبرة. وعندما تأكد من أن أحدا لا يسمعنا، همس، «نحن ندعو من أجل أن يعلو الحق على الباطل، وأن يقهر الخيرُ الشرَ. لكن طريقتنا سلمية. وحسبما أوضح رحمن بابا: «أنا محب وأتعامل بحب. ازرع الزهور، يصبح ما حولك حديقة. لا تزرع الشوك، لأنه سيوخز قدميك، كلنا جسد واحد، وكل من يعذب غيره، فإنما يجرح نفسه». فكرت فى هذا الحوار وأنا أكتب هذا المقال، عندما سمعت بتفجير ضريح رحمن بابا الأسبوع الماضى. فصعود الأصولية الإسلامية عادة ما يقدم من منظور سياسى صارم، لكن ما حدث فى بيشاور يعد تذكيرا بأن حقيقة الصراع الحالى أن هناك فهمين مختلفين للإسلام. فقد تغلغلت الوهابية الأصولية بسرعة إلى حد ما فى باكستان، بسبب تمويل السعوديين لإقامة الكثير من المدارس، التى ملأت الفراغ الذى خلفه تدهور تعليم الدولة. وقد ربت هذه المدارس أجيالا على كره الإسلام الصوفى المعتدل الذى ساد فى جنوب آسيا لقرون، واعتنقوا بدلا منه شكلا مستوردا من الوهابية السعودية. وتعد الصوفية حركة مقاومة إسلامية فطرية للأصولية، تضرب بجذورها عميقا فى تربة جنوب آسيا. وكان يمكن للحكومة الباكستانية أن تقوم هى بتمويل مدارس تعلم الباكستانيين احترام تراثهم الدينى، بدلا من شراء أساطيل طائرات إف 16 الأمريكية وترك التعليم للسعوديين. بدلا من هذا، تتحول باكستان، يوما بعد يوم، إلى صورة مأساوية مستنسخة من طالبان أفغانستان. Copyright: Guardian News & Media 2009