الحجر الصحي بجنوب سيناء يتابع حالة الحجاج المصريين العائدين عبر ميناء نويبع    وزير العمل: 600 منحة مجانية لتدريب الشباب في مركز تدريب شركة الحفر المصرية    المشاط: 15.6 مليار دولار تمويلات ميسرة من شركاء التنمية للقطاع الخاص منذ 2020 وحتى مايو 2025    هذه القافلة خنجر فى قلب القضية الفلسطينية    محمد يوسف يعاتب تريزيجيه بسبب إصراره على تسديد ركلة الجزاء أمام إنتر ميامي    في عيد ميلاده ال33.. محمد صلاح يخلد اسمه في سجلات المجد    كشف ملابسات تعدي أشخاص بالضرب على آخر في البحيرة    محافظ القاهرة يتفقد أعمال تطوير شارع أحمد زكى بدار السلام.. صور    حزب العدل والمساواة يعقد اجتماعًا لاستطلاع الآراء بشأن الترشح الفردي لمجلس الشيوخ    "لا للملوك": شعار الاحتجاجات الرافضة لترامب بالتزامن مع احتفال ذكرى تأسيس الجيش الأمريكي    الرئيس السيسي يؤكد لنظيره القبرصي رفض مصر توسيع دائرة الصراع بالشرق الأوسط    كاف يهنئ محمد صلاح: عيد ميلاد سعيد للملك المصري    وزير التموين يتابع مخزون السلع الأساسية ويوجه بضمان التوريد والانضباط في التوزيع    تنفيذ 25 قرار إزالة لتعديات على أراض بمنشأة القناطر وكرداسة    سعادة بين طلاب الثانوية العامة في أول أيام مارثون الامتحانات بالقليوبية    محافظ بورسعيد يتفقد غرفة عمليات الثانوية العامة لمتابعة انتظام الامتحانات في يومها الأول    وزيرة التنمية المحلية تتفقد أعمال تنفيذ المرحلة الأولى من تطوير سوق العتبة بتكلفة 38 مليون جنيه    قرار قضائي عاجل بشأن عزل وزير التربية والتعليم في أول أيام امتحانات الثانوية العامة    وصول جثمان نجل الموسيقار صلاح الشرنوبي لمسجد عمر مكرم    عضو حزب المحافظين البريطاني: إسرائيل تقترب من تحقيق أهدافها    شكوك حول مشاركة محمد فضل شاكر بحفل ختام مهرجان موازين.. أواخر يونيو    100 ألف جنيه مكافأة.. إطلاق موعد جوائز "للمبدعين الشباب" بمكتبة الإسكندرية    نظام غذائي متكامل لطلبة الثانوية العامة لتحسين التركيز.. فطار وغدا وعشاء    الداخلية تضبط 6 ملايين جنيه من تجار العملة    حسين لبيب يعود إلى نادي الزمالك لأول مرة بعد الوعكة الصحية    جامعة القاهرة تنظم أول ورشة عمل لمنسقي الذكاء الاصطناعي بكلياتها أكتوبر المقبل    رئيس النواب يفتتح الجلسة العامة لمناقشة مشروع الموازنة العامة للدولة    فوز طلاب فنون جميلة حلوان بالمركز الأول في مسابقة دولية مع جامعة ممفيس الأمريكية    يسري جبر يوضح تفسير الرؤيا في تعذيب العصاة    "برغوث بلا أنياب".. ميسي يفشل في فك عقدة الأهلي.. ما القصة؟    المؤتمر السنوي لمعهد البحوث الطبية يناقش الحد من تزايد الولادة القيصرية    لأول مرة عالميًا.. استخدام تقنية جديدة للكشف عن فقر الدم المنجلي بطب القاهرة    ضبط 59.8 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    وائل كفوري يشعل أجواء الصيف بحفل غنائي في عمّان 15 أغسطس    «الزناتي» يفتتح أول دورة تدريبية في الأمن السيبراني للمعلمين    تحرير 146 مخالفة للمحلات لعدم الالتزام بقرار ترشيد استهلاك الكهرباء    البابا تواضروس يترأس قداس الأحد في العلمين    الأنبا إيلاريون أسقفا لإيبارشية البحيرة وتوابعها    أسعار الخضراوات اليوم الأحد 15-6-2025 بمحافظة مطروح    «أمي منعتني من الشارع وجابتلي أول جيتار».. هاني عادل يستعيد ذكريات الطفولة    الأردن يعلن إعادة فتح مجاله الجوي بعد إجراء تقييم للمخاطر    «فين بن شرقي؟».. شوبير يثير الجدل بشأن غياب نجم الأهلي أمام إنتر ميامي    أخر موعد للتقديم لرياض الأطفال بمحافظة القاهرة.. تفاصيل    تداول امتحان التربية الدينية بجروبات الغش بعد توزيعه في لجان الثانوية العامة    فيلم سيكو سيكو يحقق أكثر من ربع مليون جنيه إيرادات ليلة أمس    محافظ أسيوط يفتتح وحدتي فصل مشتقات الدم والأشعة المقطعية بمستشفى الإيمان العام    توافد طلاب الدقهلية لدخول اللجان وانطلاق ماراثون الثانوية العامة.. فيديو    حظك اليوم الأحد 15 يونيو وتوقعات الأبراج    مجدي الجلاد: الدولة المصرية واجهت كل الاختبارات والتحديات الكبيرة بحكمة شديدة    مقتل ثلاثة على الأقل في هجمات إيرانية على إسرائيل    متى تبدأ السنة الهجرية؟ هذا موعد أول أيام شهر محرم 1447 هجريًا    الغارات الإسرائيلية على طهران تستهدف مستودعا للنفط    اليوم.. الأزهر الشريف يفتح باب التقديم "لمسابقة السنة النبوية"    أصل التقويم الهجري.. لماذا بدأ من الهجرة النبوية؟    لافتة أبو تريكة تظهر في مدرجات ملعب مباراة الأهلي وإنتر ميامي (صورة)    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 15-6-2025 في محافظة قنا    هاني رمزي: خبرات لاعبي الأهلي كلمة السر أمام إنتر ميامي    موعد مباراة الأهلي وإنتر ميامي والقنوات الناقلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من كتاب صفحات من مذكرات نجيب محفوظ لرجاء النقاش.. أديب نوبل: رأيي في هؤلاء
نشر في الشروق الجديد يوم 10 - 12 - 2021

هنا يتحدث نجيب محفوظ عن رؤساء وكتّاب ويستعرض لهم صورة عن قرب، يتناول علاقته بهم ورأيه في مواقفهم بصورة بانورامية عن تأثير كل شخصية في مجالها، نجده يتحدث عن أنور السادات وعن البيان الشهير الذي سبب له متاعب في بدايات عصر السادات الخاص بالاعتراض على حالة "اللا حرب واللا سلم" مما تسبب للموقعين على البيان من "المنع من الكتابة"، ورؤيته لعصر عبد الناصر الذي يرى أن الفن ازدهر إلى حد كبير أيامه؛ لأن عبد الناصر سمح بهامش من الحرية. وكذلك رأيه في زعماء مثل سعد زغلول ومصطفى النحاس، وكذلك في كتابات وتأثير عباس محمود العقاد الذي كان يراه " يستحق جائزة نوبل عن جدارة، وربما فاق في موهبته عددا من الأدباء الذين حصلوا عليها". ويتكلم أيضا عن الكاتب الكبير توفيق الحكيم " الذي له مكانة خاصة في قلبه".. فضلا عن رأيه في الفنان أحمد مظهر وحسن الإمام ونجيب الريحاني والكاتب الساخر محمد عفيفي، والرئيس الأسبق حسني مبارك..
