سعر الذهب اليوم الأربعاء 19 نوفمبر 2025.. عيار 18 يسجل 4701 جنيها    بعد تصريحات ترامب.. ماذا يعنى تصنيف السعودية حليف رئيسى من خارج الناتو؟    اتصال هاتفى بين وزير الخارجية ونظيره الفرنسى يتناول التطورات الإقليمية    النيابة الإدارية بالمطرية تتحرك بعد واقعة تنمر على تلميذة ولجنة عاجلة للتحقيق    أردوغان: صادراتنا السنوية بلغت في أكتوبر 270.2 مليار دولار    اعتماد تعديل مشروع شركة إعمار مصر للتنمية في المقطم    جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا تستقبل المستشار التعليمي التركي وتبحث سبل التعاون الأكاديمي    جامعة مصر للمعلوماتية تكشف عن برامج مبتكرة بالذكاء الاصطناعي في الأمن السيبراني والتعليم وعلوم البيانات    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الإيطالي الأوضاع في غزة والسودان    بيراميدز يعلن موعد المؤتمر الصحفي لفريق ريفرز يونايتد النيجيري    شوبير يكشف حقيقة تولي كولر تدريب منتخب مصر    الإسماعيلي ينفي شائعات طلب فتح القيد الاستثنائي مع الفيفا    19 نوفمبر 2025.. استقرار البورصة في المنطقة الخضراء بارتفاع هامشي    أولوية المرور تشعل مشاجرة بين قائدي سيارتين في أكتوبر    الداخلية تكشف تفاصيل مشاجرة بين قائدى سيارتين ملاكى بالجيزة    محمد حفظي: العالمية تبدأ من المحلية والفيلم الأصيل هو اللي يوصلنا للعالم    أحمد المسلماني: برنامج الشركة المتحدة دولة التلاوة تعزيز للقوة الناعمة المصرية    محمد حفظي: العالمية تبدأ من الجمهور المحلي.. والمهرجانات وسيلة وليست هدفا    بعد أزمته الصحية.. حسام حبيب لتامر حسني: ربنا يطمن كل اللي بيحبوك عليك    خالد عبدالغفار: دول منظمة D-8 تعتمد «إعلان القاهرة» لتعزيز التعاون الصحي المشترك    الصحة: مصر خالية من الخفافيش المتسببة في فيروس ماربورج    محافظ المنوفية يشهد فعاليات افتتاح المعمل الرقمي «سطر برايل الالكتروني» بمدرسة النور للمكفوفين    الطقس غدا.. ارتفاع درجات الحرارة وظاهرة خطيرة صباحاً والعظمى بالقاهرة 29    الأهلي يحصل على موافقة أمنية لحضور 30 ألف مشجع في مواجهة شبيبة القبائل    نور عبد الواحد السيد تتلقى دعوة معايشة مع نادي فاماليكاو البرتغالي    أول رد فعل من مصطفى محمد على تصريحات حسام حسن    إزالة تعديات وإسترداد أراضي أملاك دولة بمساحة 5 قيراط و12 سهما فى الأقصر    انطلاق فعاليات المؤتمر السنوي العاشر لأدب الطفل تحت عنوان "روايات النشء واليافعين" بدار الكتب    روسيا: أوكرانيا تستخدم صواريخ أتاكمز الأمريكية طويلة المدى مجددا    شقيق إبستين: كان لدى جيفري معلومات قذرة عن ترامب    وصفات طبيعية لعلاج آلام البطن للأطفال، حلول آمنة وفعّالة من البيت    الإحصاء: معدل الزيادة الطبيعية في قارة إفريقيا بلغ 2.3% عام 2024    قصور ومكتبات الأقصر تحتفل بافتتاح المتحف المصرى الكبير.. صور    رئيس الأركان يعود إلى أرض الوطن عقب مشاركته بمعرض دبى الدولى للطيران 2025    المصرية لدعم اللاجئين: وجود ما يزيد على مليون لاجئ وطالب لجوء مسجّلين في مصر حتى منتصف عام 2025    جامعة قناة