لقد وصلنا هذه الليلة إلى نهاية مجموعة من أحاديث تبدو تجربة حياة، وقد كانت هذه المجموعة من الطريق إلى أكتوبر فى صحبة جمال عبدالناصر، وستكون المجموعة الثانية من تجربة الطريق إلى أكتوبر فى صحبة أنور السادات، وهذه المجموعة التى فرغت منها أو سأوشك على الفراغ منها هذه الليلة كانت مجموعة مرهقة بالفعل ولأنها غطت فترة فى منتهى الصعوبة وهى ثلاث سنوات وثلاثة أشهر ما بين يونيو 1967 إلى سبتمبر 1970. خلال هذه الفترة انتقل المقاتل المصرى والعربى من حال إلى حال مختلف تماما عن ذى قبل، ومن مرحلة فقد فيها درعه وسيفه وأشياء أخرى عديدة إلى مرحلة استعاد فيها هذا المقاتل سيفه ودرعه وإرادته وقدرته على خوض معركته مع التاريخ ومن أجل المستقبل. فى هذه المرحلة التى انتهيت منها وتحدثت فيها طويلا قلت إنها بالفعل كانت فترة مرهقة للغاية، لأن البحث فى الأوراق شىء مجهد، رغم أن أوراقى منظمة ومرتبة ولكن هذا التنظيم لا يعنى سهولة سرد الأحداث. فإننى أجلس أمام ناس من بينهم من هو يقبل وآخر يعترض، ثم أذهب لأتحدث عن وقائع عاصرتها بنفسى عن قرب، لذا لا يكفى ترتيب وتنظيم الأوراق، ففى واقع الأمر كانت هذه العملية مرهقة على جميع المستويات، ولذلك فأنا أستئذن فى فترة انقطاع لمدة أسابيع ثم أعود بعدها إلى المرحلة التالية. والمرحلة الماضية تتصادف بأنها تقريبا انتهت بوفاة جمال عبدالناصر وكان يوم وفاته من أصعب وأخطر وأطول الأيام فى تاريخ مصر، لأنه كان يوما فارقا على أية حال على عدة مستويات، بين زمان وزمان وبين عصر وعصر وقيادة وقيادة دون مقارنة بين قائد وآخر لأن كلا من عبدالناصر والسادات عمل فى إطار مرجعى محدد، وكما أن كلا منهما حاول تأدية دوره على قدر ما يستطيع وبحسب ما يرى. وتصادف أنه قدر لى أن يمتد عملى ونشاطى وجهدى من مرحلة عبدالناصر إلى مرحلة السادات، مما مكننى من الإلمام بالمرحلتين، وخلال هذه الليلة سوف أقف قليلا أمام اليوم الأخير فى حياة جمال عبدالناصر، لأنه أشتمل على حدث لم يكن يتوقعه أحد، فرغم كل الشواهد لم يتنبه أحد بالقدر الكافى إلى أننا على مشارف النهاية. اقتراب النهاية جاء فى ظروف ذكرتها فى السابق وهى ظروف انعقاد القمة العربية التى دعا إليها رئيس وزراء تونس بهدف حل الأزمة القائمة بين الملك حسين والمقاومة الفلسطينية فى ظل ظروف وأجواء عربية ودولية صعبة، ولكن الجميع كان يشعر أن العالم العربى مقبل على لحظة خطرة للغاية فى حياته. انعقد مؤتمر القمة العربية فى القاهرة فى ظل انفجار بركان الغضب الفلسطينى فى عمان، والولاياتالمتحدة متأهبة للتدخل والعمل، وأساطيلها تحتشد، وجاء الرئيس الأمريكى نيكسون بنفسه إلى الشرق الأوسط ورغبة منه فى الوجود فى ساحة المنطقة فوق ظهر حاملة الطائرات ساراتوجا، خارجا من ميناء نابولى إلى عرض البحر ليتابع ويراقب ما يجرى. وكما ضمت هذه الأجواء تحفزا إسرائيليا