جيش الاحتلال يزعم: نجري تحقيقا في القصف على حي التفاح بمدينة غزة    7 قتلى و15 مصابًا فى هجوم صاروخى روسى على ميناء أوديسا جنوب أوكرانيا    بولونيا يتأهل إلى نهائي كأس السوبر الإيطالية بعد الفوز على إنتر بركلات الترجيح    شباب كفر الشيخ: حصلنا على ترتيب أول و7 ميداليات فى بطولة الجمهورية للمصارعة    عمرو عبد الحافظ: المسار السلمي في الإسلام السياسي يخفي العنف ولا يلغيه    تحذير عاجل من الأرصاد للمواطنين بشأن هذه الظاهرة غدًا(فيديو)    خناقة على الهواء وتبادل اتهامات حادة في واقعة «مقص الإسماعيلية».. فيديو    محامي المتهم بضرب معلم الإسماعيلية يفجر مفاجأة: فيديو الواقعة مجتزأ    «دولة التلاوة» يعلن نتائج الحلقة 11 وتأهل أبرز المتسابقين للمرحلة المقبلة    ميرفت أبو عوف تناقش مستقبل السينما فى عصر الذكاء الاصطناعى    بدايات متواضعة وشغف كبير.. المطربة رانيا خورشيد تحكي قصة اكتشاف موهبتها    بعد تأكيد عالمى بعدم وجود جائحة أو وباء |سلالة شرسة من الإنفلونزا الموسمية تجتاح العالم    أخبار كفر الشيخ اليوم.. انقطاع المياه عن مركز ومدينة مطوبس لمدة 12 ساعة اليوم    أهم 5 مشروبات الطاقة في الشتاء لتعزيز الدفء والنشاط    كأس أمم أفريقيا.. منتخب الجزائر يستبعد حسام عوار ويستدعى حيماد عبدلى    علي ناصر محمد يروي تفاصيل الترتيبات المتعلقة بالوحدة اليمنية: خروجي من صنعاء كان شرطا    إصلاح الهبوط الأرضى بطريق السويس وإعادة فتح الطريق بالقاهرة    صبرى غنيم يكتب:النبت الأخضر فى مصر للطيران    حمدى رزق يكتب:«زغرودة» فى كنيسة ميلاد المسيح    إبراهيم زاهر رئيسا لنادي الجزيرة حتى 2029    على ناصر محمد يكشف تفاصيل الوحدة اليمنية: خروجى من صنعاء كان شرطًا    هشام عطية يكتب: دولة الإنشاد    البلطى بكام النهاردة؟.. أسعار وأنواع الأسماك فى أسواق الإسكندرية    سلام يعلن إنجاز مشروع قانون استرداد الودائع من البنوك في لبنان    كيفية التخلص من الوزن الزائد بشكل صحيح وآمن    اليونيفيل: لا توجد مؤشرات على إعادة تسليح حزب الله في جنوب لبنان    روبيو يكشف ملامح السياسة الخارجية المقبلة لواشنطن: ما وقع في غزة كان من أكبر التحديات .. لا يمكن لحماس أن تبقى في موقع يهدد إسرائيل..الحرب الروسية الأوكرانية ليست حربنا    أول "نعش مستور" في الإسلام.. كريمة يكشف عن وصية السيدة فاطمة الزهراء قبل موتها    استمرار عطل شبكة Cloudflare عالميًا يؤثر على خدمات الإنترنت    رئيس الطائفة الإنجيلية ومحافظ أسيوط يبحثان تعزيز التعاون    وزيرتا التخطيط والتنمية المحلية تتفقدان قرية النساجين بحي الكوثر والمنطقة الآثرية ميريت آمون    ضبط قضايا اتجار في النقد الأجنبي بالسوق السوداء بقيمة 4 ملايين جنيه    الداخلية تنظم ندوة حول الدور التكاملي