السويس تدعم طالباتها المشاركات في أولمبياد الفتاة الجامعية    موعد مباراة بيراميدز القادمة.. والقنوات الناقلة    وزير الري يلتقي عددا من المسؤولين الفرنسيين وممثلي الشركات على هامش مؤتمر "طموح إفريقيا"    السياحة العالمية تستعد لانتعاشة تاريخية: 2.1 تريليون دولار إيرادات متوقعة في 2025    نجاح كبير لمعرض رمسيس وذهب الفراعنة فى طوكيو وتزايد مطالب المد    تعرف على أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    مقتل 6 عناصر شديدى الخطورة وضبط مخدرات ب105 ملايين جنيه فى ضربة أمنية    مصرع 6 عناصر شديدة الخطورة وضبط مخدرات ب105 ملايين جنيه | صور    حزب الجبهة: متابعة الرئيس للانتخابات تعكس حرص الدولة على الشفافية    إقبال واسع على قافلة جامعة قنا الطبية بالوحدة الصحية بسفاجا    بريطانيا تطلق استراتيجية جديدة لصحة الرجال ومواجهة الانتحار والإدمان    صيانة عاجلة لقضبان السكة الحديد بشبرا الخيمة بعد تداول فيديوهات تُظهر تلفًا    بعد غد.. انطلاق تصويت المصريين بالخارج في المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب    ندوات تدريبية لتصحيح المفاهيم وحل المشكلات السلوكية للطلاب بمدارس سيناء    أبناء القبائل: دعم كامل لقواتنا المسلحة    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    شهر جمادي الثاني وسر تسميته بهذا الاسم.. تعرف عليه    اليوم، حفل جوائز الكاف 2025 ومفاجأة عن ضيوف الشرف    ماذا قالت إلهام شاهين لصناع فيلم «بنات الباشا» بعد عرضه بمهرجان القاهرة السينمائي؟    حبس المتهمين في واقعة إصابة طبيب بطلق ناري في قنا    العدد يصل إلى 39.. تعرف على المتأهلين إلى كأس العالم 2026 وموعد القرعة    داعية: حديث "اغتنم خمسًا قبل خمس" رسالة ربانية لإدارة العمر والوقت(فيديو)    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 18نوفمبر 2025 فى المنيا....اعرف صلاتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وصف مصر(3) تسخير الدين.. الدولة والأزهر ورجال الدين.. فى مواجهة الليبرالية

دون توظيف الدين لايكتمل الحديث عن السياسة، وفى هذه الحلقة من «وصف مصر سياسيًا» نرسم الضلع الثالث لمثلث (السلطة - المال - الدين) كما تناولته الباحثة والدبلوماسية الفرنسية صوفى بومييه فى كتابها «مصر - الوجه الآخر»، والذى ترجمه بركاكة مفرطة الكاتب والمترجم اللبنانى ميشال كرم .
وكنا فى الحلقتين السابقتين قد استعرضنا رؤية بومييه خبيرة شؤون الشرق الأوسط، ملف توريث السلطة فى مصر، ودور رجال الأعمال الذى تجاوز اللعب فى حقل الاقتصاد إلى معامل اتخاذ القرارات ليمسكوا بمفاتيح الحكم من خلال ظاهرة «زواج المال والسياسة»،
وفى هذه الحلقة نركز على العلاقة بين «السلطة والدين» ونقتطف من كتاب بومييه صور بعض شيوخ الأزهر كمؤسسة رسمية للإسلام فى مصر ونركز على الدكتور محمد سيد طنطاوى، كما نتعرف على رؤية الخبيرة الفرنسية للدعاة الجدد وخاصة عمرو خالد، من دون أن نغفل تحليلها لمسارات تطور العلاقة بين الدولة وعلماء الدين وملامح توظيف هذه العلاقة لخدمة الأهداف السياسية للسلطة.