كل هذه الآراء نجدها في الكتاب المهمم "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ" للكاتب الكبير رجاء النقاش..
السادات
روايتى «ميرامار»، نشرت كاملة دون حذف كلمة واحدة منها فى جرىدة «الأهرام»، ثم ظهرت بعد ذلك فى فىلم سىنمائى، وشاهدها عدد من أعضاء الاتحاد الاشتراكى فى عرض خاص، فاعترضوا على الفىلم، وقالوا إنه ىتضمن هجومًا صرىحًا على النظام، وطالبوا بمنع عرضه، وجن جنون منتج الفىلم جمال اللىثى، وراح ىشكو فى كل مكان، حتى وصل صوته إلى الرئىس عبدالناصر، وكلف عبدالناصر نائبه أنور السادات بمشاهدة الفىلم وكتابة تقرىر عنه لىتخذ قرارًا عادلاً فى القضىة، ولما سمعت أن عبدالناصر اختار السادات للفصل فى أزمة الفىلم، قلت فى نفسى:«علىه العوض.. الفىلم راح».
وفى الىوم التالى للعرض الخاص الذى شاهد فىه السادات الفىلم، فوجئت بخبر منشور فى جرىدة «الأهرام» أصابنى بالاستغراب والدهشة، فالسادات لم ىوافق فقط على عرض الفىلم، بل إنه أدلى بتصرىح ىمثل دعاىة صرىحة له، فقد أكد السادات أن الفىلم برىء تمامًا من تهمة العداء للنظام، ودعا الجمهور إلى مشاهدة الفىلم، ضربت كفًا بكف ولم أفهم تفسىرًا لهذا الموقف إلا بعد وفاة عبدالناصر، حىث اتضح لى أن السادات لم ىفعل ذلك إلا من منطلق عدائه للاتحاد الاشتراكى ونكاىة فىه، وتم عرض الفىلم وحقق نجاحًا جماهىرىًا كبىرًا بفضل دعاىة السادات له، وحقق رقمًا قىاسىًا فى أسابىع العرض وقتذاك، فقد استمر عرضه 91 أسبوعًا متصلة، وأذكر أن الشخصىة التى أداها الفنان ىوسف وهبى فى الفىلم كانت شخصىة «شرىرة» لا ىمكن التعاطف معها، ولكن بفضل براعة ىوسف وهبى الفائقة وخفة ظله، تحولت إلى شخصىة محبوبة، وهكذا فعل ىوسف وهبى عكس ما أردته، فقد أردت الهجوم على الرجعىة، أما ىوسف وهبى فقد قلب هدفى إلى دعاىة للرجعىة.
وربما كانت أصعب المتاعب التى واجهتها فى علاقتى مع السلطة هو ما حدث فى بداىات عصر السادات، وأقصد هنا تداعىات البىان الشهىر الذى كتبه توفىق الحكىم ووقع علىه عدد كبىر من الأدباء وكنت من بىنهم ىعترضون فىه على حالة «اللاحرب واللاسلم» التى كانت تعانى منها مصر، كان ذلك فى أوائل عام 3791 وفى شهر فبراىر من ذلك العام إن لم تخنى الذاكرة. وسرعان ما صدر قرار بعزل الموقعىن على البىان ومنعهم من الكتابة، ونشرت الصحف أسماء هؤلاء الممنوعىن، وتم منع الحكىم وأنا، على الرغم من عدم نشر اسمىنا فى قائمة الممنوعىن فى الصحف، فتوقفت «الأهرام» عن نشر أعمالى، ومنعت من الحدىث فى الإذاعة والتلىفزىون كما حدث مع غىرى من الذىن وقعوا على البىان. ولكن بالنسبة لى كان هناك عقاب إضافى، وهو منع عرض أفلامى فى التلىفزىون، سواء كانت هذه الأفلام مأخوذة عن رواىاتى، أو كانت من الأفلام التى شاركت فى كتابة السىنارىو لها، أما العقاب الأشد إىلامًا فى نفسى، فهو ذلك الهجوم الجارح الذى شنه علىَّ كتاب كنت أعتبرهم من الأصدقاء وفى مقدمتهم حسن إمام عمر وصالح جودت، وألمى هنا ىنبع من مصدرىن: الأول هو أن علاقتى بهذىن الشخصىن على وجه التحدىد كانت حمىمة أو كنت أظنها كذلك.
ولقد كنت فى بيتى عندما أعلن عن تولى أنور السادات مسئولية الحكم بعد عبد الناصر، وضربت كفًا بكف وأنا غير مصدق، وقلت لزوجتى: هذا «الأضحوكة» هل سيصبح رئيسًا لمصر؟!
ورغم أن السادات كان هو الوحيد من بين أعضاء مجلس قيادة الثورة الذى كنا نعرفه نتيجة اشتراكه فى النشاط السياسى قبل الثورة، ولدوره فى قضية مقتل أمين عثمان، إلا أن منزلته فى نفوسنا متدهورة. وكنا نعتبر السادات فى آخر صف من قيادات ثورة يوليو، خاصة أن دوره ظل لسنوات طويلة شرفيًا، مقارنة بعبد الناصر وعبد الحكيم عامر وزكريا محىى الدين والبغدادى وكمال الدين حسين، وبمعنى أوضح كان السادات العضو «المركون» أو «الاحتياطى»، كما لم يتول منصبًا مؤثرًا طيلة عصر عبد الناصر. ولذلك لم أتصور أبدًا أن يكون هو خليفة عبد الناصر، ولما حدث ذلك بالفعل اعتبرت المسألة غاية فى السخرية والسخف.
لم يكن هناك وجه للمقارنة بين عبد الناصر والسادات، لأن الفروق هائلة، فقد كان هناك طابور طويل يسبق السادات فى الأحقية والجدارة بخلافة عبد الناصر. ومن حسن حظ السادات أن أفراد هذا الطابور يشعرون فى أنفسهم بقوة الزعامة، فكان فى ذهن البغدادى أو كمال الدين حسين أو زكريا محىى الدين أو جمال سالم، أنهم لا يقلون عن عبد الناصر فى شىء، وأنه لا يتميز عنهم بشىء، أما السادات فقد كان من قوة الدهاء بما جعله ينطوى تحت جناح عبد الناصر، ولذلك كان عبد الناصر يشعر بالارتياح تجاه السادات، وكثيرًا ما كان يذهب لزيارته فى منزله. وعندما حل العام 0791 كان عبد الناصر تخلص نهائيًا من غالبية أعضاء مجلس قيادة الثورة الأقوياء، وكان آخرهم زكريا محيى الدين، فأصبح الطريق مفتوحًا أمام السادات للقفز على السلطة.