لمؤسسات الدولة في مواجهة الأزمات والكوارث    شراكة استراتيجية بين طلعت مصطفى وماجد الفطيم لافتتاح أحدث فروع كارفور في سيليا    جوارديولا يحسم الجدل حول مستقبله مع مانشستر سيتي    اليوم.. ريم بسيوني تكشف أسرار تحويل التاريخ إلى أدب في جيزويت الإسكندرية    الصحة: إرسال قافلة طبية في التخصصات النادرة وكميات من الأدوية والمستلزمات للأشقاء بالسودان    تحرش لفظي بإعلامية يتسبب في وقوع حادث تصادم بالطريق الصحراوي في الجيزة    محافظ المنيا يعلن افتتاح 4 مساجد في 4 مراكز ضمن خطة وزارة الأوقاف لتطوير بيوت الله    حلمي طولان: لم يُطلب مني المنافسة على كأس العرب.. ووافقت لحل الأزمة    لقاء السحاب بين أم كلثوم وعبد الوهاب فى الأوبرا    المهندس أشرف الجزايرلي: 12 مليار دولار صادرات أغذية متوقعة بنهاية 2025    وائل كفوري يمر بلحظات رعب بعد عطل مفاجى في طائرته    10 يناير موعد الإعلان عن نتيجة انتخابات مجلس النواب 2025    «الإفتاء» تستطلع هلال شهر رجب.. في هذا الموعد    الصحة: تنفيذ برنامج تدريبي لرفع كفاءة فرق مكافحة العدوى بمستشفيات ومراكز الصحة النفسية    التخطيط تواصل توفير الدعم لانتخابات النوادي باستخدام منظومة التصويت الإلكتروني    انطلاق مبادرة لياقة بدنية في مراكز شباب دمياط    جامعة عين شمس تواصل دعم الصناعة الوطنية من خلال معرض الشركات المصرية    في الجمعة المباركة.. تعرف على الأدعية المستحبة وساعات الاستجابه    ضبط 20 متهمًا أثاروا الشغب بعد إعلان نتيجة الانتخابات بالإسماعيلية    الزمالك في معسكر مغلق اليوم استعداداً للقاء حرس الحدود    بث مباشر| مؤتمر صحفي لرئيس الوزراء ونظيره اللبناني في بيروت    داليا عثمان تكتب: كيف تتفوق المرأة في «المال والاعمال» ؟    جامعة السوربون تكرم الدكتور الخشت بعد محاضرة تعيد فتح سؤال العقل والعلم    المنتخب يخوض أولى تدريباته بمدينة أكادير المغربية استعدادا لأمم إفريقيا    فضل الخروج المبكر للمسجد يوم الجمعة – أجر وبركة وفضل عظيم    هل يجوز للمرأة صلاة الجمعة في المسجد.. توضيح الفقهاء اليوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الترامبيون» لا يحبون الصحافة
نشر في الشروق الجديد يوم 12 - 03 - 2017

ليس بعيدا عن هذا ما جرى عندنا مع إبراهيم عيسى قبل أيام، أو ما سمعناه من رئيس البرلمان بشأن جريدة «الأهرام». كما ليس بعيدا عن هذا وذاك ما جرى على قائمة طويلة من وقائع الحجب، والمنع، والمصادرة، بل وما يتجاوز ذلك عسفا وعنفا سبقت واقعة رئيس تحرير «المقال». بل ربما ليس بعيدا عن هذا كله ما جرى ويجري مع نقابة الصحفيين. فكل ذلك لا عنوان له غير «الضجر» من حرية الكلمة. وكل ذلك ربما لا يدل إلا على أن هناك من «يكره الصحافة» أو بالأحرى، يكره لها أن تكون «مستقلة.. حرة».