كما يشير «الفصل السابع» فى ميثاق الأمم المتحدة إلى القوة، يبدو الفصل السابع فى كتاب بومييه مثل ضربة مطرقة باتجاه تعامل السلطة المصرية الوظيفى مع الدين وعلماء الدين، فالفصل يحمل عنوانا رئيسيا مثيرا للجدل هو «تسخير الدين» وتحته عدة عناوين فرعية منها على سبيل المثال: الأزهر بين الخضوع والتمرد، والوجوه المتعددة لاستخدام الإسلام الرسمى، والمزايدة الدينية، و«الرقابة هى فى الجو» أو بترجمتنا نحن «الرقابة هى المناخ السائد»، وتجاوزات سلطة دينية قويمة، ورهانات المسألة القبطية.
ويتضمن هذا الفصل إشارة مركزية إلى «المصرى اليوم» والقضية التى فجرتها عن رأى وزير الثقافة فاروق حسنى فى حجاب البنات، كما يتضمن استعراضًا لقضايا عدة تتعلق بما أسمته الباحثة «ظاهرة التسلط المتزايد لرجال الدين على المجتمع»
ومن القضايا التى أشارت إليها بوضوح «تكفير الدكتور نصر أبوزيد»، ومطالبة نواب الإخوان بمنع فيلم «عمارة يعقوبيان»، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ أكتوبر 1994 و«قانون الحسبة»، والارتباك الواضح فى المجتمع بسبب الخلط بين الدين والواقع أو ما أسمته بومييه «اختلاط الروحى بالزمنى»، والوجوه المتعددة لتسخير الإسلام سياسيا كما حدث فى انتخابات 2005 عندما تم توجيه شيوخ المساجد لدعوة الناس إلى التصويت فى انتخابات الرئاسة، فى الوقت الذى صرح فيه وزير الأوقاف حمدى زقزوق والمفتى على جمعة بأن «المشاركة فى الاقتراع واجب دينى»،
وسجلت بومييه تذبذب دور الأزهر برغم أنها قالت إنه «المرجع الدينى الأقل ترويضا بين المراجع الإسلامية الثلاثة مع الأوقاف والإفتاء»، واستندت فى ذلك إلى استمرار الأزهر كنقطة تجمع شعبية وإسلامية، «ويكفى أن يرى المرء حشود الشرطة بالعربات والجنود تحيط بالمسجد كل جمعة تحسبا للمظاهرات التى تنطلق من أجل مواقف وطنية أو قومية» وتوضح بومييه أن التأثير الأكبر للأزهر يأتى من كونه مؤسسة تاريخية وتعليمية ضخمة تضم 38 كلية و7300 مدرسة ويدرس به نحو 12 ألف طالب من أنحاء العالم الإسلامى غير المصريين.
وفيما يخص فترة الرئيس مبارك قالت بومييه تحت عنوان «المزايدة الدينية» إن مبارك مثل سلفه السادات يعزف لحنًا من وصلتين تجاه التيارات الإسلامية السلفية، فقد حاول صد الأصوليين الراديكاليين عندما أدرك خطرهم عقب اغتيال السادات، وأدرك أن الاعتقالات ووضع أماكن العبادة تحت المراقبة لم تفلح وانتهت باغتيال السادات، فحاول دعم التيارات المعتدلة وفتح لها مجالات التعليم والتربية ووسائل الإعلام وتوسع فى البرامج الدينية فى التليفزيون الحكومى، لكنه فى العام 1985 عاد فأصدر مرسوما لوضع كل المساجد تحت الإشراف المباشر لوزارة الأوقاف وأخضع خطب الجمعة لموافقة مسبقة،
وبعد حوالى 20 سنة من الحكم (عام 2002) تمكنت الدولة بالفعل من وضع سيطرتها الكاملة على أكثر من 52 ألف مسجد من بين 70 ألف مسجد فى مصر، بالإضافة إلى السيطرة غير المباشرة على المساجد الباقية (18 ألف مسجد خاص) ، وآلاف الزوايا الصغيرة التى انتشرت تحت البيوت والعمارات لأن أصحابها كما تقول الباحثة يكسبون من وراء ذلك جاها وإعفاء من الضريبة من عهد السادات.
