غادرت القاهرة صباح الإثنين الماضى إلي دبي لحضور أعمال منتدي الإعلام العربي في توقيت صعب علي مهنة الصحافة في مصر، بعد أن تفاقمت أزمة من لاشيء، وضعت الوسط الصحفي في حالة من القلق والتوتر بتصرفات غير محسوبة، وعدم إدراك حالة الرأي العام وامتعاض الكثيرين من أداء صحف وقنوات لا تراعي أبسط قواعد المهنية. أكثر ما يحزنني في تلك الأزمة المفتعلة هو عدم استيعاب هؤلاء أن صب الزيت علي النار ليس في مصلحة المهنة والدولة، ولن يصل بنا الكذب والتدليس والتزييف باسم الجمعية العمومية للنقابة والتشدد إلا إلي حدوث شروخ في الصرح الحاضن لكل الصحفيين ومصدر شرعية كل من يعمل في مهنة الصحافة المكتوبة، وهو ما كان يجب تجنبه بأي ثمن. كنت أود أن أقف علي منصة الكلمة في المنتدي فخورا بإنجازات جديدة للصحافة المصرية، وتصورت ما كان يمكنني قوله لو أن أصحاب الكلمة قد بادروا بتقديم تجربة أكثر نضجا بعد ثورة شعبية هائلة ورائعة في 30 يونيو، وهي الفرصة المهدرة في تاريخ الصحافة المصرية التي كان يمكن من خلالها أن نكتسب احتراما أكبر وأوسع من كل فئات المجتمع وفي الداخل والخارج. إلا أن ما جري كان علي عكس قيمة الثورة العظيمة، وتغلب النزوع إلي الفوضي ونشر الكراهية وعدم التيقن مما تسطره الأقلام والاجتراء علي الموضوعية والحرفية والرصانة في صحف كثيرة، بينما واصلت الفضائيات مسلسل التراجع بمعالجات سطحية ومبتسرة أو مغرضة، كثير منها يرمي إلي تحقيق مصالح بعينها، في توقيت كانت القيادة السياسية في المرحلة الانتقالية في عهد الرئيس المؤقت عدلي منصور ثم في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي تطمح إلي تعظيم الاستفادة من كل عناصر القوي الشاملة في الدولة، وفي مقدمتها الصحافة ووسائل الإعلام الوطنية التي يفترض أن تجربتها تنضج عندما ترتفع إلي مستوي حدث مصيري مثل الثورة الشعبية التي أطاحت بجماعة فاشية من الحكم، وفرضت إرادة الجماهير في تغيير المسار نحو سلطة حكم «وطنية» لكن الصحافة والإعلام في مجمله أقولها صراحة خيب الآمال في تقديم تجربة تستوعب أخطاء الماضي وترسم خطا جديدا بين تجربة ماضية ومستقبل مختلف حتي تسترد المهنة رونقها ومكانتها في أوساط الرأي العام. ما وصل إليه حال المهنة كان يستدعي تدخلا من المهمومين بشئونها من أجل وضعها علي طريق جديد، فلم يحدث أن قامت النقابة ومجلسها بواجبها المفترض، ولم يحدث أن اجتمعت أطراف تمثل الصحافة الرصينة من أجل موقف واحد، فكانت النتيجة أزمات متتالية من مجلس يفتقر إلي الحنكة والرصانة وإعلاء قيمة مهنة، بعضهم لا يعرف عنها الكثير، فكان المأزق الأخير والصدام غير المطلوب، فلا المهنة كسبت من المواقف العنترية ولا حالها أفضل عندما أصدر اجتماع مجلسها قرارات تفتعل أزمة! كانت تمنياتي للصحافة المصرية كثيرة في دبي، كنت أتمني أن نتكلم عما حققناه في صحافتنا في السنوات الأخيرة من تطور لمواكبة التطور التكنولوجي، ومن تطور في دور الصحفي في عصر يموج بوسائل التواصل الاجتماعي، وعن مؤسسات صحفية عملاقة يفترض أن تنتقل بدورها لتصبح مؤسسات إعلامية متعددة الأوجه والأدوار، فقد ألقت الأزمة بظلالها، ولم أستطع أن أتحدث عما أحلم به لمستقبل المهنة، بينما ما هو متداول عنا نحن الصحفيين لا يسر ولا يدعو للتفاؤل. أعود إلي ما جري في «الأهرام» يوم لقاء «الأسرة الصحفية» الأحد الماضي، وجهت الدعوة إلي رموز مهنية كبيرة للجلوس علي المنصة، وجاء خمسة من أعضاء مجلس النقابة للمشاركة في مؤتمر حاشد، لم تسعه قاعة محمد حسنين هيكل في المبني الرئيسي، وعبر زملاء كثيرون عن مخاوفهم من الصدام المفتعل بين النقابة وأجهزة الدولة، ورفضوا اغتصاب سلطة الجمعية العمومية في مطالب الاجتماع الأخير في النقابة، ومن ثم كان للمجتمعين كلمتهم في بيان حمل (8) بنود محددة، صاغته مجموعة من الأسماء البارزة في المهنة اليوم