قرار الإدارة الأمريكية غير الرسمى حتى هذه اللحظة بتخفيض وتجميد جزء من المعونة العسكرية والاقتصادية المقدمة لمصر تطور خطير ينبغى أن يتم التعامل معه بأقصى درجات التعقل والحذر والدراسة والتقييم، وليس بالشتائم أو القول إن أمريكا هى الخاسرة من هذا القرار وليس مصر. ليلة الأربعاء الماضى بثت وكالة رويترز للأنباء خبرًا مهمًا نقلًا عن مصدرين مطلعين أن الولاياتالمتحدة قررت حرمان مصر من مساعدات قيمتها 95.7 مليون دولار، وتأجيل صرف 195 مليون دولار أخرى، احتجاجا على إقرار قانون الجمعيات الأهلية وتردى ملف الحريات وحقوق الإنسان. وبدلا من طريقة الردح وسبِّ أمريكا أو النواح، واستعطافها لإعادة المعونة، علينا أن نتصرف بطريقة عاقلة حتى لا نخسر المزيد. القرار الأمريكى ليس وليد اللحظة، بل هم يفكرون فيه منذ زمن بعيد. أمريكا تقدم لنا المعونة كنوع من الترضية أو الثمن لأننا وقَّعنا صلحًا منفردًا مع إسرائيل فى كامب ديفيد فى سبتمبر عام 1978 ثم معاهدة للسلام فى مارس 1979. هم كانوا يخشون أن ننسحب من الاتفاقية فى سنواتها الأولى ونعيد تشكيل وتقوية محور دول الطوق العربى لخنق إسرائيل، لكن وبعد سنوات طويلة، تبين أن غالبية الدول العربية هى التى تستعطف إسرائيل لتطبع معها وتقيم علاقات بدأت سرية وتتجه لتكون علنية بعد أن صار العدو لدى هذه البلدان هو إسرائيل وليس إيران. وللأسف فإن طهران لعبت دورا مهما فى أن نصل لهذه الحالة؛ لأنها حاولت فرض الهيمنة الفارسية على المنطقة مستغلة اللافتة الطائفية الشيعية. قبل أسابيع كتبت فى هذا المكان محذرا من خطورة جلسة استماع تمت فى لجنة الاعتمادات المالية فى الكونجرس التى تقر المساعدات وخلالها تحدث ثلاثة شخصيات من اتجاهات مختلفة، وقالوا وقتها كلاما فى غاية الخطورة خلاصته أن أمريكا ينبغى أن تقلل المعونة لمصر لاعتبارات كثيرة منها ملف الحريات وحقوق الإنسان، لكن أهم ما جاء فى كلامهم وقتها أن الدور المصرى تراجع فى المنطقة، وبالتالى لم تعد القاهرة تقدم لواشنطن ما كانت تفعله فى السابق من قيادة محور الاعتدال فى مواجهة محور التشدد، وأن مصر كانت تحصل على المعونة من أجل الحفاظ على علاقتها مع إسرائيل، فى حين أن مصر الآن من وجهة نظرهم هى من تحتاج إلى العلاقات القوية مع إسرائيل وليس العكس. طبعا هناك أصوات أمريكية متعددة تنتقد ملف الحريات وحقوق الإنسان فى مصر منذ سنوات طويلة. لكن بعض النشطاء الحقوقيين فى مصر، لا يريدون تصديق أن الإدارة الأمريكية لا تستخدم هذا الملف لوجه الله أو من إجل المبادئ فقط، هم يستخدمون هذا الملف من أجل مصالحهم، والدليل أنه حتى فى ظل الخلافات الجذرية بين إدارة أوباما السابقة والحكومة المصرية ظلت وزارتا الدفاع والخارجية فى الولاياتالمتحدة على علاقة وثيقة بالحكومة المصرية. كان ينبغى أن نفهم هذا الدرس جيدا، وبالتالى لا نلقى أوراقنا كلها فى سلة دونالد ترامب، وأن نصدق ان صناعة القرار فى أمريكا ليس قرارا فرديا يتخذه الرئيس فقط، بل هو حاصل جمع توافق العديد من الإدارات من البيت الابيض إلى الخارجية، ومن البنتاجون إلى المخابرات المركزية، ومن مجلس الأمن القومى ولوبيات الاقتصاد إلى الميديا ومراكز الأبحاث والرأى العام. السؤال الآن: هل مواجهة هذا القرار الأمريكى تكون بتعظيم ما نملك من أوراق أم بالصراخ والزعيق، أو القول إن حجب المساعدات يؤثر بالسلب على أمريكا؟!!. وهل يفترض أن نحسن من سجل الحريات وحقوق الإنسان فى مصر لنرضى أمريكا أم لأن شعبنا يستحق ذلك؟!!. لن نكسب أى قضية إذا ظلت إدارتنا لكل معاركنا تدار بطريقة الصراخ أو العويل.. الموضوع يستحق المزيد من النقاش الموضوعى.