لضرب سوريا، وفى ظل هذه الأجواء الملتهبة حاول مؤتمر القمة فى القاهرة أن يسابق الخطر، ثم يسبقه بالفعل على نحو أو آخر، وبذلك الوقت كان كل ما يشغل فكر الجميع هو التوجه لما يجرى سواء بالبحر الأحمر حيث الرئيس نيكسون، وفى القاهرة حيث الزعماء العرب، وفى عمان حيث الدماء تسيل، ودمشق والقرارات التى تتخذ فيها وحتى بغداد حيث إنه كان هناك عدد من القوات العراقية يصل إلى 19 ألف جندى فى الأردن، ينتابهم حالة من الحيرة والقلق. الأرض كانت ممتلئة بالعديد من أعواد الكبريت الكثيرة، وكان هناك من يلهو بهذه الأعواد، وآخرون يحاولون السيطرة على موقف يوشك أن يخرج عن السيطرة تماما، وفى هذا اليوم الأخير وهو 28 سبتمبر، لا أرغب فى الحديث عن تفاصيل ما جرى بغرفة عبدالناصر لحظة وفاته، لأننى تحدثت عنها فى السابق، وخلال حديثى فى المجموعات السابقة توقفت كثيرا أمام المشهد الحزين الذى جمع الرجال السبعة إلى جانب أطبائه الذين كانوا فى غرفة جمال عبدالناصر حينما صعدت روحه إلى خالقها. أتذكر أنه فى يوم 27 سبتمبر الذى وافق يوم الأحد انتهى مؤتمر القمة العربية بعدما أصدر قراراته ووقتها صعدت إلى الجناح الذى كان يقيم به عبدالناصر فى فندق هيلتون النيل فى ذلك الوقت بعد انتهاء آخر جلسات المؤتمر ومعى البيان الأخير لمؤتمر القمة، وبعد مراجعة عبدالناصر السريعة للبيان، تحدث معى حول أمور تتعلق بالكيفية التى انتهى عليها المؤتمر وبعض الملاحظات على الأجواء التى سادته، وكيفية الحفاظ على ما تم التوصل إليه خلال المؤتمر. خصوصا أننى كنت عضوًا فى اللجنة الثلاثية التى شكلها مؤتمر القمة بهدف متابعة قراراته وتنفيذها، وهذه اللجنة كانت مشكلة من رئيس وزراء تونس السيد باهى الأدغم، واللواء محمد أحمد صادق رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، بالإضافة إلى كوزير للإعلام والإرشاد القومى، وصعد بصحبتى إلى جناح عبدالناصر الرئيس أنور السادات لأنه وقتها كان موجودًا فى غرفة إلى جوار عبدالناصر بالهيلتون، ووقتها أخبرنا عبدالناصر بأن بعض رؤساء وفود الدول العربية سيغادرون مصر فى الغد والبعض الآخر سوف يسافرون فى اليوم التالى. وأبلغنا عبدالناصر فى ظل وجود سكرتيره السيد محمد أحمد بالقرب منا أنه يرغب فى العودة إلى منزله، حيث كان هناك بعض مقتضيات البروتوكول التى تفرض عليه المكوس فى الفندق من أجل البقاء إلى جانب مجموعة الرؤساء العرب فى الفندق إلى أن يسافروا. عبدالناصر وشعوره باقتراب نهايته ولكن الرغم من ذلك أصر عبدالناصر على العودة إلى منزله لأنه مجهد ويرغب فى رؤية أبنائه والجلوس معهم، ومن الغريب أنه عند حديثه معنا أخذ يتمشى فى جناحه إلى أن وصل إلى الشرفة وأطل على النيل، وقال لنا ونحن بجانبه: «شاهدوا ذلك المنظر فهذا أجمل منظر فى الدنيا»، فرغبت أن أمزح معه فرددت عليه قائلا: «ليس جميلا بهذا القدر، فهناك