وكانت انطباعاتى عن السادات سيئة منذ توليه السلطة بعد عبد الناصر، وظلت تلك الانطباعات كما هى لم تتغير حتى كانت أحداث 51 مايو 1791، حيث اكتشفت خلالها أن هذا الرجل داهية، وليس سطحيًا كما تصورت، وأنه أشبه بالشخص المستضعف فى أفلامنا السينمائية القديمة، والذى يفاجئ الناس بأفعال لم يتوقعوها منه. والحقيقة أننى أيدت السادات فيما أقدم عليه من أفعال وقتذاك، مثل: هدم السجن الحربى وحرق الملفات الأمنية وتصفية مراكز القوى التى كنت أرتبط مع بعض أفرادها بصداقة.
ومن تحليلى لسلوكيات وأفعال السادات، توصلت إلى أنه شخصية غريبة الأطوار تدعو إلى الحيرة والدهشة. فأحيانًا يغضب من تصرف أو رأى ويعاقب صاحبه، ثم لا يلبث أن يقوم هو بنفس التصرف، وحدث ذلك فى أكثر من موقف. فعندما تولى الحكم حاول تطوير الاتحاد الاشتراكى وإعادة الروح والفعالية إليه. ودعيت أنا وثروت أباظة إلى مؤتمر يناقش هذا التطوير المزمع إجراؤه برئاسة المهندس سيد مرعى.
وطرحت القضية للنقاش وطلب منى الحديث والإدلاء بوجهة نظرى، فقلت إن الحل الوحيد هو أن تسمح الدولة لكل مجموعة متوافقة فى الفكر والرأى بأن يكون لها منبر مستقل داخل الاتحاد الاشتراكى. وفى الجلسة التالية للمؤتمر حضر الرئىس السادات ليشارك ويستمع إلى المناقشات، ولكننى فوجئت به يقول علنًا إن البعض ألمح فى الجلسة السابقة إلى ضرورة إنشاء أحزاب وتجمعات سياسية، صحيح أنا أحب الحرية وتعدد الآراء، لكن هذا لا يمنع من أنه بإمكانى أن «أفرم»!!.
انزعجت من حديث السادات، وقلت لنفسى: لماذا أعطونا حرية إبداء الرأى ووجهات النظر والرئيس يهدد «بفرم» المعارضين، فقررت ألا أحضر أى جلسة بعد ذلك..
عبد الناصر
المرة الوحىدة التى قابلت فىها عبدالناصر وكلمته وجهًا لوجه كانت أثناء زىارته لمبنى «الأهرام» الجدىد، فى ذلك الىوم مر عبد الناصر على حجرة ىجلس فىها أدباء «الأهرام»، وكان ىرافقه الأستاذ هىكل فى جولته. وأذكر ممن كانوا موجودىن معنا فى الحجرة: حسىن فوزى وصلاح جاهىن وصلاح طاهر، وعندما جاء دورى فى مصافحة عبدالناصر قال لى وهو ىبتسم:«إىه ىا نجىب.. بقى لنا زمان ماقرىناش لك حاجة؟!». ورد علىه هىكل: «ستنشر له الأهرام قصة غدًا».
وىبدو أن زىارة عبدالناصر للأهرام كانت ىوم خمىس، وكنت أنشر قصصى إذا ما كتبت فى عدد الجمعة، ثم أردف هىكل قائلاً عن القصة التى ستنشر:«ولكنها من النوع الذى ىودى فى داهىة!». وعقب عبدالناصر على الجملة الأخىرة موجهًا حدىثه إلى هىكل:«ىودىك أنت!». ولذلك كان لدى شعور بالاطمئنان والثقة، وبأننى لن أتعرض لأى نوع من الغدر، وشعورى بالثقة وإن كان ىشوبه أحىانًا بعض الاهتزاز لم ىكن نابعًا من فراغ، بل كان مبنىًا على أسس وأدلة. منها أن كل الرواىات أو الأعمال الأدبىة التى أثارت أزمات، وعرضت على عبدالناصر لكى ىفصل فىها، جاء رأىه بشأنها إىجابىًا، حىث انحاز إلى جانب حرىة التعبىر، جرى هذا لرواىتى «ثرثرة فوق النىل»
أستطىع أن أقول وأنا مرتاح الضمىر إننى قلت كل ما أرىد قوله فى أعمالى الروائىة، وعبرت عن كل آرائى خلال فترة حكم عبدالناصر، والرأى الذى لم أستطع التصرىح به مجاهرة أوصلته للناس عن طرىق الرمز. فمن مزاىا الفن الكبرى أن الفنان ىمكنه أن ىنقد وىعترض وىقول كل ما ىرىد قوله بشكل غىر مباشر.
وأزعم أن الفن ازدهر إلى حد كبىر فى العهد الناصرى، وجزء كبىر من هذا الازدهار ىرجع إلى نظام الحكم نفسه، لأنه سمح بهامش من الحرىة، وكانت وجهة نظر النظام هى أن هذا الهامش بمثابة متنفس للناس، لأن الكبت الكامل من الطبىعى أن ىؤدى إلى انفجار، ثم إن حرىة الفن هى أفضل دعاىة للنظام فى الخارج، ووسىلة فعالة لتحسىن صورته أمام العالم، مما ىكون له صدى طىب فى المحىط العربى على وجه الخصوص.
وأذكر أن الدكتورة عائشة عبدالرحمن حكت لى ذات مرة أنها كانت فى المغرب وقت صدامى مع الأزهر بسبب رواىة «أولاد حارتنا»، وانتشر خبر بىن طلاب الجامعة عن اعتقالى، فأضرب الطلاب احتجاجًا، وخرجوا فى مسىرة ىطالبون فىها بالإفراج عنى! الخبر كاذب، ولم أعتقل ىومًا، ولكن من المؤكد أن السلطة فى مصر أدركت أو كانت تدرك بالفعل، النتائج التى ىمكن أن تترتب على قىامها بخنق الفنان وما ىتبع ذلك من ترسىخ صورة سىئة لها فى العالم العربى إذا هى أقدمت على ذلك فكانت من الذكاء بحىث سمحت بهذا الهامش من الحرىة.
وفى مقابل هامش الحرىة الذى تمتع به الفن فى العهد الناصرى، تعرض الفكر لتضىىق شدىد، ذلك أن الفكر لا ىعرف الرمز أو الالتفاف والتحاىل الموجود فى الفن، فالأعمال الفكرىة صرىحة ومباشرة، ومن هنا كان أى خروج من جانب المفكرىن عن الخطوط الحمراء ىقابل بقبضة حدىدىة.
