«واحد اتنين سرجى مرجى.. أنت حكيم ولا تمرجى أنا حكيم الصحية.. العيان أديله حقنة والمسكين أديله لقمة.. يارب أزورك يا نبى يا اللى بلادك بعيدة.. فيها أحمد وحميدة حميدة ولدت ولد.. سميته عبدالصمد مشيته ع المشاية.. خطفت راسه الحداية حد حد يا بوز القرد». أغنية شعبية مصرية عريقة تسبق صفحات رواية «إسطاسية» للروائى الكبير خيرى شلبى، الصادرة حديثا عن دار الشروق، وهى رواية تخطف البال فلا يهدأ القارئ، ويظل حائرا ليبحث عن قاتل «محفوظ» ابن السيدة إسطاسية. كلمات الرواية دم طازج ينزف من جرح قديم، يضغط عليه شلبى ليكشف تنويعات علاقة عميقة فى أحيان كثيرة تكون متوترة وعصبية بين المسلمين والأقباط، وكأن لسان حاله يدعو «يارب إن شئت أن تجيز عنى هذه الكأس المُر، ولكن لتكن إرادتك لا إرادتى». كأن نواح إسطاسية على ابنها محفوظ «حُرقة بكائها تنسرب إلى أفئدة النساء فينخرطن فى بكاء صامت حراق تتخلله عبارات أسيفة». اصطلحت عوامل كثيرة: صفاء الذهن، والاتصال الدائم بالتراث والعوالم الخفية من حياة الناس، وشغفه بالحزن المصرى على أن تصنع «خيرى شلبى» هذا الروائى الكبير، فهو يمتلك أدوات مبدع فطرى، وكأنه أحد منشدى السيرة الهلالية الجبابرة، يطوع أدوات اللغة ليخرج أبراجا من الجمال شاهدناها من قبل فى رواياته «وكالة عطية»، و«صالح هيصة»، و«زهرة الخشخاش»، وثلاثية الأمالى: أولنا ولد.. وثانينا الكومى.. وثالثنا الورق»، و«نسف الأدمغة»، و«صحراء المماليك». الرواية تحمل اسم بطلتها «إسطاسية». وقد سألت الدكتور كمال فريد أستاذ اللغة القبطية بمعهد الدراسات القبطية عن معنى «إسطاسية»، إذ اعتقدت أنها كلمة قبطية خالصة، فقال إن «إسطاس» كلمة يونانية تعنى «وقوف» أو حالة الفرد وموقفه، موضحا أن بعض كلمات اللغة القبطية مشتقة من اليونانية. وأشار إلى أن «إنسطاسية» وهى تنويعة من «إسطاس» تعنى القيامة أو البعث، وأن هناك لحنا قبطيا داخل الكنيسة المصرية تحت عنوان «إسطاسى طيه» أى قوموا ويقصد به (قوموا للصلاة). «حطيت على القلب إيدى وأنا باودع وحيدى وأقول يا عين اسعفينى يا عين وبالدمع جودى» هكذا قال بيرم التونسى شعرا عن لوعة وحرقة فراق الحبيب الوحيد، أما خيرى شلبى ففى روايته يحاول أن يوصل قول بيرم الذى وضعه شلبى فى استهلال روايته من خلال حكاية إسطاسية أرملة المقدس جرجس غطاس، التى تعيش فى إحدى القرى النائية بكفرالشيخ، قُتل ولدها محفوظ الحلاق فاشتعلت نارها وأصبحت تخرج كل يوم مع الفجر تصرخ وتناديه: «يرتفع أوار النار، يعلو زئيرها وصريخها بشكل ينذر بخطر يحرق البلدان كلها. تتفرع ألسنة اللهب مع وهج الاستغاثة وجلجلة التكبيرات المؤكدة بأن الصلاة خير من النوم. عندئذ تكون إسطاسية قد دخلت فى صُلب النار، صارت لها عشرات الألسنة الحادة الملتهبة، وصارت هى قريبة من السماء، تتطاير منها العبارات الملتهبة المكلومة إلى الفضاء كذرات من المشاعر المنصهرة فى صدرها، صورا من الوجع الشعورى