مناظر أجمل من ذلك فى دول أخرى»، ورغم أنه كان منظرا جميلا للغاية بلا جدال ولكن مسألة أن يوصف بأنه أجمل منظر فى الدنيا فهنا الأمر يحتاج إلى مناقشة. وهذا يرجع إلى أن جمال عبدالناصر لم يكن قد رأى أوروبا ولا أمريكا ولا بعض المناطق الخلابة فى آسيا وحتى زياراته خارج مصر كانت جميعها محاطة بقيود رسمية لم تمكنه سوى من رؤية المناطق التى يحددها له مضيفوه فى هذه الدول، ووقتها رد على عبدالناصر متسائلا: «تفتكر إنى سأشاهد هذه المناظر؟» فقلت له: «إن شاء الله»، ثم نظر طويلا إلى النيل وقال: «إننى أظن أننى لن أتمكن من الوجود فى هذا الموقع مرة أخرى لأطل على النيل». وآخر مرة أراه فيها واقفا على قدميه كانت وقت مغادرته لجناحه بفندق هيلتون وبعدما تبادلنا السلام بقيت فى الفندق لحضور اجتماع خاص باللجنة الثلاثية برئاسة السيد باهى الأدغم، ثم عدت إلى منزلى وفور عودتى تلقيت اتصالا هاتفيا من السفير البريطانى فى مصر طلب منى رؤيتى على الفور، وبالفعل حضر السفير البريطانى إلى منزلى وأوضح لى أنه هناك رسالة يرغب فى توصيلها من رئيس الوزراء البريطانى إدوارد هيث كان حريصا على وصولها إلى الرئيس جمال عبدالناصر هذه الليلة بالتحديد. كانت وقتها الساعة العاشرة والنصف، وبعد انتهاء مقابلتى مع السفير اتصلت هاتفيا بمكتب الرئيس عبدالناصر لأتأكد مما إذا كان مستيقظا أم نائما، حتى أستطيع الحديث معه فى غرفته لأننى كنت أشعر أنه مرهق أثناء مغادرته الفندق، حتى أثناء حديثه عن منظر النيل الجميل كان يتنفس الصعداء، كلمت السيد سامى شرف الذى أبلغنى أن إضاءة غرفة نومه انطفأت منذ ثوان، رجحت أنه مازال مستيقظا فاتصلت به ووجدته متعبا واعتذرت له عن اتصالى له فى ذلك الوقت، وبررت له موقفى بأنه لابد من الرد على خطاب رئيس الوزراء البريطانى، ووقتها أبدى لى عبدالناصر رأيه فى الخطاب وانتهى اتصالى به على ذلك. وفى صباح اليوم التالى تلقيت اتصالا من عبدالناصر فى الساعة الثامنة والنصف، أبلغنى فيه بأنه استيقظ من النوم متعبا ويشعر أنه غير قادر على فعل ذلك ولكنه فى ذات الوقت عليه واجب توديع الملوك والرؤساء، فاقترحت عليه أن يوكل شخصا آخر يقوم بهذه المهمة، ولكنه رفض ذلك الاقتراح قائلا: «أنا لم أستقبلهم عقب وصولهم فى المطار، لذا لا يليق أن أغيب عن لقائهم قبل مغادرتهم مصر، فهذا سيكون مخالفة للبروتوكول، وعلى أى حال فآخر واحد سأودعه اليوم هو أمير الكويت، وبعد ذلك سأضع قدمى فى مياه مالحة، لأنه ثبت أن الوصفات الشائعة أفضل كثيرا من وصفات الأطباء». ووقتها تابعت مغادرة جميع الرؤساء لمصر بصفتى صحفيا ووزيرا للإعلام والإرشاد القومى، وأثناء ذلك تلقيت فى الساعة الرابعة والنصف اتصالا من العقيد فؤاد عبدالحى مساعد محمد أحمد سكرتير الرئيس عبدالناصر، وأبلغنى أننى مطلوب للحضور إلى منزل الرئيس عبدالناصر على الفور، وأن قرينة الرئيس