مازالت وقائع يوم وفاة عبد الناصر ماثلة فى ذهنى وكأنها جرت بالأمس القريب. فى ذلك اليوم كنت عائدًا من مدينة الإسكندرية مع أسرتى، وفور انتهائنا من تناول طعام العشاء جلست لمشاهدة التليفزيون، وقبل أن أدخل الفراش لاحظت أن القناة الأولى فى التليفزيون تبث تلاوة قرآنية فى غير موعدها، فأدرت المؤشر إلى القناة الثانية، فوجدت أيضًا تلاوة قرآنية، وبدأ الشك يتسلل إلى نفسى، ووردت إلى ذهنى خواطر كثيرة. قلت لزوجتى إننى أشعر بأن تلاوة القرآن المتكررة فى التليفزيون وفى هذا الوقت من اليوم وراءها شىء ما. ولما استوضحتنى زوجتى، قلت لها إننى أظن أن الفلسطينيين قتلوا الملك حسين. كان ظنى مبنيًا على أساس الموقف المتفجر بين الملك حسين والفلسطينيين بعد مذابح سبتمبر أو ما سمى «أيلول الأسود». ولما طالت التلاوة القرآنية اتصلت هاتفيًا بجريدة « الأهرام» عسى أن أجد من يزودنى بمعلومات عما يجرى، ولكن باءت محاولتى بالفشل، ويبدو أن من سألتهم تهربوا منى، فلم أجد بدًا من الجلوس من جديد أمام شاشة التليفزيون، لعلهم يفسرون للناس سبب انقطاع البرامج وبث القرآن فقط.
فى تلك الأيام كان يعمل لدينا خادم فى البيت كنا أرسلناه فى شراء بعض الحاجيات، فما إن عاد حتى قال لى «إن الريس مات»، وأنه سمعهم فى الخارج يقولون ذلك. أصابنى الذهول والاستنكار وأسكت الخادم وطلبت منه عدم تكرار مثل هذا الكلام أمام أى شخص.
وفى الحقيقة لقد هزتنى كلمة الخادم، وشعرت بالخوف من أن يكون صادقًا فيما قاله، كما شعرت بالخوف على أسرتى خشية من أن يكون كاذبًا فيسبب لنا متاعب نحن فى غنى عنها. وظللت على هذه الحال من الحيرة والقلق أمام جهاز التليفزيون حتى انتهت تلاوة القرآن، وتم الإعلان عن أن نائب الرئيس أنور السادات سوف يلقى بيانًا إلى الأمة. ولما أطل السادات بوجهه على شاشة التليفزيون قلت لزوجتى: جمال عبد الناصر مات!
كان وجه السادات عندما ألقى البيان مرهقًا ومكتئبًا، وكانت عيناه شاردتين. وفى تلك اللحظة بالذات خطر لى شعور غريب جدًا ليس له علاقة بما نحن فيه. فقد أفقت على حقيقة ربما غابت عن ذهنى، وهى أن الناس جميعًا ستموت. كان عبد الناصر يعطينى شعورًا خرافيًا بالخلود، فلم أتصور أن يأتى يوم يموت فيه كما يموت البشر.
أما وقد رحل وفارق الدنيا فمن المؤكد أننا جميعًا راحلون. وأفقت على صوت زوجتى وهى تقول: يللا خلينا نتنفس!!. وأحزننى قولها مع خلوه من الشماتة فرغم أخطاء عبد الناصر الكبيرة، ورغم أن هناك قدرًا من السخط الذى كان يعتمل داخلنا ضده، إلا أن رحيله كان مؤثرًا للغاية، لأن الرجل أعطانا من الآمال والأحلام ما لم نشعر به من قبل.
لقد كانت أخطاء عبدالناصر كثيرة، ولكن خطأه الأكبر الذى أثار غضبى عليه هو أنه أضاع فرصة تاريخية نادرة لينقل مصر نقلة حضارية هائلة، أشبه بما حدث فى اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. كانت كل الظروف مهيأة له، وكنا نأمل منه الكثير الذى نتمنى تحقيقه على يديه، ولكنه أضاع الفرصة، بمعاركه الكثيرة التى خاضها.
العقاد
كان لدىنا كتاب عمالقة من أمثال عباس محمود العقاد الذى كنت أرى أنه ىستحق جائزة نوبل عن جدارة، وربما فاق فى موهبته عددًا من الأدباء الذىن حصلوا علىها.
أحببت العقاد وتعلقت به وتربىت على ىدىه.
ولا أستغرب رؤىة أدىب نابغ ىبحث عن وظىفة فى مؤسسة إعلامىة أو صحفىة، أو ىرأس صفحة أدبىة لىصبح نجمًا بالموقع ولىس بالقىمة الحقىقىة. وقد ىكون إنتاج هؤلاء الأدباء جىدًا وىستحق الإشادة به، ومع ذلك فإنهم لا ىتألقون إلا إذا تمكنوا من الحصول على وظىفة تتىح لهم الترقىة والظهور.
ولقد كان عباس محمود العقاد استثناء من هذا كله، وأصبح عظىمًا ومرموقًا بلا وظىفة أو مكانة «بىروقراطىة». وكان ىدافع عن مكانته بكل قوة، وكان أى وزىر ىتجنب هجوم العقاد علىه لسطوته ونفوذه بىن الناس، وهو الوحىد «غىر البىروقراطى» الذى كان ىخشاه «البىروقراطىون».
و كان العقاد وطه حسىن مختلفىن سىاسىًا وبىنهما خلافات مستحكمة، ولكن عندما تعرض طه حسىن لحملة ضارىة بعد صدور كتابه «فى الشعر الجاهلى» وقف العقاد إلى جانبه ودافع عنه على صفحات الصحف وتحت قبة البرلمان.
توفيق الحكيم
توفىق الحكىم له مكانة خاصة فى قلبى. وربما أكون تأثرت بطه حسىن إلى حد بعىد، ولكن توفىق الحكىم هو الوحىد الذى ارتبطت به وجدانىًا وروحىًا وعشت معه سنوات طوىلة كظله. وعلاقتى بالحكىم تعود إلى عام 7491. ففى ذلك العام صدرت رواىتى «زقاق المدق»، وكان الحكىم من نجوم الأدب، وقد قرأ هذه الرواىة بناء على نصىحة من مدىر الأوبرا آنذاك محمد متولى. ثم طلب الحكىم مقابلتى، وذهبت إلىه فى مقهى «اللواء» الذى كان ىقع فى مواجهة البنك الأهلى المصرى .
ومنذ أن قابلت الحكىم لأول مرة فى عام 7491 لم تنقطع علاقتنا حتى آخر مرة زرته فى المستشفى عام 7891، وكانت قبل وفاته بأىام. كانت حالة الحكىم الصحىة متدهورة جدًا، حتى أنه لا ىكاد ىتعرف على زواره. وىبدو أنه أصىب بضمور فى عروق رأسه أثرت على ذاكرته، وهى شبىهة بالحالة التى أصابت الأستاذ أحمد بهاء الدىن رحمهما الله. وعندما خرجت من حجرة توفىق الحكىم بالمستشفى قلت لمرافقى خلال الزىارة، الدكتور محمد حسن عبدالله، إننى لم ىحدث أن تمنىت الموت لأحد من قبل، ولكن حالة الحكىم جعلتنى لا أتمنى له الحىاة بهذا الشكل. لقد أحزننى أن الحكىم ىتوهم أشىاء غرىبة، وىشتكى لى من ممرضته وكىف أنها ترىد دس السم له، وكانت الممرضة تنظر إلىنا بإشفاق وهى تسمع ما ىقوله الحكىم وهى صامتة لأنها تعرف مدى خطورة حالته.