***
مارين لوبان على خطى دونالد ترامب. ولكن في شرقنا الأوسطي لنا دائمًا عصا السبق
لأول مرة في التاريخ الأمريكي، منذ أن اعتمد الأمريكيون سنة 1791 «التعديل الأول» للدستور الذي يقطع السبيل أمام أي محاولة (ولو قانونية) للحد من حرية الرأي والتعبير والصحافة، يقدم رئيس أمريكي على منع وسائل إعلام بعينها من التغطية اليومية لأخبار البيت الأبيض. الأمر الذي رافقته تغريداته «الليلية» الصارخة بعدائه لوسائل إعلام عُرفت برصانتها. على قائمة الممنوعين والأعداء نجد CNN وBBC وABC وPolitico والجارديان والنيويورك تايمز.
بعد أيام فقط من الخطوة غير المسبوقة والتي صحبتها اتهامات لم تتوقف من الرئيس للصحافة والصحفيين خرجت علينا مارين لوبان Marine Le Pen مرشحة اليمين الفرنسي (العنصرية) لتحذو حذو ترامب وتوجه الاتهامات ذاتها للصحافة. وهو الأمر الذي لا يختلف كثيرا (وإن اختلفت اللغة) عن كلام مشابه لهذا الحاكم أو ذاك في شرقنا الأوسطي، على الرغم من الاختلافات البينة بين زعمائه.
لماذا يكرهون الصحافة هكذا؟ أو تدقيقا للمعنى: لماذا يكرهون الصحافة «الحرة»؟
***
في نوفمبر 2016، لم يكن ترامب قد تولى السلطة بعد عندما صدر تقرير منظمة مراسلون بلا حدود المعنون Press Freedom Predators والذي يضم 35 اسما لأنظمة حاكمة (دولا وتنظيمات) ترتكب جرائم بحق حرية الصحافة والتعبير. والمثير، والمتوقع في الوقت نفسه أن تجد إلى جانب تنظيم الدولة ISIS وطالبان والحوثيين في اليمن، دولا مثل مصر وتركيا وروسيا وكوريا الشمالية والسعودية وسوريا بشار الأسد. وغيرها كثير من الدول العربية والشرق أوسطية، التي يبدو أنها لم تعد تتنافس إلا على موقعها المتدني على «مؤشر حرية الصحافة» (فمن أصل 180 دولة تحتل مصر المركز 159، وتركيا 151، والسعودية 165، في حين لا تنافس سوريا 177 غير كوريا الشمالية 179).
يختلف الجميع إذن، بل يتحاربون ولكنهم يتفقون على عداء الكلمة «الكاشفة المستقلة».. وإن اختلفت التفاصيل. ففي حين لا تتردد التنظيمات المتطرفة في استخدام السلاح، أو الاختطاف قتلا وترويعا للمراسلين والصحفيين، تتعدد / أو تتجمَّل أسلحة الدول (أو أشباه الدول) فهناك من يُفضّل «تقنين القمع» بعد أن نجح في حياكة أداته التشريعية. وهناك من يشتري علنا (أو من خلف ستار) وسائل الإعلام المستقلة لتدجينها أو تهميشها. وهناك من يلجأ إلى الحجب أو المصادرة، أو يلعب «بالعصا والجزرة» كما هو دأب كل سلطة مطلقة أو استعمارية في التاريخ. وفِي كل الأحوال، ومهما تجمل المتجملون، لا يضل الصحفيون أبدا طريقهم إلى السجن أو التحقيقات المفتوحة (التي قد لا تنتهي) عقابا أو تهديدا. (حالة Deniz Yücel في تركيا وإبراهيم عيسى في مصر مثالا).
***
لك ألا تتفق (أبدا) مع إبراهيم عيسى، ولكن عليك أن تدافع (دوما) عن حرية الرأي والتعبير
قد لا نتفق مع قليل أو كثير من آراء / مواقف إبراهيم عيسى (التي كانت، أو صارت) لكن هذا لا ينتقص من «حتمية» (أكرر: حتمية) أن تقف معه، كما هي حتمية أن تقف مع غيره دفاعا عن «حرية التعبير» التي صار مجرد الدفاع عنها جريمة عند البعض، وأخشى أن يكون بين هؤلاء «البعض» من يُفترض أن لا دور لهم (تعريفا) غير ممارسة الرأي والتعبير الحر، كأداة لا بديل عنها لممارسة «... الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية» كما تقول المادة 102 من الدستور عن وظيفة المجلس النيابي الذي من المفترض أن يأبي (بأفعاله، لا ببلاغاته) أن يكون «كرتونيا».
