قادت الولاياتالمتحدة العالم خلال ربع القرن الأخير عبر دعامتين هما حجم استهلاكها الضخم، وقدرتها على نشر قواتها المسلحة فى أنحاء العالم. وساعدت هاتان الدعامتان العديد من القوى الكبرى الجديدة على الصعود عبر زيادة صادراتها للسوق الأمريكية، وعدم تشتيت مواردها على التسليح أو التدخل العسكرى. هذه الاستراتيجية الأمريكية الكبرى قد وصلت الآن إلى نهايتها، حيث أسفرت من جهة عن نجاح باهر (نهاية حرب القوى الكبرى فى شرق آسيا) ومن ناحية أخرى عن إرهاق بالغ (مديونيتنا الخارجية الباهظة). الآن، يواجه الرئيس باراك أوباما خلال العام الحالى أربع محطات رئيسية، ونقاط انفجار محتملة، فى معرض إعادة التفاوض حول الدور الأمريكى فى هذا العالم الذى صنعناه. المحطة الأولى: أولى هذه المحطات وأكثرها وضوحا، القمة الاقتصادية الثانية المقررة فى أبريل للتعاطى مع الأزمة المالية العالمية، حيث يصاحبنا الأوروبيون واليابانيون فى الدخول إلى ركود اقتصادى لا نتوقع له نهاية قبل 2010، يكتسب الدور الكينزى للصين فى «الإنفاق من أجل إنقاذ» الاقتصاد العالمى، أهمية حاسمة. أى أن الصين تلعب اليوم الدور نفسه الذى لعبناه مع الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية. إمبراطورية اليوم تحتاج إلى الإنقاذ، والقوى الصاعدة لديها المال اللازم. وعادة ما يكون لمثل هذا الإنقاذ ثمن باهظ، وفى حالة الولاياتالمتحدة تمثل ذلك فى هيمنتها على نظام بريتون وودز الذى نتج عن ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعليه، فماذا تريد الصين؟ أن تخرج من طاولة الصغار فى مجموعة العشرين التى تمثل الاقتصادات الصاعدة لتحصل على مقعد فى مجموعة الثمانى الكبار التى هى فعليا رأس العالم. وإذا كان أوباما جادا فى فلسفته بشأن «فريق المتنافسين»، فعليه أن يذعن بشكل نهائى لتوسيع مجموعة الثمانى لتصل إلى دستة من الشركاء. هنا تكمن المواءمة المؤلمة، حيث يطالب الأوروبيون بضمانات مستقبلية تنظم أسواق المال العالمية تحسبا لعدم تكرار ما حدث، وذلك بإظهار الأزمة الحالية على أنها تشبه ما تسببت فيه الولاياتالمتحدة من أزمة بانهيار وول ستريت فى 1929. حتى الآن تعيش الأسواق الناشئة حالة من القلق لتطالب بقيود مالية جديدة، حيث إن صعود الشرق والجنوب يجبر الغرب على مواجهة ضرورة تنظيم أسواق المال بشكل لا مفر منه. موازنة أوباما لكل ذلك مسألة صعبة للغاية. فلا أحد يريد تعطيل نمو الطبقات الوسطى، وهى الطبقات الصاعدة فى جميع الاقتصادات النامية فى الفترة المقبلة، لكن دورات العولمة التى من الممكن أن تؤذى الطبقات الوسطى، قد أربكت العالم بالفعل. على أوباما أن يطالب الصين بأن تنمو بسرعة أكبر وأن تتولى مهام قيادية اقتصادية أكبر، وذلك عبر نظريته فى «التجارة الحرة» مع كل من بكين ونيودلهى وبرازيليا. المحطة الثانية: هى إقليم الحدود بين باكستانوأفغانستان، وهو الأكثر أهمية من محاولة ميليشيات باكستانية تفجير حرب بين باكستان والهند عبر هجمات مومباى. وفى هذا الشأن يعد مجلس الأمن القومى استراتيجية شاملة كتلك التى أعدها فى الشأن العراقى، وهذه المرة سيكون حل الصراع إقليميا هو التوجه الجديد. وإذا تخلت إدارة أوباما عن ألاعيب بوش تشينى الكبيرة، فيمكننا حين إذن أن نقول وداعا ل«الحرب العادلة»، لأن جبال الهندكوش (على حدود باكستانأفغانستان) دمرت الطموحات الإمبراطورية. إذا كان أوباما ذكيا بما فيه الكفاية، سيحل المشكلات اجتماعيا وبعيدا عن الناتو، (بعيدا عن الناتو بكل ما تعنيه الكلمة من معنى)، عندها سنكون قد دخلنا منظمة شنغهاى للتعاون كمراقبين، حيث من الممكن لجنون قليل فى غرفة النوم أن يخلق جنونا عظيما فى الحديقة الأمامية. وهذه هى حديقتهم الأمامية (الصين وروسيا أعضاء منظمة شنغهاى). وفى مقابل حيازة الهند مقعدا مع الكبار، سيتعين أن تحصل الصين على أدوار مرئية أكبر (مثل اقتراح رئيس الوزراء البريطانى بأن تنخرط الصين بشكل أوسع فى عمليات حفظ السلام)، كذلك يجب أن يكون الأمر مع «الولد النووى الشقى» إيران. كذلك يجب على أوباما أن يعيد تأهيل الروس، فإذا كان ذكيا بما فيه الكفاية عليه أن يمحو مرارة