أبلغت محمد أحمد بدعوة بعض الأفراد الآخرين، ولكننى لا أعلم إذا كان ذلك بناء على إشارة من عبدالناصر نفسه أثناء جلوسها بجانبه أم قرارا منها. لحظة وفاة عبدالناصر وذهبت إلى منزل عبدالناصر فى حوالى 25 دقيقة بعد اتصال عبدالحى بى، فى طريقى إلى المنزل شغلنى التفكير فى ملابسات ذلك الاتصال المفاجئ وأسبابه، فإننى كنت على علم بأن أحواله الصحية ليست على ما يرام، ولكن بنيانه الجسدى ومعنوياته وإرادته لا تدل على أن النهاية كانت قريبة بهذه الدرجة، وأخذت تدور فى رأسى عدة تساؤلات كان منها: هل بالفعل عبدالناصر فى خطر؟، إلا أنه لم تخطر على فكرة الوفاة، ولكنى توقعت أنه قد يكون يعانى من مرض سيعيقه من أداء مهامه. عندما وصلت منزل عبدالناصر استقبلتنى زوجته والدموع فى عينيها وعندما سألتها عن سبب حزنها الشديد أبلغتنى أن الرئيس تعبان للغاية، دخلت غرفة نومه وجدته ممددا على فراشه ويحيط به عدد من الأطباء، إلى جانب الفريق فوزى الذى كان أقربهم إلى الفراش ثم على صبرى وشعراوى جمعة وسامى شرف وأنا كنت خامسهم، بعد وصولى بحوالى خمس دقائق حضر حسين الشافعى وبعده ب25 دقيقة دخل أنور السادات. وفاة أم جريمة؟ وكنت أرى حالة ذعر لدى الأطباء وهم يتعاملون مع عبدالناصر، وكنت أشعر بشبح كئيب ينزل على الغرفة أخطر من مجرد العجز لأنه كان هناك أجهزة صدمة كهربائية تستخدم وأشعة رسم القلب نحيت جانبا، وعمليات تنفس صناعى بدت تحدث وبدأت تحدث أمامى أشياء غير منطقية، ولابد أن أعترف بأن فى هذه اللحظة انتابنى لأول مرة الشك حول تدخل يد ما فى وفاة عبدالناصر أم أن وفاته طبيعية، وأثيرت بداخلى تساؤلات: «هل هذه وفاة أم جريمة». كنت أعلم أن عبدالناصر رجل مستهدف من قبل قوى عديدة للغاية، ولكننى فى ذات الوقت على يقين أن لديه تاريخا من المرض، وخطرت فى بالى بهذه اللحظة حديث إسرائيل حول قتله بالسم أو بالمرض كما كتب عبدالناصر بخط يده نقلا عن تسجيل بالسفارة الأمريكية تحدثت خلاله سكرتيرة السفير الأمريكى فى تل أبيب عن خطط قادة إسرائيل وتصميمهم على تسميمه. ولكنى نحيت هذه الأفكار جانبا خاصة بعد انتهاء هذا المشهد الحزين الذى سبق لى أن ذكرت تفاصيله، تحدثت مع أحد الأطباء المعالجين لعبدالناصر وهو فايز منصور الذى تصادف أنه طبيبى الشخصى أيضا فى ذات الوقت، وهو كان أستاذا مشهورا فى الأمراض الباطنية، وسألته حول أسباب وفاة عبدالناصر فأجابنى بأن الوفاة كانت نتيجة جلطة طبيعية، وعقب وفاة عبدالناصر غادرنا غرفته وجلسنا نتناقش حول ضروريات الاستمرار فيما بعد. وقررنا خلال هذه الليلة ترحيل جثمان عبدالناصر إلى قصر القبة ونحن سوف ندعو اللجنة التنفيذية العليا التابعة لمجلس الوزراء لكى نبحث معا ماذا يمكن عمله بهذه المرحلة، وعند وصولنا قصر القبة كان يدور فى ذهنى سؤال يشغلنى وهو: هل هذه الوفاة طبيعية؟