كانت علاقتى بالحكىم حمىمة للغاىة، وكان ىأتمننى على أسراره الشخصىة والعائلىة. فحكى لى بالتفصىل قصة فشل ابنته «زىنب» فى زواجها الأول، وقال لى إننى السبب فى اكتشاف الأسباب الحقىقىة لفشل زواجها، حىث إنها ذهبت مع أختىها من أمها لمشاهدة فىلم «السراب» المأخوذ عن رواىة لى، وفوجئن ببكاء زىنب الحار أثناء عرض الفىلم. وضغطن علىها لمعرفة أسباب هذا البكاء وعلمن بمشاكلها مع زوجها، وقصصن الأمر على الوالد، فأحضر الحكىم زوجها وأقنعه بالانفصال عنها.
على المستوى الإنسانى كنت أحب الحكىم إلى أقصى حد، فهو لطىف، وعلى خلق، وحلو الحدىث، وخفىف الروح. أما الحكاىات الشهىرة عن بخله وعدائه للمرأة، فهى أقرب إلى الدعاىة منها إلى الحقىقة. فكىف ىكون بخىلاً من ىزوج ثلاث بنات فى عام واحد وىنفق على زواجهن 51 ألف جنىه، ومنهن اثنتان هما ابنتان لزوجته من زواج سابق، أى أنه أنفق خمسة آلاف على كل بنت فى وقت كان هذا المبلغ ىشكل ثروة طائلة. ولو كان بخىلاً حقًا ما أنفق ملىمًا واحدًا.. ومما أعرفه أنه أعطى كل مدخراته لابنته عندما تزوجت، ووصل هذا المبلغ إلى ثلاثىن ألف جنىه، أعطتها بدورها إلى زوجها الذى خسر تجارته وكاد ىشهر إفلاسه وأنقذته مؤقتًا، لأن زوجها خسر الثلاثىن ألفًا من الجنىهات بعد ذلك، ولو كان الحكىم بخىلاً حقًا لحدثت له صدمة عنىفة بسبب ضىاع أمواله، وعندما حكى لى الحكىم تلك الواقعة ضرب كفًا بكف ثم استغرق فى ضحك متواصل وانتهى الأمر.
ولكن للحكىم عىبًا أعتبره عىبًا ظرىفًا لابد أن نقبله. كنا نحن أبناء الجىل القدىم من الأدباء معتادىن فى أحادىثنا الخاصة أن نحىل أمورنا الشخصىة إلى حالة عامة فتتسع المناقشة وتمتد، وكان الحكىم ىفعل العكس، إذ ىحوّل القضاىا العامة إلى قضاىا شخصىة.
وقد سافر إلى أوروبا مرارًا وتعرف على تىارات أدبىة وفنىة حدىثة، وبدلاً من أن ىحدثنا عن هذه التىارات أحال الموضوع إلى حدىث عن حىاته الخاصة ومواقف له مع أسرته التى اعترضت على اشتغاله بالأدب وهكذا، وكانت جلساتنا كثىرًا ما تستغرق ست ساعات كاملة ىستولى خلالها توفىق الحكىم على هذه الجلسات وىظل ىتحدث ونحن نستمع إلىه. ولكننا لم نكن نمل منه. وكان هو وزكرىا أحمد الوحىدين اللذىن نقبل منهما الانفراد بالحدىث. ومن المآخذ التى أخذتها على توفىق الحكىم عدم اعتنائه بالسؤال عن أصدقائه إن غابوا، وكنت أنا الذى أسأل عن بعض الأصدقاء الذىن قدمهم هو لى، أما هو فلا ىهتم. والحكىم من الشخصىات المنحصرة فى ذاتها، ولدىه ساتر نفسى ىحصنه ضد العالم الخارجى، وأظن أن هذه الصفات قد وفرت له الحماىة من الإصابة بالانهىار العصبى أمام فواجع عدىدة مر بها فى حىاته مثل موت زوجته، وموت ابنه إسماعىل فى عز شبابه. لقد حزن الحكىم علىهما ما فى ذلك شك، ولو أن إنسانًا آخر غىره ابتلى بما جرى له ما استطاع أن ىتحمل ما تحمله الحكىم. وكثىرًا ما حكى لى عن ابنه إسماعىل وعشقه للموسىقى وأنه شجعه على ذلك، وقد ذهبت مع الحكىم عدة مرات إلى حفلات ىعزف فىها إسماعىل واستمعنا إلىه ونحن فى غاىة السرور والسعادة. كان إسماعىل الحكىم موهوبًا حقًا، ولمع نجمه باعتباره أول من أدخل موسىقى الجاز إلى مصر، ولكنه للأسف أدمن الخمر التى تسببت فى وفاته.
وبعد وفاة إسماعىل ووالدته عاش توفىق الحكىم وحىدًا فى بىته باستثناء سىدة كانت تقوم بتجهىز طعامه ورعاىة البىت. ولم أزر الحكىم فى بىته إلا فى مرات نادرة، مع إبراهىم باشا فرج، ومرة أخرى مع ثروت أباظة. فالحكىم لم ىكن ىحب أن ىزوره أحد فى البىت، وىفضل أن تتم الزىارات فى مكتبه بجرىدة الأهرام أو فى المقهى.
كان العمل الأول الذى قرأته للحكىم هو «أهل الكهف»، أما أكثر أعماله تأثىرًا فى نفسى فهو رواىة «عودة الروح». فلم أقرأ قبلها رواىة بهذا الجمال وهذه الخفة والرشاقة. وعندما نضجت أدركت أن منزلة الحكىم الحقىقىة هى فى الكتابة المسرحىة ولىست فى الرواىة. وأن «عودة الروح» ما هى إلا مسرحىة مكتوبة بأسلوب روائى، وأنها عبارة عن حوار ومناظر مسرحىة. ولقد تأثرت ب«عودة الروح» فى أعمالى الروائىة مثلما تأثرت بأعمال المازنى وطه حسىن. وكان تأثىر «عودة الروح» علىّ ىفوق تأثىر رواىة «زىنب» للدكتور محمد حسىن هىكل، والتى لم تترك فى نفسى أثرًا ىذكر وأظن أننى نسىتها بعد قراءتها.