ما جرى مع عيسى، من منع لبرنامجه، ثم بلاغ فتحقيق ليس أكثر من استكمال (وإن تعددت الوسائل والحجج) لما جرى مع قائمة طويلة من الإعلاميين والصحفيين بدءا من يسري فوده وباسم يوسف، وليس نهاية بمحمود سعد وبلال فضل (والأسماء هنا على سبيل المثال لا أكثر). كما أنه ليس أكثر من وجه آخر لما جرى من رئيس البرلمان مع «الأهرام»، ولما جرى من نوابه مع أنور السادات، ولما جرى من البرلمان ذاته مع عمرو الشوبكي، ولما يجري كل يوم من صحافة النظام (المحبوبة) مع محمد البرادعي وغيره ممن لم يرغبوا في أن يكونوا فردا في قطيع.
ما جرى مع عيسى، أو الأهرام ليس بعيدا في معناه أو دلالته عن ما تدل عليه قائمة طويلة من وقائع تبين كم كراهية «الترامبيين» للصحافة «الكاشفة» وللصحفيين «المستقلين». على القائمة الطويلة ما نعرفه من تعطيل طباعة صحف تجرأت فنشرت تقارير «موثقة» لم تعجب هذا أو ذاك، وكان بوسع «هذا أو ذاك» أن يرد إن شاء بما لديه من وثائق (إن كانت لديه) ليعرف الناس، الذين هم أصحاب الحق الأول في معرفة الحقيقة.
على القائمة الطويلة أيضا ما شهدناه صارخا وفجا من انتهاكات تعرض لها الصحفيون، وتعرضت لها حريتهم في ممارسة مهنتهم (واجبهم) في تغطية وقائع تظاهرات الخامس والعشرين من أبريل الماضي (تظاهرات تيران وصنافير). فحسب أرقام التقارير ذات الصلة جرى احتجاز / القبض على 53 صحفيا، وأُجبر مصورون صحفيون على إتلاف ما كانت قد التقطته كاميراتهم، التي لم يسلم بعضها من الإيذاء أو محاولة الاختطاف. ومُنع صحفيون من الوصول إلى نقابتهم. ثم كان أن ترافق كل ذلك مع كل ما يمكن تصوره من محاولات إذلال وإهانة للمهنة وللعاملين بها. وهو الأمر الذي دفع بالصحفيين إلى الخروج يومها من نقابتهم في مسيرة ترفع الأقلام والكاميرات (لا الأسلحة) إلى دار القضاء العالي؛ حيث يُفترض أن يكون العدل.
يتصل بهذا طبعا ما جرى، ويجري مع نقابة الصحفيين ومجلسها الحالي، مما بدا أن لا سبب له إلا العقاب على إتاحتهم الفرصة لمصريين أن يدافعوا عن «مصرية» الجزيرتين. الأمر الذي دفع بصحفيين من مختلف المشارب والاتجاهات إلى إصدار بيان يحاول أن يدفع عن المهنة ما يحاك لها. وكان من الطبيعي أن يتضمن البيان «المهني» أسماء من مختلف التيارات والمشارب، وبينها من لا يمكن أن يقذف في وجهه بالاتهام المبتذل «بالأخونة» (الأساتذة لويس جريس، وفريدة النقاش مجرد مثال).
تاريخ النضال النقابي «المهني» الذي يدرك أن تلك مهنة رأي، وأن الدفاع عن حرية الرأي هو من صميم المهام النقابية لمهنة الرأي طويل، على شباب الصحفيين أن يفخروا به، وعلى السلطة التي لا ترى أبعد من طرف أنفها أن تعيه.
