بعد سنوات طويلة من توقيع اتفاقية السلام فى كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل مازالت سيناء الخالية تمثل لغزا غريبا فى كل ما جرى وما يجرى من أحداث.. وإذا ما جاء ذكرها يخيم السكون على كل شىء كأن هناك أشياء مجهولة غير ما يقال.. وأن هناك من يرسم أحداثا غير الأحداث. كثيرا ما نجد هذا السؤال يحاصرنا: لماذا كل هذا الصمت وكل هذا التجاهل وكل هذا الإهمال لقطعة عزيزة من ترابنا.. إن ما يقال فى الدوائر المصرية حول سيناء غير ما يقال فى إسرائيل وغير ما تقوله دوائر الغرب سواء على المستوى الرسمى أو غير الرسمى. فهل هناك سيناريوهات خفية حول مستقبل سيناء.. وهل مصر الدولة تعلم ذلك وهل هناك التزامات سرية لا نعرفها فرضتها كامب ديفيد على مصر فيما يخص سيناء ولا يستطيع أحد الحديث عنها من قريب أو بعيد. عادت هذه التساؤلات تدور فى ذهنى بعد التصريحات التى أطلقها أخيرا اللورد ديفيد أوين وزير خارجية إنجلترا السابق وعضو مجلس اللوردات أثناء زيارته للقاهرة بدعوة من مؤسسة هيكل للصحافة العربية.. لقد قال المسئول البريطانى السابق إن حل القضية الفلسطينية لن يكون بعيدا عن سيناء وأن عودة اللاجئين الفلسطينيين قضية مستحيلة فلا توجد أرض فى إسرائيل تكفى لذلك.. وهنا عادت قضية سيناء الخالية حتى الآن تطرح السؤال من جديد.. لماذا بقيت سيناء كل هذه السنين بلا بشر وبلا تنمية وبلا قوات عسكرية كافية لحمايتها. هذا الطرح الذى قاله ديفيد أوين ليس جديدا فقد ذكرته الملكة نور زوجة الملك حسين ملك الأردن فى مذكراتها حول حديث دار بين الملك الراحل والممثلة الأمريكية جون فوندا وزوجها تيد تيرنر صاحب قناة CNN ويومها كان السؤال الذى دار حوله الحديث أمام شاطئ شرم الشيخ بمياهه الزرقاء على اليخت الملكى لماذا لا يقام وطن للفلسطينيين فى هذه الأراضى الشاسعة الخالية فى سيناء ويكون هذا حلا للقضية الفلسطينية.. كان هذا من سنوات بعيدة مضت. فى أكثر من مكان فى مراكز الأبحاث الإسرائيلية دار هذا السؤال أكثر من مرة وصرح به مسئولون كبار فى دوائر القرار الإسرائيلى وفى كل مرة كان السؤال لا يجد إجابة فى مصر وإذا وجد هذه الإجابة كنا نسمع عادة من يقول إن هذا كلام فارغ ويبدو أن الكلام فيه قدر كبير من الجدية. عندما اقتحم سكان غزة بوابات الحدود مع مصر فى رفح وتجاوز عددهم يومها 700 ألف فلسطينى دخلوا سيناء وعجزت قوات الأمن المصرية على الحدود عن صد هذا الاقتحام أطل هذا السؤال مرة أخرى بعنف فى عقول ملايين المصريين.. إذا كان ذلك قد حدث فى لحظة غضب وحصار دولى بغيض.. فما الذى يمنع من التكرار.. على جانب آخر وفى الوقت الذى يفكر فيه البعض بهذه الصورة تقف الدولة المصرية هذا الموقف المريب والغريب. خلال 27 عاما ومنذ عادت سيناء اكتفينا بعدد من الأغانى التى تذاع كل عام فى ذكرى تحرير سيناء مع الورود التى تتناثر على النصب التذكارى للجندى المجهول وضريح الرئيس الراحل أنور السادات وتحية حارة للشهداء ولا شىء بعد ذلك. توقف برنامج تنمية سيناء وإعادة أعمارها وكان مقررا له أكثر من 80 مليار جنيه تشمل توسعات فى الإنتاج الزراعى واستصلاح الأراضى وإنشاء سلسلة من المصانع ومشروعات سياحية وتعدينية.. وكان هذا البرنامج يشمل انتقال ثلاثة ملايين مواطن مصرى كمرحلة أولى من الوادى إلى سيناء التى لا يزيد عدد سكانها على 450 ألف مواطن يعيشون على أكثر من 60 ألف كيلو متر مربع. أقامت الدولة ترعة السلام وأنفقت عليها