تفتح على الحياة فوجد نفسه مغروسا فى طين مصر الأسود على ضفاف النيل بأعالى الصعيد، فقد كان أحد أعواد الغاب الذى يكثر نموه فى تجمعات كثيفة على ضفتى النهر.. لكنه كان أجمل من بقية أعواد الغاب المحيطة به.. كان عوده طويلا مفتولا وعقلاته رشيقة متناسقة. ولقد أمضى فى البداية حوالى ثلاثة أشهر لينا أخضر اللون، ثم سرعان ما لفحته شمس صعيد مصر الحارقة، فبدأ عوده يقوى ويصفر لونه، فازداد جمالا بعد أن استبدل بليونته الخضراء تلك الصلابة الصفراء ذات اللمعة الملساء. كان موضع فخر وإعجاب الجميع، كانت الطيور البرية تعود أدراجها لتلقى نظرة ثانية على عوده الأملس اللامع قبل أن تستأنف رحلتها الطويلة فى موسم الهجرة للشمال.. وكانت الحيوانات المائية والأسماك تسبح بالقرب منه أو تقذف بنفسها خارج الماء لتستقر عند قدميه حتى تتمكن من النظر مليا إلى عوده الفارع قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. لكنه لم يكن يعير ذلك كله اهتماما، فقد كان يداخله يقين قوى بأنه خلق لحياة أخرى، غير تلك الحياة الريفية المتخلفة التى وجد نفسه فيها. كان يتطلع للذهاب إلى القاهرة مثل أقاربه متيسرى الحال الذين يطلق عليهم اسم الغاب الفارسى، والذين يتم تربيتهم فى مزارع خاصة وبعناية فائقة ليرسلوا بعد ذلك إلى المدينة، حيث تصنع منهم أدوات صيد الأسماك.. أو مثل أقاربه الآخرين ذوى الأعواد السميكة الذين يطلق عليهم اسم «البامبو»، والذين تصنع منهم أثاثات المنازل وأدوات الديكور. غير أن طموحاته هو كانت تفوق كل ذلك.. فهو لم يكن ليقبل أن يتحول إلى عود للصيد يتدلى منه خيط من النايلون فى الماء، وأن يظل عوده يتقوس ما بين جذب إحدى الأسماك البكماء وقبضتى يدى رجل عجوز يرتدى قبعة بيضاء ويجلس على شاطئ بالإسكندرية. ولم يكن لقبل أن يتم طيه وليه ليتحول إلى كرسى يريح عليه أحد الآدميين الجهلاء مؤخرته. كان يرفض هذا وذاك بمثل ما كان يرفض وقفته الحالية فى شمس الصيف الحارقة وفى أمطار ورياح الشتاء العاتية. لا، ليس هذا ما خلق له هذا العود الجميل من الغاب! كان يعلم فى قرارة نفسه أن أحد أمهر صانعى الآلات الموسيقية فى القاهرة سيتولاه فى يوم قريب برعايته ليصنع منه نايا متفردا وسط بقية نايات البلاد تفرده هو وسط بقية أعواد الغاب المحيطة به، نايا لم ير أحد له مثيلا، نايا يملأ الأفق بألحان شجية سيسمعها الناس لأول مرة، نايا يستلقى داخل علبة سوداء مستطيلة كعلب الآلات الموسيقية المكسوة من الداخل بالقطيفة الحمراء أو بالجوخ الأخضر، حيث يتم ادخاره لمناسبة عظيمة. فهذا الناى هو الذى سيتم اختياره من بين آلاف النايات الأخرى لكى يعزف عليه أول كونشرتو يتم تأليفه للناى الشرقى الذى لم يدخل الأوركسترا السيمفونى بعد، وسيقدم هذا الكونشرتو لأول مرة فى حفل كبير فى دار الأوبرا يحضره جميع عظماء البلاد من رجال المال والسياسة والثقافة ونجوم المجتمع. فى هذا الحفل، ستتركز أنظار الحاضرين جميعا ليس على الأوركسترا السيمفونى، وليس على عصا المايسترو الأجنبى الذى سيحضر من أوروبا خصيصا لكى يقود الأوركسترا فى هذا العمل الفنى الكبير، وإنما على ذلك الناى الفريد الذى لم يسمع أحد أنغامه من قبل، وسيكتشف خبراء الموسيقى السيمفونية أنه يضارع فى جمال صوته بقية آلات النفخ الخشبية الغربية كالفلوت والكلارينت والأوبوا والباسون. لذلك، فقد كان كلما نظر إلى البيئة الريفية المحيطة به ووجد الطمى الأسود أسفل قدميه والحيوانات المائية الصغيرة اللزجة والقواقع النيلية القبيحة تحوم حوله، أصابه الغثيان. لقد