يبدأ الفصل السابع من كتاب بومييه ببديهية تاريخية توضح من خلالها للقارئ الغربى أن أغلبية مصر تعتنق الإسلام على المذهب السنى، وأنها على عكس بلدان عربية أخرى لا يتمتع نظامها بشرعية دينية مستمدة من النسب لآل البيت، ولا من كون نخبة الحكام رجال دين كما فى إيران مثلاً، وبالتالى كان لابد أن يحصل القائمون على الحكم فى مصر على سند ومصداقية لا غنى عنهما من السلطات الدينية، وذلك لأجل تعزيز الهيمنة على الشعب وتدارك ظهور أى معارضة دينية، والأهم تبرير بقائهم فى سدة الحكم.
واستعرضت الكاتبة علاقة السياسة بالدين منذ العصر العثمانى، وأشارت إلى فصل وظيفة مفتى مصر عن منصب شيخ الجامع الأزهر حسب طلب البريطانيين فى عهد الخديو عباس، واعتبرت أن ذلك الفصل أدى إلى وجود «سلطتين روحيتين» الأولى تختص بالفتاوى والثانية اشتبكت أكثر مع السياسة وكان لها علاقات أكثر تذبذبا مع السلطة تبعا لكل شيخ وكل مرحلة.
وتقول بومييه إن محمد على هو أول حاكم أخضع الأزهر لسلطته ومنح نفسه حق تعيين شيخه، وبعد ثورة يوليو أصبح تعيين الإمام الأكبر حقًا لرئيس الجمهورية، لكن بعد هزيمة 67 اختلت لعبة التوازن بين السلطة والمؤسسة الدينية، ودخل عدد كبير من العلماء بقيادة الشيخ عبد الحليم محمود فى المدار السعودى وتأثروا بالفكر الوهابى، ولقى هذا التأثير تشجيعا بفضل ثلاثة،
الأول: جماعات الإخوان الهاربة إلى الخليج من قمع عبد الناصر، والثانى: سياسة التقارب مع الرياض فى عصر السادات، أما الثالث فيرجع إلى تزايد أعداد العاملين المصريين وتأثرهم بمظاهر التشدد الوهابى، هذا بالإضافة إلى إنشاء كلية الدعوة عام 1978 واتساع الأزهر لآلاف الطلاب الفقراء والحاصلين على مجاميع أقل من المجاميع التى تسمح بها الجامعات المدنية.
وقالت بومييه إن استقلال الأزهر نسبيا عن السلطة أفرز عددا من وجوه الإسلام الأصولى مثل الطالب الأردنى سلام رحال (المقصود سالم رحال) أحد مؤسسى الجهاد، والشيخ عمر عبد الرحمن زعيم الجماعة الإسلامية، لكن مع ذلك تم استهداف المؤسسة أحيانا من جانب المتشددين بوصفها امتدادا للسلطة كما حدث فى اغتيال الشيخ الذهبى وزير الأوقاف وأحد كبار علماء الأزهر عام 1977.
وفى عام 1979 هب مفتى مصر الشيخ جاد الحق إلى نجدة الرئيس السادات وصرح بأن معاهدة كامب ديفيد منسجمة مع الإسلام، كانت الآراء منقسمة فى صفوف الأزهر: وافقت المشيخة برعاية الشيخ بايسار (المقصود شيخ الأزهر عبد الرحمن بيصار)، لكن قسما من العلماء رفضوا الموافقة وأدانوا تلك المعاهدة.
