من المشروع والمطلوب أن تبحث القوة المتجانسة عن مصالحها، وعما يحقق أمنها القومى وسلامتها، وعما يعزز ترقياتها المادية والروحية، وها هى إسرائيل على جبروتها وبطشها تزيد من تحالفها مع الاتحاد الأوروبى وأمريكا لتجريد أهل فلسطين من كل إمكانات الدفاع المشروع عن النفس، فيما يسمى إغلاق منافذ تسريب السلاح إلى غزة المقهورة والمغلوبة على أمرها. وها هى إيران تعزز أمنها القومى، حيث أصبحت شريكا فى أمن العراق، وشريكا فى أمن لبنان، وحليفا مع سوريا، وشريكا فى أمر المقاومة الفلسطينية، ولا يستبعد أن يؤدى ذلك لشراكة إيرانية أمريكية، تمهيدا لترتيب أمر المنطقة بما يتماشى مع المصلحة الأمريكية الإسرائيلية، ولا يتجاهل مطلوبات إيران. ولا أحد يلوم إيران فى حرصها على مصالحها وأمنها القومى، إذ إن من المشروع لكل دولة أن تتابع ترقياتها فى تنمية أوضاع أمنها القومى. وكذلك فإن سوريا تحصد عائدا من تحالفها مع إيران، حيث حققت مصالحة مع تركيا، وفى الطريق حوار أمريكى سورى، قد يؤدى إلى عودة مشروطة للجولان فى إطار صفقة سلام مع إسرائيل. والبحث عن الأمن القومى والمصالحة والسلام هو الذى جعل سوريا تبحث عن حليف خارج المنطقة العربية. ولم يكن التحالف مع إيران نشوزا أو مجرد ترف ولكن حاجة من حاجيات الأمن القومى، وكذلك أمر المقاومة الفلسطينية فى رحلتها للتشبث بالبقاء لجأت للخيارات الصعبة فى عالم ليس فيه مكان لأصحاب الخيارات السهلة. وفى إطار البحث والسعى لتعزيز المصالح والأمن القومى الرامى والمصير المشترك لمجتمع وادى النيل ودولتى وادى النيل، ماذا عن مصر والسودان، بمنظور المتغيرات وبمنظور قهر الجغرافيا والتاريخ وبمنظور الحاضر والمستقبل. تشكل مصر والسودان، محور القوة الأساسى فى المنطقة الأفريقية والعربية والشرق أوسطية، تكتلا سكانىا قوامه 125 مليونا من البشر، فيه كل مقومات القوة الإقليمية الفاعلة من عبقرية الموقع إلى وفرة الموارد إلى قوة الثقافة، كما أن هذه القوة مقبولة فى منطقتها. وقد قلت لسفير مصرى سابق بالسودان:ما الذى جعل ماليزيا تعبر السماء الآسيوية وتهبط فى السودان وتشارك فى مشروع استخراج نفطه، حتى استطاعت الشركات الماليزية، أن تعوض كل ما استثمرته السودان فى بحر سنوات أربع وتحقق مكاسب متوسطها أربعمائة مليون دولار سنويا، ألم تكن مصر أولى بذلك؟! وقلت لمحدثي: يدخل يوميا عبر حدود السودان المفتوحة فى المتوسط يوميا ألف أفريقى من إثيوبيا وإريتريا وتشاد وأوغندا، ويصبحون على مرور الأيام سودانيين، وبهدوء، ألم يكن أهل مصر أولى بذلك، واليوم فى السودان قرابة سبعة ملايين من البشر من أهل هذه البلاد أصبحوا سودانيين عمروا أرض السودان البوار شرقا وغربا وجنوبا. ثم إن هذا السودان يمثل معبرا للسوق الأفريقية، وفى السوق الأفريقية يرقد مستقبل المنتج المصرى السودانى. حيث لا أتوقع أن تنافس الصناعة المصرية فى أوروبا أو آسيا أو أمريكا، ولا تحتاج عبر السودان وسوقه المفتوحة لاتفاقية كويز، ولكنها ستجد سوقا مفتوحة تمتد من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسى. ويقيم