، وأعترف أننى بهذه الليلة كنت مستعدا لقبول بضمير مستريح وجهة نظر الأطباء، وكان بصحبتى منذ وفاة عبدالناصر أنور السادات الذى كان يشغل منصب نائب الرئيس فى ذلك الوقت. أثناء اجتماعنا فى مجلس الوزراء كان ينتابنا حالة من الحيرة حول ما الذى من المفترض أن نقوم به تجاه مراسم تشييع جثمان عبدالناصر، وعندما جاء دورى فى الحديث قلت إنه لابد أن نلجا إلى السوابق، فاستدعيت صلاح الشاهد رئيس المراسم فى رئاسة الجمهورية فى ذلك الوقت، وطلبت منه ملف آخر رئيس دولة توفى أثناء حكمه فى مصر، وكان آخرهم الملك فؤاد وبعد اطلاعى على ملف مراسم تشييع جثمان الملك فؤاد، أقبلت على كتابة بيان حول إعلان الوفاة ولا أعلم كيف كنت متماسكا يومها وتملكتنى شجاعة مواجهة ما بعد وفاة عبدالناصر. واكتشفت وقتها أن قوة الأزمات تمد أصاحبها بتحمل المسئولية بالمستوى الذى يتناسب فى ذات الوقت مع ضخامة هذه الأزمات، وكان وقتها الجميع يدرك أن هناك جسرا ينبغى عبوره، وكنا نحرص على التماسك من أجل تحقيق انتقال سلطة آمن لأن هناك بلدا أكبر وأبقى من كل الأفراد والمشاعر، وتمكنت من الحفاظ على صورة من رسم قلب عبدالناصر ونص البيان الخاص بإعلان وفاة عبدالناصر. وكان من الغريب أن ذلك هو أول نص مكتوب يجمع بين خطى وخط أنور السادات فى ورقة واحدة، أنا كاتبه والسادات كان سيلقيه فى الإذاعة والتليفزيون، ولذلك أجرى السادات بعض التعديلات على البيان بخطه لتكون أول وثيقة تجمع بين خطنا فى ورقة واحدة، ووجدت تقريرين طبيين للأطباء المعالجين لعبدالناصر، أحدهما بناء على اقتراحى استيحاء من مراسم الملك فؤاد. وكان هناك بيانان لوفاة عبدالناصر أحدهما أعلن على الناس والآخر ألقاه السادات، وبعد الوفاة طلبت من عبدالملك عودة أن ينتقل التليفزيون من إذاعة برامجه العادية إلى إذاعة القرآن الكريم، وأدرك عودة حديثى وتصرف على الفور دون الحاجة إلى استفسارات، وبعد ذلك ذهبنا إلى الرئيس السادات الذى كان يود أن أقوم أنا بإذاعة بيان وفاة عبدالناصر على المصريين ولكننى أوضحت له أن قيامه بإلقاء البيان يعنى انتقال السلطة بأمان ويبدو هو أمامهم مسئولا عما يجرى حتى يظهر أن هناك رجلا آخر آلت إليه مسئولية الحكم. عقب ذهابنا إلى مقر الإذاعة طلب منى السادات اصطحابه داخل المبنى ولكننى رفضت وترجيته الصعود وحده، وبعد انتهائه من إذاعة البيان ذهب إلى قصر القبة حيث اجتماع اللجنة التنفيذية العليا لا يزال منعقدا لبحث انتقال السلطة والاستقرار على أن يكون نائب الرئيس رئيسا لمدة 60 يوما كما يقر الدستور أو يستكمل مدة رئاسة الرئيس عبدالناصر المنتخب فيها، أو يبقى لإزالة آثار العدوان. الزعماء والساسة الكبار هم أقل الناس فى الرعاية الطبية وتركت السادات يذهب إلى قصر القبة وحده ورجعت إلى جريدة الأهرام لأكتب الصفحة الأولى فى الأهرام تحت عنوان «عبدالناصر فى رحاب الله»، لكن فى اليوم التالى للوفاة، شغل الناس سؤال ملح وهو: هل هذه وفاة طبيعية أم أنها بفعل فاعل؟