وحرصا منهم على الدفع باتجاه إعادة أسلمة المجتمع، باشر الأزهريون تقنين الشريعة تسهيلا لتطبيقها، وحازت نتائج هذا العمل قبولا فى حفل قانون الأحوال الشخصية، لكن تم تجاهل مشروع الدستور الإسلامى الذى نشر سنة 1979 وكان شديد التأثر بفكر المودودى، واقتصر الأمر على اعتبار الشريعة مرجعا للدستور سنة 1980.
فى تلك الفترة تم تعيين وزير الأوقاف مجددا من بين صفوف الأزهريين، بينما كان عبد الناصر قد عمل جاهدا للفصل بين المؤسستين بغية شلهما وإذا كان السادات يراعى الأزهر، فذلك لأنه، أسوة بسلفه، كان يريد تسخيره، لكن المقصود هذه المرة - يا لسخرية القدر – كان اليسار الناصرى، الذى يعتبره السادات عدوه اللدود .
ومع ذلك، فإنه فى سنة 1976 بسط إشراف الدولة على الجمعيات الصوفية، كاستراتيجية التفافية نظرا إلى الروابط التى تجمع بين جماعة العلماء وهذه الجمعيات، وازدادت المجابهة علنية فى يونيو 1979، حين جرت انتفاضة فى صفوف العلماء بمناسبة إقرار «قانون جيهان السادات».
لكى يستعيد حسنى مبارك الإمساك بزمام المؤسسة عقب وصوله الحكم، عين الشيخ جاد الحق رئيسا لها سنة 1982، وكان يمثل التيار السكونى إزاء العلماء ذوى النزعة الأصولية، وكان تعيين جاد الحق مكافأة عن خدماته للنظام حين كان فى منصبه السابق (المفتى)،
وهكذا يتضح مجددًا وجود استراتيجيًة درجت عليها السلطات السياسية قوامها التلاعب بمرجعيات الإسلام المصرى الثلاث الكبرى «شيخ الأزهر، المفتى الأكبر، وزير الأوقاف) وذلك عن طريق تشجيع الانتقال من واحدة إلى أخرى والرهان على بعضها دون الأخرى إلا أن تعيين الشيخ جاد الحق لم يكن كافيا لأجل «ترويض» مجموع أهل الأزهر، فبدأ فى النصف الثانى من الثمانيات انشقاق بعض العلماء، فى الوقت الذى ظهرت فيه بوادر مواجهة مفتوحة بين الحكم والإسلام الأصولى وفى فبراير 1986،
كان عصيان المدعوين للخدمة فى الشرطة مناسبة اغتنمها العلماء «المتمردون» لمقايضة وساطتهم بمزيد من الاستقلال، كما أن الشيخ جاد الحق نفسه لم يكن الحليف الثابت الذى كان يتوقعه الحكم وعندما توفى سنة 1996، أسفرت لعبة الانتقال بين الكراسى إياها، التى أدت إلى تعيينه، إلى تعيين الشيخ محمد سيد طنطاوى (1996) المفتى الأكبر السابق مكانه.
سجل تعيين الشيخ طنطاوى محاولة جديدة من الدولة لاستعادة الأزهر، وبدأ الرئيس الجديد عمليا بإلغاء المكتب الفنى الذى كان سلفه يستعين به لعرقلة تطبيق المراسيم التى لا تناسبه وعمل أيضا على إعادة التوازن داخل مجمع البحوث الإسلامة، على حسب المحافظين والتيار الموالى للسعودية.
وفى يناير 1996 جرى تعديل وزارى عين بموجبه الشيخ الأزهرى أيضا حمدى زكزوك (المقصود زقزوق) وزيرا للأوقاف، ولم يتوان مع ذلك، عن قضم صلاحيات هذه المؤسسة فوضع لأجل الوصول إلى رتبة خطيب نظاما أثار احتجاجا شديدا من جانب العلماء
إن الأزهر، إذ يهاجم بعض المثقفين العلمانيين الذين يزعم أنهم أساؤوا إلى الإسلام إنما هو يزكى بصورة ضمنية أعمال العنف التى يمكن أن يتعرض لها هؤلاء.