ملايين الدولارات لكى تصل مياه النيل إلى سيناء وتوقف المشروع بعد 54 كيلو مترا أمام مرتفعات صخرية وجبلية تحتاج إلى معدات لرفع المياه تتكلف 6 مليارات جنيه ولم تستكمل الدولة مشروع ترعة السلام وكان أغرب ما جاء فى نهاية هذا المشروع أن الحكومة قررت بيع الترعة لعدد من رجال الأعمال.. كان من المقدر أن يتم استزراع 400 ألف فدان على مياه هذه الترعة وكان أقصى ما وصل إليه المشروع هو زراعة 30 ألف فدان وتحول هذا الحلم الضخم إلى مشروع لتربية الأسماك. واقتصرت كل مشروعات التنمية والسكان فى سيناء على شريط شرم الشيخ والغردقة وبعض المناطق السياحية وبقى عمق سيناء بكل ثرواته بلا بشر وبلا حماية وبلا تنمية. كان من نتيجة ذلك الإهمال ظهور مشاكل كثيرة وحساسيات بين أهالى سيناء وقوات الأمن وقد ترتبت على ذلك أحداث كثيرة مؤسفة أدت إلى مصادمات كثيرة وترتب على ذلك أيضا عمليات إرهابية مع اتساع دائرة زراعة المخدرات وتهريبها أمام إهمال مشروعات التنمية وزيادة نسبة البطالة والظروف الاقتصادية الصعبة التى يعانى منها أهالى سيناء.. والأغرب من ذلك أنه حتى الآن مازال أهالى سيناء غير قادرين على تملك الأراضى التى يزرعونها والبيوت التى يعيشون فيها وبقيت قضية الفراغ السكانى واحدة من أخطر المشاكل التى تعانى منها سيناء رغم كل ما قيل عن انتقال عدة ملايين من البشر من الوادى إلى هذه البقعة العزيزة من ترابنا.. إن ذلك كله يضع علامات استفهام كثيرة حول ما يجرى فى سيناء وما ينتظرها من مستقبل غامض أمام حسابات كثيرة تدور حولنا ويبدو أننا لا نعرف عنها شيئا.. هذه المؤشرات جميعها تؤكد أن الدولة لم تكن جادة فى تعمير سيناء من حيث الهدف ولم تكن جادة فى انتقال مياه النيل لاستصلاح الأراضى من خلال ترعة السلام وقبل هذا كله فإن الدولة غير جادة فى وضع برنامج يوفر الحماية لهذه القطعة من أرض الوطن من خلال كثافة سكانية قادرة على حمايته ضد كل الأخطار.. فهل يعنى ذلك أن سيناء تنتظر مصيرا مجهولا لم يعرفه المصريون حتى الآن.. وهل يرتبط هذا المصير الغامض بما نسمعه من حكايات وقصص عن مستقبل سيناء فى الدوائر الغربية والإسرائيلية.. والأسوأ من ذلك كله هل هناك علاقة بين ما تفعله إسرائيل فى حوض النيل مع دول أفريقيا للضغط على مصر فى قضية المياه وترتيب الأوضاع فى سيناء على ضوء ذلك كله.. أن إهمال سيناء بهذه الصورة الواضحة والصريحة وما يقال هنا وهناك حول البحث عن حلول للشعب الفلسطينى وحالة الفراغ السكانى والعسكرى والاقتصادى التى تعانى منها سيناء كل ذلك يضعنا أمام هذا لسؤال.. ماذا عن المستقبل الغامض والمريب الذى ينتظر هذه القطعة العزيزة من تراب مصر وإذا كان الجميع يتحدث عن مؤامرة واضحة وصريحة وإذا كانت مصر تتعرض لضغوط فى الجنوب عند منابع النيل فما الذى يمنع أن يكون هدف ذلك هو المساومة فى الشمال عند سيناء. أن إسرائيل قادرة بنفوذها فى دوائر الغرب والإدارة الأمريكية على أن تطرح أفكارا يدفع ثمنها الآخرون.. ولعل هذا ما جعل ديفيد أوين يطلق بالونات اختبار ويثير هذه القضية فى مصر وهو يؤكد أن هناك تضحيات لابد منها فيما يخص الأرض وعلى العرب أن يتحملوا نصيبهم من هذه التضحيات.. فهل ستكون سيناء هى الضحية.. ينتابنى فى أحيان كثيرة إحساس مروع بأن نجد أنفسنا يوما أمام واقع مرير يفرض علينا مستقبلا مخيفا فى سيناء أمام مؤامرة جديدة يمكن أن تهدد هذا الجزء العزيز من ترابنا الغالى.. ولعلنا ندرك ذلك من الآن.. وليس غدا.