تكشف حركة الاستثمارات الدوارة صعوبة الرهان على عائد الاستثمار في قارة إفريقيا. فبعد عامين من التراجع، سجلت الاستثمارات الأجنبية المباشرة القادمة إلى القارة نموا ملموسا خلال العام الماضي بفضل تجدد اهتمام المستثمرين الأجانب بجنوب إفريقيا، ومناخ الاستثمار الأكثر استقرارا في مصر. وأشارت وكالة "بلومبرج" للأنباء إلى أن تقلبات الاهتمام الأجنبي بالاستثمار في إفريقيا، تؤكد المصاعب التي تواجه جهود دول القارة لجذب الاستثمارات الأجنبية طويلة المدى. وفي حين زاد الاستثمار الأجنبي في إفريقيا ككل خلال العام الماضي، قلصت مجموعة الاستثمار المالي الأمريكية العملاقة "بلاكستون جروب إل بي" استثماراتها في القارة بعد أقل من 5 سنوات من دخولها إليها. كما حوَّل بوب دايموند، الرئيس التنفيذي السابق لمجموعة "باركليز" المصرفية البريطانية والرئيس الحالي لمجموعة "أطلس مارا" للاستثمار، اهتمامه عن القارة بعد نحو ست سنوات من جهود مضنية لإنعاش مشروعه المصرفي. ويقول ويليام أتويل، رئيس إدارة أبحاث منطقة جنوب الصحراء الإفريقية بمؤسسة "دكر فرونتاير" للاستشارات في لندن، إن "حجم الرهان الضخم وسوء الفهم بالنسبة لحجم وطبيعة مطالب العملاء في أسواق جنوب الصحراء الإفريقية، والتوقعات المبالغ فيها، كل هذا أدى إلى أخطاء"، مضيفا أن "نهج انتهاز الفرص لا يكفي" للتعامل مع قرارات الاستثمار في إفريقيا. وبحسب مؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد"، كانت إفريقيا والاقتصادات النامية في آسيا فقط هي المناطق التي جذبت المزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر خلال عام 2018. ومع وجود 54 دولة تمتد في منطقة تزيد مساحتها عن مساحة الولاياتالمتحدة والصين والهند ومناطق من أوروبا واليابان معا، فإن اتجاهات الاستثمار الأجنبي المباشر في هذه الدول غير موحدة. وأشارت وكالة "بلومبرج" للأنباء إلى أن نيجيريا، وهي أكبر دولة إفريقية من حيث عدد السكان، وصاحبة أكبر اقتصاد في القارة، سجلت تراجعا في ما يتعلق بتدفق الاستثمار الأجنبي المباشر على مدى 3 سنوات متتالية، نتيجة تفشي الفساد والسياسات المتقلبة، وتراجع أسعار النفط وانتشار الفقر في البلاد. ووفقا للتقديرات، جذبت إفريقيا خلال العام الماضي استثمارات أجنبية مباشرة قيمتها 40 مليار دولار تمثل جزءا ضئيلا للغاية من حركة الاستثمارات في أنحاء العالم والتي بلغت 1.19 تريليون دولار، وهو ما يخلق فجوة بالنسبة لهؤلاء الذين يريدون التعامل مع التحديات الناجمة عن التغيير في أنظمة الحكم، وضعف نظم جمع الضرائب واضطراب أسواق الصرف ونقص العمالة الماهرة. وربما أسهم انهيار "مجموعة أبراج"، والتي كانت واحدة من أكبر شركات الاستثمار في الأسواق الصاعدة، سلبا في الحد من التدفقات الاستثمارية إلى القارة. في الوقت نفسه، فإن مجموعة "كارليل جروب" الاستثمارية الأمريكية والتي أغلقت في عام 2014 صندوق استثمارها في جنوب الصحراء والذي كان رأسماله وصل إلى 700 مليون ودلار، مازالت تعقد صفقات في المنطقة، حتى بعد أن تضررت جراء صفقة شراء بنك نيجيري، وقد استثمرت مؤخرا 40 مليون دولار في شركة السياحة والسفر عبر الإنترنت "وانو دوت كوم ليميتد". وهذا التوجه من جانب "كارليل" يختلف عن توجه منافستها في نيويورك "بلاكستون" التي خرجت من جميع استثماراتها في إفريقيا في سبتمبر الماضي. في المقابل، يسعى بنك "سوسيتيه جنرال" الفرنسي الذي يعمل في 19 دولة إفريقية إلى مضاعفة إيراداته من المنطقة إلى 10%. وقال الملياردير المصري نجيب ساويرس، في مقابلة مع تلفزيون "بلومبرج" إنه متفائل للغاية بالنسبة لإفريقيا، وخاصة فيما يتعلق بخدمات التمويل الاستهلاكي. ويعتزم ساويرس دفع إدارة فرع شركة "ثروة كابيتال" للخدمات المالية، المملوكة له، إلى تقديم قروض للأفراد والمشروعات الصغيرة في باقي دول القارة. وعن المخاطر السياسية التي تواجه الاستثمار في هذه الدول، قال ساويرس، رئيس مجلس إدارة "أوراسكوم القابضة للاستثمار": "الان إذا قارنت بين إفريقيا والفوضى الأوروبية والموقف الأمريكي، إفريقيا في موقف جيد". وتدرس شركة صناعة السيارات الفرنسية "ريون" إقامة مصنع لتجميع سياراتها في غانا بالاشتراك مع "فولكسفاجن" الألمانية و"سينوتراك إنترناشيونال" الصينية. وفي العام الماضي، تفوقت غانا على نيجيريا باعتبارها صاحبة أكبر قدر من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في غرب إفريقيا، في حين أن حجم اقتصاد نيجيريا يصل إلى ستة أمثال اقتصاد غانا. كما تعتزم شركة "مرسيدس بنز" الألمانية لصناعة السيارات استثمار 600 مليون يورو (676 مليون دولار) في مصنعها بدولة جنوب إفريقيا، في حين مازالت مجموعة "موانئ دبي العالمية" تدرس فرص الاستثمار في القارة حتى بعد تأميم أحد الموانئ التي كانت تديرها في جيبوتي. وفي جنوب إفريقيا، يبدو أن الرئيس "سيريل رامافوسا" الذي يستهدف جذب 100 مليار دولار استثمارات جديدة إلى بلاده بعد سنوات من التراجع خلال سنوات حكم سلفه "جاكوب زوما"، لا يراهن على الشركاء التقليديين لبلاده مثل الولاياتالمتحدة وبريطانيا. وقد تعهدت السعودية باستثمار 10 مليارات دولار في جنوب إفريقيا، والصين باستثمار 15 مليار دولار، كما أعلنت شركة النفط الفرنسية العملاقة "توتال" الأسبوع الماضي أول كشف نفطي في المياه العميقة لجنوب إفريقيا. ويقول روناك جوبالداس، مدير شركة "سيجنال ريسك"، إن أمام "الحكومات الإفريقية الكثير من الخيارات، وشركاء الاستثمار الأجنبي المباشر يتغيرون، فالهند واليابان تبديان اهتماما متزايدا بالاستثمار في القارة السمراء، وتبحث الشركات الأمريكية عن الفرص هناك رغم سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي ترفع شعار "أمريكا أولا". ويقول تقرير "أونكتاد" إن التقدم نحو توقيع اتفاق للتجارة الحرة بين الدول الإفريقية مع زيادة التركيز على إحياء عمليات التصنيع، يؤدي إلى تسارع وتيرة الاقتصاد الأجنبي المباشر. وتلقت جنوب إفريقيا جزءا كبيرا من الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي وصلت إلى جنوب الصحراء الإفريقية عام 2018 حيث بلغت حصتها حوالي 7.1 مليار دولار مقابل 1.3 مليار دولار في 2017. في المقابل، فإن نقص إمدادات الكهرباء والانقطاع المتكرر للتيار من جانب شركة كهرباء جنوب إفريقيا "إسكوم" يهدد تعافي الاستثمار في البلاد، حيث قالت مؤسسة "موديز" للتصنيف الائتماني والاستشارات الاقتصادية إن نقص الكهرباء في جنوب إفريقيا يمثل خطرا كبيرا على التصنيف الائتماني للبلاد. وفي نيجيريا، تراجعت قيمة الاستثمار الأجنبي المباشر العام الماضي بنسبة 36% سنويا إلى 2.2 مليار دولار، ولكن مشروعات النفط والغاز الطبيعي الجديدة يمكن أن تؤدي إلى تعافي الاستثمارات خلال العام الحالي، بحسب "أونكتاد". وبلغ معدل نمو الاقتصدا في نيجيريا، وهي أكبر منتج للنفط في القارة، 1.93% خلال العام الماضي، مقابل 0.8 % في عام 2017، بحسب بيانات مكتب الإحصاء الوطني النيجيري. وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر في إثيوبيا خلال العام الماضي بنسبة 24% إلى 3.1 مليار دولار، لكنها ظلت أكبر وجهة استثمارية في شرق إفريقيا. وقال "أتويل" إن النظرة المستقبلية للقارة في 2019 إيجابية بدرجة طفيفة، بفضل الزيادة المطردة في الطلب الاستهلاكي والإنفاق الحكومي والاستثمار، ولكن المخاطر مازالت قائمة في ظل تباطؤ الاقتصاد العالمي، وهذا النمو غير المستقر يجعل الشركات أكثر تركيزا حيث توجد أكبر الفرص المتاحة في جذب العملاء من بين الفئات الأقل دخلا في الدول التي بها معدل تضخم منخفض، بحسب "أتويل"، الذي أشار إلى أن كينيا تحظى باهتمام كبير من جانب المستثمرين الأجانب. ويقول ستيفن سيمث، المحلل بشركة "جلوبال إيفليوشن فاندز" التي تتابع الأسواق الصاعدة منذ نحو 30 عاما، إن توجه المستثمرين نحو إفريقيا لن يتوقف، "فلا يوجد تراجع في الاهتمام بالتوسع في القارة".