، كثير وأنا واحد منهم قبلوا فى أول الأمر تصديق أن الوفاة طبيعية وذلك بعد الاطلاع على تقارير الأطباء وكتاب الدكتور المعالج لعبدالناصر صاوى حبيب. ولكنى أعتقد أن ذلك عبدالناصر وراءه تاريخ مرضى أولا أن والدته توفيت تقريبا فى نفس سن عبدالناصر، ومعاناته من مرض السكر والقلب ومجهوده المتواصل الذى لا ينقطع، وديفد أون ذكر فى كتابه أن هناك مشكلة يعانى منها الزعماء السياسيون دائما وهى أن الزعماء والساسة الكبار عادة لا يلقون الرعاية الطبية الكافية والمتوافرة لأى مواطن عادى، لسبب بسيط للغاية وهو أن أمراضهم تتعلق بأمن أوطانهم وبالتالى فهى ليست سرا يذاع، لأن أغلب همومهم تتعلق بالأمن القومى لبلادهم، خصوصا إذا كانت بلادهم فى حالة خطر. فى حالة الرئيس عبدالناصر كان من الواضح أنه يعانى من الإجهاد ورغم ثقتى فى جميع الأطباء المعالجين لعبدالناصر ولكنه كان لابد أن يتلقى علاجا طبيا أكثر مما تلقاه، ولكن ظروف الأمن منعته من تلقى كل ما يستحقه من علاج، ومن ضمن المتشككين فى ملابسات وفاة الرئيس عبدالناصر كان رئيس وزراء الصين شوين لاى الذى بادر بسؤال الدكتور لبيب شقير قائلا: «كيف سمحتم لجمال عبدالناصر أن يموت بهذه البساطة فى هذه السن؟» فرد عليه شقير قائلا: «هذا قضاء وقدر». وفاة عبدالناصر والحقيقة الغائبة هناك حقيقة وهى أن متوسط العمر لدى البشر جميعا مرتبط على مدى التاريخ بالزيادة الطردية فى التقدم العلمى والصحى وبقية المجالات الأخرى، إلا أن رئيس الوزراء الصينى كان يرى وفاة عبدالناصر كانت نتيجة تقصير طبى أو تقصير أمنى سمح لأيد خفية بالوصول إليه والتسبب فى وفاته، كما أن البيان الذى أصدره الاتحاد السوفيتى حول وفاة عبدالناصر أكد على الوفاة غير المتوقعة أكثر من مرة. أنا لا أزال لم أصل إلى يقين حول ملابسات وأسباب وفاة الرئيس عبدالناصر، فهذا الرجل كان مستهدفا من قبل العديد من القوى فى الداخل والخارج وخاصة إسرائيل، ولكنى لا أستطيع أن أتجاهل محاولات اغتيال الإخوان المسلمين لعبدالناصر أكثر من مرة، ولا أستطيع أن أغفل برقية يتحدث فيها شاه إيران إلى السفير الأمريكى ويقول له: «جمال عبدالناصر ضرب ولكن لا تعتمدوا على أنه ضرب وتناموا على ذلك، فهذا الرجل لابد من تصفيته واستئصاله لأنه فى حالة بقائه سوف يعيد بناء موقفه، وسيستعيد عداءه لكم». كما أن لدى العديد من الوثائق الإسرائيلية والبريطانية وأمريكية التى تحتوى على تصميم على قتل عبدالناصر، فهناك تصميم إسرائيل على الخلاص بالسم من جميع أعدائهم، جولدا مائير وموشى ديان وبقية القادة الإسرائيليين كانوا مصممين على ضرورة الخلاص من عبدالناصر، وكل ذلك العداء بدأ يتصاعد بشدة عام 1970 وظهرت العديد من الوثائق الحافلة بدلالات تحث على التخلص من عبدالناصر. منذ عام 1967 إلى 1970 تصور الأمريكان أن