سمع من أحد العلماء الذين جاءوا إلى تلك المنطقة ليأخذوا منها بعض عينات من الطمى أن هناك أكثر من 30 مليون نوع مختلف من الكائنات العضوية الدقيقة كالبكتريا والفطريات فى كل جرام واحد من هذه التربة الزراعية، فكيف يمكنه هو الذى سيصبح نايا فريدا عما قريب أن يعيش وسط تلك البيئة الموبوءة؟! لم يكن يحادث أحدا ولم يكن يستمع لأحد، فقد كانت الأصوات التى تجيئه فى هذه المنطقة كلها نشازا ولا تحتمل، سواء كانت أصوات أعواد الغاب المحيطة به والناتجة عن تخبطه فى بعضه البعض أو أصوات الضفادع وصراصير الحقل فى المساء، والتى كانت كثيرا ما تحول دون أن يغمض له جفن. لم يكن يستمع إلا لتلك الأصوات التى بداخله، والتى لم تكن ألحانا شعبية بلهاء كتلك التى يرددها أهل المنطقة، ولكنها كانت ألحان كونشرتو عظيم كتب للناى والأوركسترا. كان يتخيل وسط أحلام اليقظة التى كان يعيش فيها أن عزفه سيكون مفاجأة، وأن دخوله إلى الكونشرتو سيكون مبهرا، حيث سينتظر البعض أن يعزف ألحانا شرقية كتلك التى تعود الناس سماعها من الناى، لكن ألحانه ستجىء غربية خالصة، وسينسى الجمهور بعد قليل أنه يستمع إلى كونشرتو مصرى لآلة شعبية من آلات التخت الشرقى. سيتصور الجميع أنهم يستمعون إلى كونشرتو «الإمبراطور» لبتهوفن لأن عزفه سيكون بهذه العظمة أو إلى أحد كونشرتوات «براند نبرج» لباخ لأن أنغامه ستكون بهذه العذوبة. وكونشرتو الناى الذى كانت حركاته الثلاث مكتملة فى مخيلته لم يكن كونشرتو مائعا مثل تلك الكونشرتوات التى ألفها شوبان للبيانو والتى تتداخل فيها ألحان البيانو مع ألحان الأوركسترا حتى يكاد الواحد يذوب فى الآخر. فتلك الألحان كانت تذكره بأصوات الناى البلدى التى كثيرا ما كان يسمعها من بعض العازفين الريفيين من أهالى المنطقة الذين كانوا يمرون عليه فى قواربهم الصغيرة فى النيل، وهى ألحان كانت دائما تصيبه بالسأم. الكونشرتو الذى سيعزفه سيختلف عن أى كونشرتو آخر، فهو لن يردد أيا من أنغام الأوركسترا، بل إن الأوركسترا هو الذى سيردد الأنغام وراءه. سيكون هو فى المقدمة دائما وسيتبعه الأوركسترا. لم يكن يتصور الكونشرتو عملا جماعيا يعتمد على التناسق والتناغم ما بين الآلة المنفردة والأوركسترا، بل كان يتصوره مبارزة لحنية تصل إلى حد التصارع ما بين أنغامه المنطلقة بلا حدود والمحاولات اليائسة للأوركسترا للحاق به. لم يكن الكونشرتو فى الحقيقة إلا فرصة لإثبات تلك القدرات الخارقة التى كان يتصورها كامنة فى داخله، والتى كان ينتظر بفارغ الصبر أن يستطيع استعراضها أمام الجماهير. ثم جاء أخيرا اليوم المنتظر، حيث هجم على أعواد الغاب مجموعة من الفلاحين الحفاة وأخذوا يقتلعونها من الأرض ويزيلون ما يحيط بها من أعشاب يابسة فيما يعرف بعملية «الفسخ» التى عادة ما تتم فى بداية الربيع من كل عام وقبل هبوب رياح الخماسين. كانت عملية همجية مؤلمة لكنه تحملها، وعيناه على المستقبل الذى كان ينتظره عندما يصل إلى القاهرة.. كان يسمع صرخات الألم الصادرة من بقية أعواد الغاب من حوله وهى تقتلع من جذورها الضاربة فى الأرض، لكن صرخته هو كانت أشبه بالشهيق العميق الذى يأخذه المولود الجديد عند خروجه إلى الدنيا والذى يسبق بكاءه، وإن كان شهيقه هو لن يعقبه بكاء، وإنما سيعقبه لحن قوى متواصل لن يكف الناس عن ترديده، بعد أن يعزفه لأول مرة فى ذلك الحفل العظيم الذى كان الجميع ينتظرونه بالقاهرة. وسافر إلى القاهرة فى سيارة نقل كبيرة لابد أنها أرسلت خصيصا من أجله، برغم أنها كانت تقل مئات الأشياء الأخرى التى