حوالى ثلاثمائة مليون من البشر فى إثيوبيا وحده 80 مليونا من البشر، وفى زائير 60 مليونا من البشر، ونيجيريا 130 مليونا من البشر، دعك من بقية أقطار الحزام السودانى. ومصادر إنتاج الكهرباء لمصر وسودان المستقبل، أو قل لشعوب حوض النيل، إنما هى إثيوبيا والكونغو وكذلك خزانات المياه العذبة لوديان السودان الشاسعة، ونتحدث عن مائتى مليون فدان من الأراضى التى ينقصها الاستصلاح. ولو أن مصر قادت معركة الاتحاد الأفريقى لأصبح سلطة حقيقية، وليس مجرد شعار أو تهويمة مستنبتة فى فراغ على غرار استنبات البذور فى الهواء. انتبهت مصر إلى أنها بدون السودان بدون فضاء وبدون أمن قومى، وحينما ضرب الطيران المصرى فى 1967 كان السودان أرض الملجأ والملاذ للطيران المصرى العسكرى والمدنى، وحينما طفحت حرب دارفور انتبه الأمن المصرى إلى إفرازاتها حينما تم اختطاف السواح؛ لأن تواصل دارفور لم ينقطع عن مصر أصلا بل تواصل دارفور فى التاريخ أكثر من تواصلها مع شمال السودان، وربما لا يعرف الكثيرون أن معظم تجارة مصر من الجمال ولحومها تأتيها من دارفور فى رحلة تمتد أربعين يوما على ظهور الجمال من أسواق دارفور إلى أسواق القاهرة وأسوان. قليل من المصريين يعرفون أن القبائل المشتركة، لا تزال عاملة ومتنقلة بين السودان ومصر وبعضها دون أوراق ثبوتية فى منطقتى العبايدة والبشاريين وغيرهما، وأن بحيرة النوبة البشرية هى أصل الحضارة فى وادى النيل، والسودانى فى مصر يتحرك بإحساس أنه مواطن مصرى حتى وإن لم يملك حق الانتخاب والتصويت، ولعل أكبر قوة سياحية فى مصر هى القوة السودانية التى لم تنقطع عن مصر ساءت علاقات النظم أو تقاربت. ضاع الأمن القومى السودانى يوم أن بعدت عنه مصر وأصبح معروضا كالسلعة فى نيروبى وأبوجا وأسمرا، بينما القاهرة التى بنى حكامها الخرطوم ينظرون من بعيد. ضعف التواصل المصرى السودانى حينما بات الأستاذ الجامعى المصرى بعيدا عن المؤسسة الجامعية وما عاد الطالب السودانى يتواصل مع أساتذة، مثل: محمد أبو زهرة، وبنت الشاطئ، ومحمد عوض، وشاكر، وعبد المجيد عابدين، وطلبة عويضة، كما أن كثيرا من زعامات مصر تكامل وعيها بالسودان بدءا بعبد الناصر ومحمد نجيب والسادات، كما أن أكبر شوارع مصر لا تزال تحمل أسماء السودان والميرغنى، والمطلوب تحويل هذه المسميات إلى مسارات للنهضة السودانية المصرية. وتحتاج أفريقيا للمعلم المصرى، من قبل عام 1991 كان فى الصومال وحدها ستمائة معلم مصرى، وفى السودان ضعف ذلك العدد، واليوم فإن هناك إقبالا على التعاطى مع الثقافة العربية الإسلامية فى كل منطقة حوض النيل وتشاد وجنوب السودان وأفريقيا الفرانكفونية. وكثير من الدول يمكنها المساهمة فى دفع رواتب وحوافز المعلم المصرى إن تم التنسيق ومهدت التربة، كما أن كثيرا من الدول الخليجية والجامعة العربية يمكن أن تساهم فى تحمل أعباء توظيف الخبرة العربية وأساسها مصر فى المنطقة الأفريقية، وذلك لا يحتاج إلا الإرادة وقليلا من التنظيم. وللأسف فإن غياب مصر تملؤه إسرائيل وأطراف أخرى لا تكن ودا لمصر.