في 1968 توجهت مظاهرات الطلبة إلى نقابة الصحفيين، ليعقد مجلس النقابة برئاسة النقيب الراحل أحمد بهاء الدين اجتماعا يسفر عن بيان يتبنى مطالب الطلاب في إعادة محاكمة ضباط القوات المسلحة المسئولين عن الهزيمة، واستجاب يومها عبدالناصر.
وفي عام 1979 قال لي النقيب الراحل كامل زهيري، في أول حوار صحفي أجريه: «أنه إذا كان للمجلس التشريعي أن يصدر ما يشاء من القوانين، فإن لنقابة الصحفيين أن تدافع عن كونها نقابة رأي وتعبير» ويومها نجحت النقابة في أن تجهض محاولة السادات، ومجلسه التشريعي في أن يحول النقابة إلى نادي اجتماعي يتسامر فيه الأعضاء ويشربون الشاي.
وكذلك فعل النقيب إبراهيم نافع إبان أزمة القانون 93 لسنة 1995، وفعل النقيب مكرم محمد أحمد في مارس 2008 عندما سمح للزميل عبدالجليل الشرنوبي الذي كان أيامها رئيسا لتحرير موقع «إخوان أون لاين» أن يعتصم بمقر النقابة قرابة الشهر ونصف، بعد أن داهمت قوات الأمن منزله لإلقاء القبض عليه. كما أرجو ألا تنسوا أن سلم النقابة أيامها كان المكان الدائم لوقفات «حركة كفاية» المناهضة للتوريث، والتي بدأت «واقعيا» الطريق الطويل الذي أدى للإطاحة بمبارك وابنه، والذي لولا الإطاحة بهما ما وجد النظام الحالي طريقه إلى الحكم.
لا جديد بالطبع في التذكير بتلك الوقائع، ولكن كما أن الذكرى تنفع المؤمنين، فهي قد تنفع أيضا أولئك الذاهبين بعد أيام إلى صناديق الاقتراع دفاعا عن نقابتهم، ودفاعا عن دورها الأهم في الدفاع عن «حرية الرأي والتعبير» التي لا سبيل لممارسة المهنة بدونها.
***
يبقى أننا قرأنا في الصحف أن «تكدير السلم العام» هي تهمة إبراهيم عيسى، بالضبط كما كانت هي تهمة العديدين قبله، وكما ستكون على الأرجح تهمة العديدين بعده.
يسارع البعض إذن بتقديم بلاغات تتهم كل رأي معارض بأن في رأيه «تكدير للسلم العام» مطالبا بتطبيق المادة 102 مكرر من قانون العقوبات، غافلا عن حقيقة أن أكثر ما يهدد السلم العام حقا هو «صناعة فرعون جديد»، لا يُسأل عن ما يفعل، فيفعل (بحسن نية أو بغيرها) ما قد يكون من شأنه يوما أن يهدد السلم العام فعلا لا قولا. واقرءوا التاريخ إن شئتم، لتعرفوا كيف كان حال «السلم العام»، حين لم يجد أدولف هتلر وأمثاله من يرده عن نزواته «الإمبراطورية»، وكيف كان حال السلم العام «عراقيا أو عربيا» حين لم يجد صدام حسين من يرده عن غزو الكويت في ذلك الصيف البعيد الذي مازلنا نكتوي بلهيب ناره حتى اليوم. اقرءوا التاريخ إن شئتم، لتعرفوا كيف كانت حرية الصحافة سببا في إنهاء حرب فيتنام لا في اندلاعها، وفي كبح جماح التوتر العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية بإرساء ثقافة حقوق مدنية «متساوية». تقول كل القياسات والدراسات، أن لا ضمان للسلم العام أو السلام العالمي غير الديموقراطية، والتي لا يريد أعداء الصحافة أن يعترفوا أن حجرها الأساس هو حرية الرأي والتعبير.. والصحافة.
ما يهدد «السلم العام» فعلا لا قولا، ليس مقالا في صحيفة، بل قرارات «تمييزية» تتحيز لفئة من الشعب على حساب أخرى. أو تزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرا.