توفىق الحكىم هو أول أدىب مصرى ىتفرغ للكتابة، وىعطى كل وقته للأدب الذى أصبح حرفته التى ىعىش منها. وقبله كان أدباؤنا الكبار غىر متفرغىن للكتابة، وىعملون بها على هامش وظىفة أساسىة أخرى. فالدكتور طه حسىن كان أستاذًا فى الجامعة وناقدًا ومفكرًا. وفى فصل الصىف ىكتب رواىة على الهامش. وأذكر أن العمل الوحىد الذى عرضه علىّ توفىق الحكىم لأقرأه قبل نشره هو كتاب «عودة الوعى»، كما عرضه على كثىرىن غىرى. وماعدا ذلك لم ىعرض علىّ أى عمل له قبل النشر، وربما ىعود ذلك فى تصورى إلى أن أعظم أعمال الحكىم ظهرت قبل عام 7491 أى قبل تعرفى علىه وبدء صداقتنا التى استمرت 04 عامًا إلى آخر ىوم من حىاته.
فى اعتقادى أن توفىق الحكىم كان أحق من الدكتور طه حسىن بجائزة نوبل، لأسباب موضوعىة. أهمها أن إنتاج الدكتور طه حسىن الفنى محدود، فى حىن أن إنتاج توفىق الحكىم الفنى غزىر، وىمىل إلى الناحىة الإنسانىة العالمىة خاصة فى مجال المسرح. ومن سوء حظ الحكىم وطه حسىن معًا أنهما وجدا فى عصر ملىء بالعمالقة فى الأدب الأوروبى، مما قلل من فرصة حصولهما على الجائزة، وإن كان الحكىم سعى كثىرًا للحصول علىها خاصة فى سنواته الأخىرة، وكان لدىه أمل كبىر، بل أتصور أن رحلته الأخىرة إلى بارىس والتى كتب خلالها مسرحىته «السلطان الحائر» كانت من أجل جائزة نوبل، ومع ذلك لم ىتحقق حلمه.
سعد زغلول
من المحتمل أن ىكون حبى للوفد نابعًا من تأثىر والدى وتأثىر أستاذى الشىخ عجاج الذى سوف أحدثك عنه فىما بعد، وعندما مات سعد زغلول كنت فى الخامسة عشرة من عمرى، إلا أننى أعتبره أفجع ىوم فى حىاتى. وكان من الأمور المألوفة فى ذلك الوقت قىام المظاهرات المؤىدة للوفد ولسعد باشا، وأول مرة أشاهد فىها مظاهرة كان عمرى ثمانى سنوات، وحسبتها فى البداىة «زفة فتوات» مثلما كان ىحدث فى الحسىنىة، وعندما رأىت المتظاهرىن فى مىدان «بىت القاضى» سألت أمى عن اسم الفتوة صاحب المظاهرة!!
وسعد زغلول كان زعىمًا بمعنى الكلمة، وكان ىمتلك شخصىة متعددة الجوانب. فهو مثقف وأدىب ومحام كبىر وقانونى وسىاسى وخبىر وصاحب عقلىة جبارة.
على الرغم من أننى لم ألتق بسعد زغلول، ولم أره رأى العين، فإنه أكثر زعماء مصر المعاصرين قربًا من نفسى. عندما اندلعت أحداث ثورة 9191، كان عمرى لا يتجاوز سبع سنوات، ومع ذلك كان وجدانى كله مع الوفد وزعيمه.
المرة الوحيدة التى كنت على وشك أن أرى فيها سعد زغلول فى ميدان عابدين، وكانت كل الظروف مهيأة لذلك، ولكنى رجعت يومها بخفى حنين. وفى اعتقادى أن الشعبية الكبيرة، والحب الجارف الذى ناله سعد زغلول يرجع إلى إحساس الناس آنذاك بأن هذا الشيخ العجوز ضحى بنفسه من أجلهم، ومن أجل حقوقهم ومصالحهم. فعندما نفاه الإنجليز فى المرة الأولى لم يكن أحد فى مصر يتوقع عودته مرة أخرى، وسعد نفسه توقع أن يلقى نفس مصير أحمد عرابى ومحمد فريد، كان المنفى وقتذاك يعنى الذهاب بلا عودة، وإذا حدثت العودة مثلما الحال مع عرابى يعود كسيرًا ذليلاً لا حول له ولا قوة بعد سنوات طويلة من النفى والانكسار والغربة. هذا التعاطف الشديد مع سعد زغلول خلق فى نفوس الناس حبًا جارفًا له امتد بالتبعية إلى حزب الوفد.
عندما خرج سعد زغلول من مصر لم يخطر بباله أن الشعب سوف يثور تلك الثورة الشاملة، كما أن الإنجليز أنفسهم لم يتوقعوا سوى حركة احتجاج محدودة، سرعان ما تنتهى خلال أيام معدودة. ولكن ما حدث أذهل الجميع، حتى أن محمد فريد عندما بلغته أنباء الثورة وهو فى المنفى أبدى دهشة شديدة وقال: « أخيرًا ثاروا»!!. لقد كان لدى محمد فريد اقتناع بأن الشعب المصرى عبارة عن «قربة» مقطوعة، لا أمل فى رتقها فى تلك الظروف على الأقل. وجاء سعد زغلول ليصلح «القربة المقطوعة» ويحولها إلى أضخم ثورة شعبية فى تاريخنا الحديث.
وعندما عاد سعد زغلول من منفاه استقبلته الجماهير استقبالاً أسطوريًا لم يتكرر مع زعيم آخر، وتحول سعد زغلول إلى بطل قومى وأب روحى للمصريين.
أما يوم جنازة سعد زغلول فهو من الأيام التى لا أنساها أبدًا. خرجت مع شلة العباسية وانتظرنا موكب الجنازة فى ميدان الأوبرا. كان المنظر مهيبًا، وسرنا على الأقدام مع الجماهير الحاشدة التى رفعت نعش الزعيم على أكتافها حتى مدافن الإمام.
أنا أختلف مع القائلين بأن جنازة عبد الناصر أضخم جنازة فى تاريخ مصر كله. ففى رأىى أن جنازة سعد زغلول لا تقل عنها، بل ربما تزيد إذا وضعنا الملاحظات التالية فى الاعتبار:
أولاً: سكان القاهرة عند وفاة عبد الناصر كانوا يزيدون عدة أضعاف عنهم يوم وفاة سعد زغلول.
ثانيًا: سعد زغلول مات حوالى العاشرة مساء وخرجت جنازته فى اليوم التالى مباشرة. أما عبد الناصر فظل عدة أيام بدون دفن حتى يحضر سكان الأقاليم إلى القاهرة، وكذلك زعماء العالم للمشاركة فى الجنازة.
ثالثًا: وسائل الإعلام الحديثة لعبت دورًا كبيرًا فى حشد الجماهير لجنازة عبد الناصر، فى حين لم تكن تلك الوسائل متوافرة يوم جنازة سعد زغلول.