هذا ما جرى للكاتب فرج فودة الذى قوبل أحد مؤلفاته الداعية إلى قيام دولة علمانية وعنوانه « قبل السكوت» (المقصود كتاب «قبل السقوط») باستنكار شديد فى مجلة الأزهر سنة 1986 أن مهد السبيل إلى اغتياله سنة 1992 فالنظام لا يحرك ساكنه حرصا منه على الاحتفاظ بكفالة هيئة العلماء التى لا تستطيع المجازفة بمهاجمته صراحة، وبما أنه يشعر بالطمأنينة، فقد اعتاد على تكليف أجهزة أمن الدولة بأن تطلب سحب كتاب من التداول، متى كان لا يوجه أوامره مباشرة إلى الناشرين المرتبطين بالحكم.
وفى يونيو 2004، قام الحكم باستدارة جديدة على نفسه فسمح لمجمع البحوث الإسلامية مجدددا بأن يمنع كل عمل ثقافى يتنافى مع الأخلاق ومع العقيدة، كما أنه باسم الحسبة، التى تخول لكل مسلم مراجعة القضاء متى لاح له أن المصالح الدينية للجماعة فى خطر، يحق لكل فرد أن يقدم عملاً فكريًا ما، مع ما يمكن أن نتصور من تجاوزات.
ويعطينا الباحث الفرنسى ريشار جاكمون مفاتيح هذه الاستراتيجية إذ يقول: رأينا الحكم يراهن حينا على رجال الدين ضد الليبراليين، وحينا يفعل العكس، تبعا لمصالحه الخاصة، إن هذه اللعبة المزدوجة تسهم فى احتدام التوترات بين المعسكرين، فضلا عن أنها تسمح له بإعادة ترسيخ وصايته على الطرفين عن طريق فرض قواعد للعبة أكثر فأكثر قمعية عند الاقتضاء.
عمرو خالد.. أداء تليفزيونى وأخلاق طبقية
تعتبر مصر أحد مصادر الظاهرة المعروفة باسم «الإسلام العصرى»، والتى وصفها عالم الاجتماع باتريك هاينى قائلا إن هذا التيار الذى يحمل لواءه دعاة روحيون جذابون، اتخذوا هذه الصفة من تلقاء أنفسهم أحيانا، قد ظهر فى النصف الثانى من التسعينيات، يذكر بالمبشرين الإنجيليين التليفزيونيين، الشىء الأساسى فى هذه الدعوة القريبة من الأخلاق البروتستانتية من بعض الوجوه، هو المصالحة بين الممارسة الدينية والنجاح المجتمعى، الذى يعتبر علامة اصطفاء.
وأشهر وجوه هذه الحركة هو بلا مراء عمرو خالد الذى تعشقه فئة الشباب المدلل، وكانت قدرة عمرو خالد على تعبئة الجماهير سببا لإقصائه عن المسجد الذى كان يخطب فيه، وحتى عن البلاد، لكنه حافظ على جمهوره رغم ذلك، وربما زاد من شعبيته، عن طريق بث برامج تليفزيونية واسعة الاستماع، وشرائط كاسيت صوت وفيديو أيضا واسعة الانتشار، وسمح له بالعودة إلى مصر سنة 2006
لقد استعان عمرو خالد، بعيدًا عن تعويذات الأئمة الجذريين وعن المواعظ العقيدية القطعية، بخطاب متفاعل هادئ ومتفهم، يدع لكل فرد حق تحديد مستوى الممارسة الدينية تبعا لقناعاته وقدراته، ويرفع من شأن الفكرة القائلة بأن الله إله محبة وميال إلى الغفران، ويعتمد الواعظ الشاب المولود سنة 1967 طريقة «تليفزيون الواقع»، والأداء التليفزيونى، المصحوب بشحنة انفعالية قوية.