ما يهدد «السلم العام» فعلا لا قولا، ليس مقالا في صحيفة، بل قرارات اقتصادية غير مدروسة تخرج بالناس إلى الشوارع كما جرى في يناير 1977، أو تؤدي إلى إهدار المال العام لدولة تعاني من الفقر، وتعيش على المنح والقروض.
وما يهدد «السلم العام» فعلا لا قولا هو سياسات أمنية لا تدرك أن ظلم الآلاف، يصنع من ذويهم عشرات الآلاف من القنابل الموقوتة، التي سيدفع ثمن يأسها المجتمع كله.
ما يهدد «السلم العام» فعلا لا قولا هو حمق سياسات لا ترى خطورة أن تجعل «ظهر أحدهم إلى الحائط»، فلا يصبح أمامه يأسا إلا أن يهدم المعبد على من فيه.
ما يهدد «السلم العام» فعلا لا قولا، هو سياسات تعمل (بل بالأحرى تتعيش) على صناعة الاستقطاب المجتمعي، وبث الكراهية بين الناس. ثم تعمل على أن يكون لها صحافتها / إعلامها الموجه الذي يعمل على تسويق ذلك.
ما يهدد «السلم العام» فعلا لا قولا ليس مقالا في صحيفة، بل ربما على العكس تماما، فرُب رأي يحذر من خطورة كل ما سبق، فينتبه صانعو السياسات إلى ما ربما لم ينتبهوا إليه، فتصبح القرارات أكثر رشادة، ويصبح المجتمع أكثر استقرارا وأمنا.. وسلما. رحم الله عمر الذي طلب من الناس «أن يقوموه».
***
يبقى من الاطلاع على التقارير الدولية عن حال الصحافة، ومن قراءة المشهد بعرض العالم، أننا كدنا أن نصبح «في الهم شرق». فالكارهون للصحافة «الحرة» يتزايدون. وعلى الرغم من اختلاف السياقات والتفاصيل، بدا في بعض جوانب الصورة، وكثير من الخطاب أن لا فارق بين دونالد ترامب ومارين لوبان ومن شابههم (وهم كثر).
فالترامبيون سلطويون وديماجوجيون وشعبويون بطبيعتهم. ولهذا فهم يحبون من الصحافة ما كان خاضعا للسلطة، أو شعبويا وديماجوجيا. أما ذلك «المستقل» الذي يعرف أن وظيفته هي إخبار الناس «بالحقائق»، وتنبيه السلطة الحاكمة إلى ما قد لا تلفت إليه من نواحي قصور هنا وهناك، فضلا عن إتاحة الفرصة لكل صاحب رأي أن يعبر عن رأيه؛ مؤيدا كان أو معارضا، فذلك مما لا يحبه أو ربما يخشاه الترامبيون.
يحب ذلك النوع من السلطة أن «يستخدم» الصحافة (كما هو في كل المعنى المعجمي للكلمة)، فإذا تعذر ذلك، فهي «العين الحمراء». وأظننا جميعا نعرف كيف لا توفر هذه السلطة جهدا في التأميم، أو التدجين، أو التضييق الإعلاني، أو التلويح بقطع رزق (أو حتى وضع القيود) في يد هذا الناشر أو ذاك. وكأننا لم نرث من المعز لدين الله؛ الخليفة الفاطمي الأشهر غير «ذهبه وسيفه»
***
«حرية الصحافة» ليست امتيازا للصحفي، بل هي ببساطة «حق المواطن» في أن يعرف
لماذا يكرهون الصحافة؟
لأنهم يعتبرون أن الصحافة الحقيقية «كما البحث عن الحقيقة» من الأمور المربكة لأركان السلطة الحاكمة. ففي روسيا يشترون الصحف لتغيير سياساتها. و في تركيا يحجبون مواقع التواصل الاجتماعي. و في كوريا الشمالية يمنعون المراسلين الأجانب من العمل، و في مصر يحبسون إسماعيل الاسكندراني، وهشام جعفر، ومحمود شوكان، ومحمود حسين، ويمنعون حسام بهجت من السفر، ويطاردون يحيى غانم؛ الرئيس السابق لمجلس إدارة دار الهلال (القومية) بحكم غيابي بالحبس في قضية نعرف جميعا ملابساتها. ثم حين لا تسمح السياقات الأمريكية لدونالد ترامب أن يفعل أيا من ذلك، يكتفي بخطاباته وتغريداته، ليصف الصحافيين بأنهم «أعداء الشعب».