روسيا التى خلفتها حرب جورجيا. علينا أن نتذكر أن التنين الكبير يحتاج ضمانات فورية (عبر ما نسميه «تقاسم الأعباء») فى المجالين المالى والأمنى، وعليه فلا يجب أن نستغرب عندما نرى القوتين تتراقصان معا (حزمة الحوافز الكبيرة والاستراتيجية العسكرية الجديدة)، سواء نجحتا أم فشلتا فى العرض. لقد ولى زمن «القوة المنفردة» فى الاستراتيجية الأمريكيةالجديدة. وتتساوى المحطتان القادمتان فى قدرتهما على أن تكونا سببين محتملين لإثارة التوتر، وهما: رقم 3 انتخابات الرئاسة فى إيران، ورقم 4 تلك التى تتعلق بالتساؤل حول الاستراتيجية التى سيتبعها أوباما فى التعامل مع اتفاقية الدرع الصاروخية، التى وقعتها إدارة بوش مع عدد من دول أوروبا الشرقية بدعوى حماية دول حلف شمال الأطلنطى ناتو من الصواريخ الإيرانية، وهل سيسير أوباما على خطى بوش فى هذا الأمر أم لا؟ وإذا تمكن أحمدى نجاد من الفوز فى الانتخابات (ونعم، الانسحاب الإسرائيلى من قطاع غزة سيعزز فرصه فى إحكام قبضته على إيران)، سيكون هذا مؤشرا على أن المرشد الأعلى لا يبحث عن حل على طريقة «نيكسون يذهب إلى الصين»، لإنقاذ اقتصاد بلاده الذى يعانى الاحتضار من خلال الاستثمارات والتكنولوجيا الغربية. هذا الطريق المسدود، من شأنه أن يعقد فى المستقبل أى إمكانية لتعاون الولاياتالمتحدة مع الهند والصين فى القضيتين: تمويل الاقتصاد العالمى، والقضية الأفغانية الباكستانية، وذلك بسبب حاجة كلتا الدولتين على المدى الطويل إلى مصادر الطاقة الإيرانية، حيث تعتبر إيران مصدرا مهما لتوفير احتياجاتهما المتزايدة للطاقة على المستوى المحلى. كما أنه من شأنه أن يجعل تحايل أوباما على مسألة الدرع الصاروخية أمرا شبه مستحيل (مثل التحجج بفكرة «إجراء مزيد من التجارب»)، مما يزيد من استعداء موسكو خاصة فى ظل مزاج بوتين السيئ وتطلعه لاختبار قائدنا الشاب. وفى حالة تمكن الرئيس السابق المعتدل محمد خاتمى، أو التكنوقراطى رئيس بلدية طهران محمد قاليباف، من الإطاحة بأحمدى نجاد، فإن إيران فى هذه الحالة ستعود بكل تأكيد مجددا إلى اللعبة، مع إعطاء أوباما هامشا أكبر للمناورة فى أماكن أخرى، ولكن فقط إذا استطاع هو وهيلارى كلينتون شد اللجام على الأحزاب المتشددة فى إسرائيل، تلك الأحزاب التى تبدو عازمة على اتخاذ إجراءات وقائية استبقاية ضد المنشآت النووية الإيرانية. (هذه الضربات لن تنجح، لكنها ستدفع ايران إلى التمسك بالنهج المتشدد، بغض النظر عن المرشح الذى يقدمه) ولهذا الغرض، فعندما يتحدث معسكر أوباما ببرود حول فكرة توسيع المظلة النووية الأمريكية لتشمل إسرائيل وضمنيا أى دولة عربية صديقة تريده، فإن سيناتور ولاية إيلينوى السابق الشاب يخرج بذلك من عباءة القاعدة الكبرى الخاصة ب«القوة العسكرية الوحيدة» فى العالم. هذه هى مجموعة القضايا الاستراتيجية التى إما أن تسهل أو تعرقل العام الأول لأوباما كزعيم استثنائى للعالم. جميع القضايا الأخرى تتوقف على ما سيجرى فى هذه الحزمة المعقدة، هذا ما لم يقرر كيم يونج إيل أن لديه الرغبة فى تفجير قنبلة نووية أخرى كى يعود مرة ثانية للظهور على رادار واشنطن، وليحظ مرة أخرى بالاهتمام الأمريكى. وفى النهاية، فإن كل شىء يتوقف على عدد «الأصدقاء» المستعد أوباما لإضافتهم إلى قائمة ال«فيس بوك» للدول الكبرى. فإذا قرر رئيسنا الجديد أن أمريكا ملزمة بالاستمرار مع نفس مجموعة الحلفاء، فإنه سرعان ما سيجد نفسه محاصرا كما كان جورج بوش فى نهاية ولايته الثانية، وعاجزا كما كان جيمى كارتر فى نهاية ولايته الوحيدة. أسوأ ما يمكن لأوباما أن يفعله وهو يخرج من البوابة أن يسعى لإضفاء صفات شيطانية على أى من هذه القوى الصاعدة من خلال مسميات بلهاء من نوع «محور الشر»، و«اتحاد الاوتوقراطيات»، أو أيضا أن يعمل على احتواء طموحاتهم الإقليمية. ثق فى، فإنهم إذا لم يكونوا جزءا من الحل، فلا شك أنهم سيشكلون جوهر المشكلة، غير القابلة للحل. توماس بارنيت محرر مساهم فى مجلة اسكواير، ومؤلف كتاب «القوى الكبرى: أمريكا والعالم بعد بوش». (المقال نشر فى مجلة «اسكواير»، وينشر هنا بناء على اتفاق خاص مع الخدمة الإخبارية للنيويورك تايمز).