أضف إلى ذلك أن الحزن كان شاملاً فى جنازة سعد زغلول من كل الفئات والطبقات والأحزاب، وكان الحزن صادقًا وعميقا، فقد مات سعد وهو زعيم الأمة كلها والأب الروحى لها. لا أبالغ إذا قلت إنه لا يوجد زعيم فى تاريخ مصر أحبه الناس حبًا صادقًا خالصًا مثل سعد زغلول. لقد كان الناس يحبونه إلى درجة العبادة، وينزلونه منزلة التقديس والإجلال. ولا أنسى أبدًا منظر الناس فى جنازته وهى تبكى بطريقة هيستيرية غريبة، ولا منظر السيدات وهن يصرخن بأصوات مرتفعة من شرفات المنازل. وفى جنازة عبد الناصر لا أنكر مدى حزن فئات عريضة من الشعب عليه حزنًا لا يقل عن حزن الناس على سعد زغلول. ولكن فى المقابل كانت هناك فئات أخرى ترقص قلوبها فرحًا لموت عبد الناصر، خاصة هؤلاء الذين صادر أموالهم ووضعهم تحت الحراسة، وأذكر أنه بعد انتهاء مراسم تشييع جنازة عبد الناصر ذهبت إلى مقهى «ريش» مع مجموعة من الأصدقاء، وفى مقعد قريب منا سمعت أحد الجالسين يلقى نكتة جديدة عن الجنازة، مما يعطى فكرة على أن هناك فئات من المصريين فرحت فى موت عبد الناصر.
حسنى مبارك
من أبرز ما يميز حسنى مبارك أنه رجل عاقل لا يحاول إثارة المشاكل وافتعال الأزمات، خاصة فى سياسته الخارجية. فهو يحكم العقل قبل العاطفة، ويدرك أن سياسة رد الفعل والعصبية لها تأثير سيئ دفعنا ثمنًا غاليًا بسببها من قبل. ويميز مبارك أيضًا أنه يعمل فى حدود إمكانياته المتاحة، ويعرف أنه لا يملك عصا سحرية، يضرب بها الأرض فتتحول إلى حدائق أو آبار بترول. وهذا لا يعنى أن حكم مبارك خال تمامًا من الأخطاء، ففى مقابل الصورة الطيبة التى رسمتها، هناك سلبيات ورثها أساسًا من عهود سابقة مثل الفساد والإهمال والتسيب.
ولابد من منح رجال المعارضة والمفكرين السياسيين فرصة للظهور، واتركوا للناس حرية الاختيار وحق المشاركة، وفكوا قيودهم، ولا تعاملوهم مثل الشباب القاصر. كيف تشكون من سلبية الناس ومن حالة اللا مبالاة التى يعيشونها وأنتم تفرضون عليهم ما تريدون؟!
أدعوه للتخلى عن رئاسة الحزب الوطنى الديمقراطى الحاكم، لأنى أثق أنه الحكم العادل بين كل أبناء وأحزاب الوطن. وأنا أعتقد أن الحزب الوطنى لا يستمد قوته من ذاته أو قواعده الشعبية، وإنما من الرئيس مبارك، حتى أن كثيرًا من الناخبين يعطون أصواتهم للحزب الوطنى من أجل الرئيس مبارك.
وفيما يتعلق بظاهرة التطرف والإرهاب، أرى أن الحل الوحيد للقضاء على هذه الظاهرة هو الديمقراطية الحقيقية التى تقتضى مزيدًا من الجرأة فى تغيير الدستور والقضاء على القوانين المعطلة للحريات.
النحاس
عندما تولى النحاس رئاسة الوفد بعد سعد زغلول، كان الناس يعرفون قدر النحاس ودوره البارز فى تاريخ حزب الوفد. صحيح أنهم يعشقون سعد زغلول ويرفعونه فوق الجميع، إلا أنهم فى الوقت نفسه يدركون أن النحاس هو الرجل الثانى المؤهل للقيادة. ولذلك فمنذ اليوم الأول لخلافة النحاس قوبل الرجل باحترام شديد، ورفعته الجماهير على الأعناق.
رغم ارتفاع شعبىة الوفد سنة 1591 بعدما ألغى النحاس معاهدة 6391، فإن الحزب نفسه كان قد وصل إلى مرحلة الشىخوخة. وكان السبب الرئىسى فى رأىى الذى جعل النحاس ىلغى المعاهدة هو أنه أراد أن ىختم حىاته السىاسىة بعمل وطنى كبىر، خاصة أن الشعب كله كان قد ضاق بالاحتلال، وخرجت مظاهرات حاشدة فى القاهرة والإسكندرىة تطالب بالجلاء التام نظىر الخدمات الكبىرة التى قدمتها مصر إلى انجلترا أثناء الحرب العالمىة الثانىة، فقد كان من الواجب بعد هذه الخدمات أن تكون مكافأة مصر الاستقلال الفورى.
جرت مفاوضات كثىرة بىن الطرفىن، ولكنها انتهت جمىعًا بالفشل، حتى أعلن النحاس إلغاء المعاهدة من طرف واحد. وأصبح الوضع حرجًا للغاىة، خاصة بعد خروج المظاهرات المؤىدة لإلغاء المعاهدة، وكان النحاس على رأس هذه المظاهرات. وكنت من بىن الذىن شاهدوا المظاهرات وساروا فىها، وانتهز الشعب الفرصة وبدأ ىهاجم القوات الإنجلىزىة فى القنال، فتحول الأمر إلى حرب رسمىة بىن دولة قوىة وأخرى ضعىفة. وأنا أسمىها حربًا لأن المقاومة الشعبىة التى نشطت بقوة، كانت تجد التأىىد والدعم من الحكومة. وقىل أىامها كلام لا أعرف مدى صحته، وهو أن الولاىات المتحدة الأمرىكىة نصحت تشرشل بالانسحاب من مصر.
إن موقف النحاس من إلغاء المعاهدة ثم تشجىعه للفدائىىن ىعتبر جهادًا وطنىًا بلا شك، وفى محكمة الثورة التى أنشئت فى سبتمبر 3591، والتى كان ىرأسها عبداللطىف البغدادى، أدىن النحاس لأنه «قاوم الإنجلىز وشجع على حرب القنال دون استعداد كاف». ما هذا الاستعداد الذى كان ىرىده البغدادى أمام 09 ألف جندى إنجلىزى بدباباتهم وقت أن كانت انجلترا هى أكبر وأقوى دولة فى العالم؟!.
وكان النحاس فى جانب الصواب عندما طالب الإنجلىز بالجلاء عن مصر بعد انتهاء الحرب العالمىة الثانىة لأنه قدم خدمات جلىلة لهم، والتزم بنصوص المعاهدة طوال سنوات الحرب، وكان صادقًا فى تأىىده للحلفاء، لأنه ىعرف أن انتصار دول المحور ىعنى نهاىة حزب الوفد والحكم الدستورى والنظام الدىمقراطى فى مصر. فالحاكم الجدىد لو قدر لألمانىا وإىطالىا احتلال مصر كان سىتعاون مع الملك فى إقامة نظام فاشستى. وهذا ىثبت أصالة الفكرة الدستورىة والإىمان بالدىمقراطىة عند الوفدىىن، ولكن الإنجلىز لم ىقدروا للنحاس فضله علىهم وأداروا له ظهرهم عندما شعروا أن الحرب على وشك الانتهاء لصالحهم. لقد أدلى النحاس بحدىث لمجلة «المصور» عام 4491 قال فىه:«جاء الوقت لمحاسبة الأصدقاء»، وكان ىقصد أن ترد انجلترا الجمىل وتعطى مصر حرىتها. والحقىقة أن الروح الانتهازىة التى قامت علىها السىاسة الإنجلىزىة الاستعمارىة أضرت برىطانىا، وكانت سببا فى خروجها من المنطقة وفقدانها لمستعمراتها الشاسعة. وأعتقد أن الإنجلىز شاركوا فى تدبىر حرىق القاهرة فى ىناىر سنة 2591 للتخلص من النحاس.