لماذا يكرهون الصحافة؟
لأنهم لا يريدون للناس أن تعرف أن «حرية الصحافة والتعبير» ليست امتيازا للصحفيين، بل هي «حق للمواطن» في أن يعرف. فلولا حرية الصحافة، ما كان المواطن الأمريكي عرف بفضيحة ووترجيت، ولا بما جرى في سجن «أبوغريب»، ولا بالفظائع التى ارتكبها جيشه في قرية «ماي لاي»، الفيتنامية. ولولا «الصحافة الكاشفة»، ما كنا عرفنا بقضية المبيدات المسرطنة التي كانت وزارة الزراعة تستوردها زمن مبارك، ولا بخطر مشروع «هضبة الأهرام» التجاري على أهم معالمنا الأثرية، والتي نجحت الراحلة نعمات أحمد فؤاد في وقفه بسلسلة مقالاتها في «الأهرام»
لأنهم لم يتعلموا حقيقة إن لا دولة قوية بلا معارضة قوية، ولا معارضة قوية بلا حرية تعبير، وإعلام «حقيقي»
لماذا يكرهون الصحافة؟
لأن هناك للأسف من يظن أن «حرية الصحافة» عبء على الدولة. رغم حقيقة أنها أول الخاسرين من تقييد تلك الحرية. أكرر ما قد لا يحتاج أصلا إلى التذكير به: لا توجد دولة قوية بلا معارضة قوية. ولا توجد دولة قوية بلا حكم رشيد، ولا يوجد حكم رشيد بلا شفافية ومحاسبة. ولا توجد شفافية ومحاسبة بلا إعلام حر يكشف ما يحاول الفاسدون «أو المفسدون» إخفاءه.
لماذا إذن يكرهون الصحافة؟
لأنهم لا يطيقون النقد، بل يفضلون المساحيق الملونة، وإخفاء التراب تحت السجادة. ويعتبرون كل نقد عيبا في الذات الملكية، أو الرئاسية، أو البرلمانية، أو المؤسسية، أو «السيادية». حتى بدا وكأنهم لم يتركوا لك غير حرية أن تنقد «ذاتك»
***
وبعد..
فربما من الأصدقاء (العليمين ببواطن الأمور) من سيعتبر أن عنوان هذا المقال ليس دقيقا بما فيه الكفاية «إذ أن في السلطة من يعشق الإعلام.. ويغدق عليه؛ شراء وتدجينا ما لم يغدقه والي على جواريه في هذا الزمان المترف البعيد» .. وهذا كله صحيح. ولكن تمهلوا فنحن نتحدث هنا عن «الصحافة»، وهي لا تستحق هذا التعريف، إلا إذا كانت «مستقلة.. وحرة». أما عدا ذلك مما يُشترى، أو يدور بالدفوف والقناني فله اسم آخر.
لمتابعة الكاتب:
twitter: @a_sayyad
Facebook: AymanAlSayyad.Page
روابط ذات صلة:
ما بين الصحفى والسلطة .. ثمن الحرية
الإعلام «الصادق» .. الذي تحدث عنه الرئيس
حينما تُسقِط الصحافةُ الرئيس
بل صحافة الناس.. لا صحافة الصحفيين
تقرير عن أوضاع المهنة في مصر
مقالات: فهمي هويدي / عمرو الشوبكي / حمدي رزق
برامج: يسري فوده / فريد زكريا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.