لا يعرف ما هى، فهو لم ينظر إليها طوال الرحلة الطويلة التى قطعتها السيارة من الصعيد إلى القاهرة. وقد حاول جاهدا أن يتحمل مشقة الرحلة، لكنه لم يستطع، كان الزحام فى سيارة النقل خانقا. لم يكن هناك هواء مثل الهواء الذى كان يعرفه على ضفاف النيل، ولم يكن هناك ماء كما هو الحال فى موطنه الأول، وبدأ يزداد شعوره بالجفاف والحرارة والاختناق، ثم أغشى عليه. وفى القاهرة، أفاق ليجد نفسه مغروسا فى حوض كبير لنباتات الزينة بأحد منازل القاهرة، وقد استند إليه عود عملاق من نبات «الفيكس ديكورا» كان قد بدأ يميل فتم غرسه خلفه حتى يبقيه منتصبا. لم يعرف كيف انتهى به المطاف إلى هذا المكان.. لابد أنه حدث خطأ.. أين صانع الناى الذى كان ينتظره؟.. أين الكونشرتو؟ وأين الحفل؟.. ظل يصرخ، لكن أحدا لم يجبه فلم يكن هناك أحد من حوله سوى ذلك النبات الأصم الذى يستند إليه. كان كل ما يحيط به صناعيا. فالهواء بارد برودة جافة تختلف عن البرودة التى كان يعرفها على ضفاف النيل، وهو ينبعث من جهاز كهربائى مثبت بالحائط المجاور له.. والطمى الذى غرس فيه هو طمى صناعى عرف فيما بعد أنه موضة الآن فى القاهرة، فمعظم البيوت الأنيقة لم تعد تستخدم الطمى الطبيعى، وإنما هذا الطمى الصناعى المستورد والذى هو فى الحقيقة يتكون من قمامة الحدائق من الأوراق اليابسة والأغصان المتساقطة، والمواد العضوية الأخرى التى يضاف إليها بعض الكيماويات، ثم تترك لتتعفن فيما يعرف باسم «المكمور» وتتميز بأنها تحتفظ بالماء أكثر من الطمى الطبيعى، ومن ثم فهى لا تتحجر مثله، كما أنها خالية تماما من الحشرات والديدان وسائر الكائنات العضوية الأخرى. أما الموسيقى التى كان يسمعها فى بعض الأحيان عندما يكون هناك حفل عشاء بالمنزل، فكانت موسيقى غريبة عليه تماما تعزفها آلات إلكترونية لم يسمع بها من قبل وتصدر عن جهاز يدور بداخله شريط كاسيت تقوم صاحبة البيت باستبداله كلما وصل لنهايته. وقرر أن يتذرع بالصبر قليلا، فربما كانت تلك مرحلة سينتقل بعدها إلى أيدى صانع الآلات الموسيقية الماهر الذى تعرف عليه فى أحلامه.. لكن الأيام مرت.. اليوم تلو الآخر.. إلى أن تحولت إلى شهور.. وهو مغروس فى هذا الطمى الصناعى بحوض الزرع فى ذلك المنزل الأنيق بالقاهرة دون أن يلتفت إليه أحد. وبدأ يقلق.. ثم تحول قلقه إلى خوف حقيقى بعد أن أدرك أن حلمه لن يتحقق.. ثم بدأ يشعر أن نهايته تقترب، حين وجد العفن قد بدأ يدب فى عقلاته السفلى المغروسة فى ذلك الطين الصناعى الخالى من الحياة. وبدأ لأول مرة يشعر بالحنين إلى حياته السابقة على ضفاف النيل فى أعالى صعيد مصر حيث الشمس والهواء الطلق بتقلباته الموسيقية من الخريف إلى الشتاء ومن الربيع إلى الصيف.. حيث صحبة رفاقه من الغاب البلدى، وحيث الطيور والأسماك والقواقع النيلية التى كانت تحيطه بدفئها وحنانها. وبدأ يشعر بالحنين لصوت الناى الحزين الذى كان يأتيه من القوارب المارة فى النيل.. ولأصوات الضفادع التى كانت تشكل الخلفية الإيقاعية لذلك اللحن الشعبى الأصيل. لكن حنينه الأكبر كان لذلك الطمى النيلى الأسود وتراب صعيد مصر الذى هو نتاج آلاف السنين من أجساد الأجداد من الآدميين والحيوانات والنباتات التى عاشت فى هذه البقعة من العالم فأثرتها حتى أصبحت من أخصب الأراضى فى العالم. وأدرك لماذا كانت أعواد الغاب تصرخ حين كان يجرى اقتلاعها من تلك الأرض التى لن يعود إليها ثانية.. لأنه حين يترك مكانه فى ذلك المنزل الأنيق بالقاهرة لن يكون للعودة إلى موطنه السابق، وإنما ليلقى به فى القمامة!