إنه يرتدى بدلة أوروبية الطراز، ويتخذ موقفًا متساهلاً تجاه الغرب فهو قد عارض شيخًا آخر يعتبر من نجوم الدعاة، هو الشيخ يوسف القرضاوى فى قضية الرسومات الكاريكاتورية وينط عمر خالد أيضا فى الحقل الاجتماعى وحقل العمل الخيرى، بمناسبة حملة ضد التدخين أو لجمع ملابس من أجل الفقراء والمحتاجين، إن دعوته وعظية، وأخلاقه طبقية ترى فى عدم المساواة إرادة ربانية.
وقد شجع انتشار وسائل الإعلام الجديدة على نجاح الدعاة الجدد، المتمرسين بتقنيات الاتصال العصرية: ومنهم خالد الجندى، الحبيب صافى (ربما المقصود الحبيب الجفرى)، صفوت حجازى، وكثيرون غيرهم، ففى الوقت الذى تترسخ فيه موجات جماعية جديدة باسم « الدين الصحيح» تنمو ممارسات ليبرالية أكثر فردية للإسلام، حيث كل شخص حر فى اختيار مرشده من بين عدد من المرشدين بات كبيرًا جدًا .
وهناك مواقع إسلامية مثل «إسلاميون. كوم» تعرض برامج خطب لأئمة وخطباء من العالم بأسره، ما يشكل بدائل للخطباء والمرشدين التقليديين الذين يعتبر أن زمانهم قد ولى أو يشتبه بتواطئهم مع النظام، ويجد نجاح الدعاة الجديد تفسيرًا له أيضًا فى اعتماد لغة منمطة واضحة، يفهمها الجميع، وتختلف عن الخطاب العويص الذى يعتمده التقليديون، ويرد هؤلاء بهجوم مضاد متهمين منافسيهم بأنهم هواة، ومنددين بعدم شرعيتهم وعدم كفاءتهم الدينية.
يمكن لهذه العلاقة مع الإسلام أن تهيمن على الحياة اليومية، فإن مواقع الفتوى على الإنترنت تتكاثر، الطلب لا حدود له، ويمكن أن يتناول أصغر التفاصيل ويتحول بعض هذه الخدمات إلى صناعة حقيقية، كما هو حال «هاتف الفتوى الإسلامى» الذى أنشأه ابن أمين الجامعة العربية السابق شريف عبد المجيد، الذى «عاد» هو شخصيا إلى الدين، والذى يقدم فتاوى باهظة التكلفة صادرة عن نحو عشرين شيخا من شيوخ الأزهر،
ويظهر تغلغل القيم الدينية فى الحياة اليومية أيضا من خلال القراءة الدينية لأحداث سياسية مثلما قالوا إن اعتداءات11 سبتمبر «عقاب إلهى على السياسة الأمريكية»، وكذلك يتم تفسير مختلف الكوارث التى تصيب البلاد مثل غرق عبارة، حوادث قطارات، انهيارات أبنية...إلخ، ويعتبرونها نتيجة لفساد المسؤولين الكفرة.