والنحاس كان أقل فى مجموع مواهبه من سعد زغلول، ولكنه كان فى غاىة النقاء والصفاء والوطنىة والطىبة ونظافة الىد، وهو شدىد الإخلاص لسعد زغلول، وهو مؤمن بمبادئه مثل إىمان السالكىن فى الطرق الصوفىة بشىوخهم. ورغم ولاء النحاس الشدىد لسعد زغلول، فإنه كان أصلب منه وأشجع وأكثر جرأة عندما ىتعلق الأمر بالوطنىة.
نجيب الريحاني
الرىحانى لدىه موهبة إلهىة، وهو فنان كومىدى لىس له نظىر، عمل «الرىحانى» فى البداىة فى الرواىات القدىمة وتعرض لأزمة مالىة وأشهر إفلاسه، ولكنه عاد مرة أخرى بلون جدىد هو النقد الاجتماعى الذى استمر فىه حتى مات، رحم الله الرىحانى الذى كان فنانًا كومىدىًا رهىبًا.
«الرىحانى» كان ىضحك الجمهور بنظراته وتعبىرات وجهه، وأحب هنا أن أشىر لملاحظة هامة وهى أن تلامىذ الرىحانى جمعوا بىن النجاح فى المسرح والسىنما أكثر من الرىحانى نفسه، لأن المسرح هو بىت الرىحانى ونجاحه فىه كان ساحقًا، أما فى السىنما فقد نجح بنسبة 06% فقط.
وشاهدت الرىحانى مرة واحدة على المسرح وأنا طفل، ولكن عندما كبرت أصبحت من عشاقه، وكنت أذهب لمشاهدة مسرحىاته باستمرار فى فترة الثلاثىنىات والأربعىنىات عندما بدأ ىعىد أعماله القدىمة مثل: «كشكش بىه» و«ألف لىلة ولىلة». وفى تلك المرحلة كانت مسرحىاته من البىئة المحلىة مثل «عمدة كفر البلاص» الذى باع القطن وجاء لىسهر فى ملاهى القاهرة فىتعرض لعملىة نصب، وهى أعمال غىر مقتبسة، ولكن فى المرحلة التالىة من حىاته، عندما بدأ ىجدد نفسه، اعتمد على التمصىر والاقتباس، وساعده فى ذلك بدىع خىرى. ولقد صافحت «بدىع خىرى» ذات مرة عندما كنت أعمل فى مصلحة الفنون، فى تلك المرحلة حضرت كل أعمال الرىحانى، وأتذكر مسرحىة «حكم قراقوش» التى شاهدتها عشرىن مرة لأنها كانت عملاً هائلاً، وفى رأىى أن الرىحانى ىتفوق على فنانىن كومىدىىن عالمىىن كبار مثل «فرناندىل» الفرنسى، ولم ىسبق الرىحانى فى عصره سوى "شارلي شابلن".
محمد عفيفي
محمد عفىفى، معرفتى به جاءت عن طرىق المرحوم صلاح أبو سىف، فقد استعان به أبو سىف لكتابة حوار أحد الأفلام بعد أن اتفق معى على كتابة السىنارىو. كان ذلك عام 9491، ومن ىومها توطدت صلتى بمحمد عفىفى، فقد اكتشفت فىه شخصىة إنسانىة رائعة، دعانى محمد عفىفى للانضمام إلى شلة «العوامة»، وهى مجموعة من الأصدقاء كانوا ىستأجرون «عوامة» على النىل لقضاء السهرات، التى لم تكن تخلو من البىرة والحشىش، وكما دعانى لشلة «العوامة» دعوته إلى شلة الحرافىش التى سرعان ما اندمج فىها.
بدأت اجتماعات الحرافىش وسهراتهم فى شوارع القاهرة ومقاهىها، ثم انتقلت إلى بىت محمد عفىفى فى الهرم، ولم ننتقل إلى بىت عادل كامل إلا فى السنوات الأخىرة، وبعد وفاة محمد عفىفى.
وإلى جانب شخصىته الممتعة وأخلاقه الرفىعة كان «محمد عفىفى» ىتمتع بموهبة أدبىة نادرة، وىمتلك حسًا ساخرًا أعتبره امتدادًا للمازنى والجاحظ وفولتىر ومارك توىن. كانت الصور الفكاهىة التى ىكتبها محمد عفىفى من أمتع وأرقى ما قرأت فى حىاتى، ولم تكن السخرىة عند محمد عفىفى نابعة من الألم أو المعاناة فى حىاته الشخصىة، فقد كان ىعىش حىاة عائلىة مستقرة، كما أن مرض السرطان الذى أودى بحىاته لم ىكتشفه أو ىعلم به إلا مصادفة فى أواخر أىامه، ففى أحد الأىام لاحظ ابنه، وهو طبىب، شىئًا ىشبه النبقة الصغىرة فى ذقن أبىه، وأصر على اصطحابه إلى طبىب، ولم ىوافق محمد عفىفى إلا بعد إلحاح، معتقدًا أن الأمر بسىط، ثم اكتشف حقىقة مرضه، ومات بعدها بقلىل، وأغرب ما فى شخصىة عفىفى من طباع حبه للخمور الردىئة وإقباله بشغف على تناولها، بىنما ىرفض الأنواع الجىدة ولم ىذق هذه الأنواع الجىدة طوال حىاته. وخسارتنا فى هذا الكاتب الساخر عظىمة،
احمد مظهر
والفنان أحمد مظهر هو أحد مؤسسى «شلة الحرافىش»، بل إنه صاحب هذه التسمىة. فكما قال لى إنه قرأ هذا اللفظ «الحرافىش» فى كتاب تارىخ قدىم أظنه تارىخ الجبرتى وأعجبه اللفظ فأطلقه على «شلتنا» لأنه معبر عنها. «فالحرافىش» تعنى الصعالىك، وكنا نحن أقرب إلى هذا المعنى بالفعل. و«مظهر» بالإضافة إلى ذلك كله هو من أكثر الفنانىن الذىن التقىت بهم ثقافة واحترامًا وحبًا للحىاة وللوطن.
وكما عرفت من أحمد مظهر فىما بعد فإن «النحاس باشا» و«سراج الدىن باشا» كانا على علم بوجود تنظىم الضباط الأحرار، خاصة بعد الانتخابات التى جاءت بالنحاس وحزب الوفد إلى السلطة سنة 0591، ولكنهما تسترا على التنظىم ولم ىبلغا الملك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.