الأليم، بمرارة الفقد والحرمان تقول: فيك يا من قتلت ولدى». نقرأ «إسطاسية»، الذى صمم غلافها الفنان عمرو الكفراوى، لنكتشف أن الصراع فى الريف بين العائلات «ماكيت» لما يحدث فى مصر كلها، فهناك بالريف تشتعل الصراعات والحكايات بين «حمزة البراوى» راوى الحكاية وبطلها الذى درس الحقوق وفشل فى أن يصبح قاضيا، والعمدة «عواد البراوى» عم حمزة وشريك محفوظ القبطى فى ماكينة الطحين، ومن ناحية أخرى هناك الجزار «عبدالعظيم عتمان» المتهم بقتل حمزة، والذى كان يزفر من الغيظ، يكز على أسنانه هادرا فى كل مكان أمام كل الناس: «طيب يا عضمة زرقا! إن ما وريتك النجوم فى عز الضهرما أبقاش أنا! ودينى لأدفعك التمن غالى ببركة نبينا المصطفى!حاكسب فيك ثواب إن شاء الله». وكان ذلك كله بسبب ماكينة الطحين التى نجحت فى التنكيل بعبدالعظيم عتمان، وخفضت رزقه إلى الثلث. يُقتل محفوظ ابن إسطاسية دون أن نعرف من القاتل الحقيقى إذ برأت المحكمة المتهم عتمان من تهمة القتل. لكن تتلاقى الخيوط، وتتعقد أكثر، فى توليفة تزيد الأمر تركيبا إذ أراد حمزة أن يفتح ملف قضية محفوظ ويعيد التحقيق فى مقتله، ويقول إنه سيفعل ذلك لنفسه لا للحكومة!:» يا أمى! أريد أن أعرف ليستريح قلبى! إننى إذا لم أتوصل إلى قاتل شريك عمى وأقدمه للمحكمة فلن أنجح فى مستقبلى كوكيل للنائب العام! دعينى أتمرن! لعلنى أفلح فى كشف غموض هذه القضية!. يا ولدى! اعقل! ستدخل فى سكك سوداء مليئة بالشوك! وقد يكون مصيرك مصير محفوظ!». يقول شلبى فى فصله: «انعتاق من موقف الذلة» وكأنه ينبهنا: «نجح محاما العائلة فى الوصول بالقضية إلى ما يشبه منطقة انعدام الوزن...ذلك أن غباء المحامين قد تصاعد بهما وبالأدلة وبالأسباب وبالنوايا إلى مرام وأغراض طائفية، مما تطرف بالقضية وحولها إلى قضية رأى عام ذات ورم طائفى كريه ومبالغ فيه يوهم بأنها قنبلة موقوتة سوف تنفجر عاجلا أو آجلا لتقضى على استقرار المجتمع المصرى إلى الأبد». الخلاصة أنه بعد مشوار طويل للراوى حمزة المحامى من الحيرة والألم من عائلته ومجتمعه وحبه لمعشوقته راندا، وثبوت أن البندقية التى ضربت محفوظ هى نفسها التى ضربت أدهم أبوستيت، يختم شلبى روايته المبهجة، التى تمثل عصارة خبرته النافعة والبناءة بحديث دار بينه وبين إسطاسية والمقدس عازر: «شعرت أنها تحاصرنى بالمنطق الفطرى المتسق تماما مع روح القانون وجوهره وكلمته. قلت: إيه بقى القضية؟. قال المقدس عازر: أرض الغطاسين اللى البراوية اغتصبوها! وآدى كل وثائقها اللى تدى إسطاسية وتدينى حق التقاضى بشأنها!... ومن بكره الصبح آخذها على الشهر العقارى تعمل لحضرتك توكيلا باسمنا إحنا الاثنين». ورأى حمزة أن قبوله لقضية إسطاسية هو الحبل الذى يجب أن يمسك به للصعود رغم أنه سيقف ضد عمه فى هذه القضية، وكأن «إسطاسية» تخرج من اسمها حليبا، وتسقيه لحمزة، فتدعوه للوقوف والبعث ضد الظلم، ضد بحر التيه الذى يتسع، وتتلاطم أمواجه فى عقل وصدر البطل.