محمد سيد طنطاوى.. وجه الإسلام الر سمى
تعلمت الدولة الدرس من لعبة تغير المواقف، خاصة بعد أن اكتشفت أن الشيخ جاد الحق لم يستمر كحليف دائم للحكم، حيث تغيرت مواقفه بعدما تولى مشيخة الأزهر، وعندما حل الشيخ محمد سيد طنطاوى مكانه حاولت الدولة من جديد استعادة الأزهر كداعم لسياساتها، وأخذ الشيخ الجديد خطوات واضحة فى ذلك، حيث بدأ بإلغاء المكتب الفنى الذى كان الشيخ جاد الحق، يستعين به عندما يُريد تعويق قرارات أو تعليمات حكومية لا تتلاءم مع رأيه، ثم بدأ يُعيد ترتيب مجمع البحوث الإسلامية من الداخل ليخلق توازنات لا تغلب تياراً على الآخر،
ومنذ السنوات الأولى بدا واضحاً أن طنطاوى هو «شيخ التوازنات»، ما أدى إلى توظيفه أحياناً كدبلوماسى كما حدث فى شتاء 2003 - 2004 عقب نشر القانون الفرنسى المتعلق بالرموز الدينية فى المدارس، والمعروف ب«قانون الحجاب الإسلامى»، وكان المطلوب من الشيخ طنطاوى تهدئة ردود الفعل الإسلامية التى أثارها القرار الفرنسى، حرصاً على العلاقات الثنائية، وقال الإمام الأكبر حينذاك «لفرنسا الحق أن تمنع الحجاب فى مدارسها (...) ولا يحق لأحد الاعتراض على ذلك، لأنها ليست بلداً مسلماً، وليس أمام المسلمات المقيمات فى فرنسا إلا الامتثال لقوانين البلد باعتبار ذلك ضرورة».
هكذا تبدو توازنات الشيخ طنطاوى، وهكذا أبعدته مواقفه هذه بشكل خطير عن الرأى العام، خاصة عن آراء طلبة الأزهر الستة آلاف الذين استنكروا القانون الفرنسى بالاعتراض والمظاهرات، لم تمنعها محاولات الشيخ «التوفيقية» للتذكير فى تصريحاته بأن ارتداء الحجاب «فريضة»، وهذا لأن الناس تفهم مثل هذه التصريحات بوصفها تعبيراً عن «تحالف سياسى» وليس باعتبارها مستمدة حقاً من الالتزام بالقيم الدينية والأخلاقية، وفى مثل هذا التصنيف يمكن قراءة فتوى طنطاوى التى دعت إلى «الجهاد ضد الغازى الأمريكى» مع بداية الحرب ضد العراق فى 2003، والتى لم يصدقها الناس، لأنها كانت مجرد توازن عابر.
البابا شنودة .. تساهل مع النظام
مواقفه لا تحظى بالإجماع فى الحقل السياسى، فقد عاش مرحلة من التوتر مع الحكم فى بدايات عصر مبارك، أدت به إلى مايشبه حالة الإقامة الجبرية والمراقبة فى الفترة من 1981-1985، لكن البابا شنودة لعب أخيرا لصالح الشرعية إلى حد دعوته للأقباط بالتصويت لمصلحة ولاية خامسة للرئيس مبارك.
وفيما يخص الملف الإسرائيلى - الفلسطينى يبدو شنودة شديد التصلب إلى حد منع الأقباط من الحج إلى القدس ما دامت المدينة المقدسة تحت الاحتلال الإسرائيلى، هذا التدخل من جانب سلطة روحية فى الحق السياسى لا يرضى قسما من الأقباط، وقد أدت هذه التوترات وغيرها إلى حدوث انشقاق فى يوليو 2006 تزعمه البابا المعارض مكسيموس الذى يحلل الطلاق ويبيح الحج إلى القدس.
وبشكل عام فإن وضع الأقباط أصبح عسيرا فى السنوات الأخيرة من حيث القيود الاجتماعية، والتمييز، والخوف من تنامى الأصولية الإسلامية، والصعوبات الاقتصادية.. وهذه الأوضاع تغذى هجرة كثيفة إلى الغرب، إذ غادر البلاد خلال الثلاثين سنة الأخيرة، أكثر من مليونى قبطى، ما أسهم فى تضخيم الجاليات القبطية فى كل من الولايات المتحدة وأستراليا وكندا، وأغلبية هؤلاء المهاجرين من الطبقة الوسطى وخريجى الجامعات العليا، لكن الهجرة بدأت فى السنوات الأخيرة تشمل أناسا من أوساط أقل فى مستواها العلمى والاجتماعى.
«مصر الوجه الآخر»
تأليف: صوفى بومييه
ترجمة: ميشال كرم
غلاف: فارس غصوب
الناشر: دار الفارابى 2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.