عبدالناصر دوره انتهى، بل إنهم فضلوا بقاءه حيث رأوا أنهم من الممكن أن يقودوا العالم العربى إلى تفاهم مع إسرائيل مما اضطرهم إلى وضع فيتو على تجاه أى تصرف إسرائيلى يستهدف اغتيال عبدالناصر، فإسرائيل لا تستطيع التخلص من عبدالناصر سوى بعد تلقى الضوء الأخضر من الولاياتالمتحدة. وأتصور أنه فى عام 1970 ظهرت مقدمات الضوء الأخضر الأمريكى من أجل التخلص من عبدالناصر وكانت مؤشراته عديدة أولا عند نشوب الثورة الليبية أدرك الأمريكان أن حركة القومية العربية لاتزال حية وثانيا الزيارة السرية لموسكو وبدأ يظهر الاتحاد السوفيتى فى العمق وظهرت أنواع من السلاح على أرض المعركة العربية كانت من شأنها أن تغير موازين القوى. وبدأ الليبيون يشترون طائرات الميراج فأضيفت إليهم قدرة قتالية، وعندما تحرك حائط الصواريخ وهذه هى النقطة الأكثر اهمية أثناء أزمة وقف إطلاق النار والذى أسهم فى تآكل سلاح الطيران الإسرائيلى وقتها، وهنا أنا مستعد للقول إنه كان هناك ضوء أخضر أمريكى صدر أعطى إشارة لإسرائيل من أجل التخلص من عبدالناصر، ولكن ذلك مع افتراض صحة فرضية الاغتيال، فإلى هذه اللحظة لا أستطيع أن أقطع براى لأن هذا الموضوع كبير للغاية ولا يتحمل أى تخمينات إذا لم تكن هناك أدلة واضحة وقاطعة تثبت ذلك. فنجان قهوة وهناك شكوك انصبت فى اتجاه الرئيس السادات إلا أن ذلك غير مقبول، ومن يدعون ذلك يستدلون فى ادعائهم على مشهد أنا كنت أحد حضوره، وهو مشهد جرى فى هيلتون قبل الوفاة بثلاثة أيام، فأثناء المناقشة بين الرئيس عبدالناصر وياسر عرفات خلال انعقاد مؤتمر القمة العربية، عبدالناصر احتد وتضايق للغاية أثناء الحديث ولكنه كان يحاول إخفاء مشاعره، إلا أنه وصل إلى لحظة قال فيها لأبوعمار: «نحن لابد أن نخرج من هذه الغرفة ونذهب إلى قاعة الاجتماع، فإما نذهب إلى القاعة ونفض المناقشات وإما أن نذهب ونصدر بيانا بالتوافق مع جميع الرؤساء العرب بمن فيهم الملك حسين». أنور السادات كان موجودا أثناء هذه المناقشات ولاحظ انفعال عبدالناصر أثناء حديثه مع عرفات فعرض عليه أمامى أن يحضر إليه فنجان قهوة لتهدئة أعصابه، فذهب إلى المطبخ الصغير التابع للجناح بالفندق وأخرج محمد داود المرافق لعبدالناصر والقائم على خدمته وقام السادات بإعداد فنجان القهوة وقدمه لعبدالناصر وعبدالناصر شربه، فلا يجب أن يتهم السادات بوضع السم فى القهوة بهذه البساطة، وذلك لأسباب إنسانية وأخلاقية وعاطفية وعملية، فلم يكن فى مقدوره أن يقوم بذلك، وحتى يصدق هذا الكلام لا ينبغى أن يكون هناك دليل واحد على اتهامه بقتل عبدالناصر، ولا يجب الاكتفاء فقط بأن عبدالناصر لم يؤمن فى الهيلتون بالطريقة المتبعة فى تأمينه أثناء وجوده بمنزله وفى النهاية سواء ذهب عبدالناصر إلى رحاب ربه بطريقة طبيعية أو قتل فإن هناك مرحلة من التاريخ المصرى أسدل عليها الستار فى هذه اللحظة