وهي (بشكل مختصر): أولا: أن الاعتصام في النقابة حق لكل زميل يشعر بالغبن، وهو حق لأي مجموعة صحفية تتعرض لأي من صور الاضطهاد والعقاب الجماعي. وفي جميع الأحوال ينبغي أن تعرض حالات الاعتصام علي مجلس النقابة مسبقاً لمعرفة المجلس بأسباب الاعتصام. ثانيا: عدم جواز الخلط بين مسئولية الجمعية العمومية، التي من حقها اتخاذ ما تراه تجاه أي قضايا متعلقة بحرية الرأي والتعبير والمهنة، متي كان انعقادها صحيحا وقانونيا، وفق ضوابط الإجراءات التي ينظمها القانون، وبين أي اجتماع داخل النقابة يعطي لنفسه، دون سند قانوني أو شرعي، الحق في اتخاذ قرارات ملزمة للصحف والصحفيين، هي في حكم العدم، لأنها لم تصدر عن جمعية عمومية صحيحة. ثالثا: لا ينبغي لنقابة الصحفيين أن تعتبر نفسها سلطة فوق سلطات المؤسسات الصحفية، لأن سلطة نقابة الصحفيين هي سلطة أدبية وولايتها تتعلق بالصحفيين، وليست بالمؤسسات الصحفية. رابعا: لا يجوز للنقابة أن تتصرف كحزب سياسي، يحتكر النقابة منبراً لدعوته، ويجب أن يلتزم مجلس النقابة حدود التفويض النقابي الممنوح له في انتخابات حرة نزيهة، الذي يعطيه حق الدفاع عن حقوق الصحفيين وحرياتهم والارتقاء بقدراتهم المهنية، وإعلاء شئون المهنة، ولا يلزم أعضاء النقابة بأي قرارات ذات طابع سياسي. خامسا: طالب المجتمعون بضرورة تشكيل لجنة محايدة من الزملاء الصحفيين لكشف حقيقة ما حدث في ضوء شهادة الزملاء الخمسة أعضاء مجلس النقابة الذين شاركوا في الاجتماع، وأدي إلي الأزمة التي جرت بين نقابة الصحفيين والأمن. سادسا: طالب المجتمعون بإنهاء أي حصار يفرضه الأمن علي مبني النقابة، ومطالبة وزارة الداخلية وكل أجهزة الأمن بحسن معاملة الصحفيين والحفاظ علي كرامتهم في أثناء أداء واجباتهم المهنية. سابعا: استنكر المجتمعون موقف المجلس الأعلي للصحافة المؤيد للموقف غير الصائب لمجلس النقابة مما فاقم هذه الأزمة. ثامنا: قرر المجتمعون إحالة طلبات إلي مجلس النقابة موقعة من عدد من أعضاء النقابة تجاوز النصاب القانوني المحدد في المادة 32 من قانون النقابة، يطالبون فيها بعقد جمعية عمومية غير عادية تنظر في سحب الثقة من مجلس النقابة وإجراء انتخابات مبكرة علي كامل مقاعد المجلس. بيان «الأسرة الصحفية» لم يحمل موقفا معاديا للنقابة التي تعبر عن جموع الصحفيين وتمنح الصحفي رخصة شرعية لممارسة عمله، لكنه يهدف في المقام الأول إلي استعادة قيم أصيلة غابت عن النقابة في السنوات الأخيرة، والأهم في تلك المرحلة إعادة الانضباط القانوني والمهني لعمل مجلس النقابة بعد أن انجرف بها البعض في اتجاهات «مسيسة» تهدد النقابة بالانقسام الحاد، وهو ما لا يمكن حدوثه. وردي علي من يقولون إن اجتماع الأسرة الصحفية يقسم النقابة هو أن ما تفعلونه في مجلس النقابة وفي بهو وردهات النقابة وعلي سلم المبني هو الانقسام بعينه كما أن مشاركة خمسة من أعضاء المجلس في الاجتماع بالأهرام تعني الانقسام بعينه داخل المجلس، ووحدة الصحفيين في مواجهة اختطاف النقابة فالمجلس مكلف وفقا لتفويض محدد من الجمعية العمومية بإدارة العمل النقابي وحماية حق الزملاء في ممارسة مهنتهم دون معوقات وليس من بينها التعبير الصاخب عن آراء سياسية والمبالغة في إظهار ولاءات أيديولوجية دون حسيب أو رقيب. إن حجم الغضب المتصاعد من مبني النقابة، أو بالأحري من أفواه بعض أعضاء مجلسه، لم نحسه أو نشعر به عندما قامت صحف خاصة بفصل زملاء لأسباب مختلفة، وقد كان من الأجدي أن يتصدي هؤلاء لتعسف الإدارة في تلك الصحف وحماية حقوق الزملاء وهو ما لم يحدث وترك الزملاء لحالهم دون مظلة حقيقية، بينما تدفع الدولة «بدلا مالياً» للمفصولين باعتبارهم أعضاء نقابة وهو ما يرتكن إليه البعض ويفضل عدم محاسبة المجلس عن تقصيره في حماية الحقوق أو مد مظلة الحماية لملاحقة ملاك الصحف ممن يجورون علي حقوق الصحفيين من أعضاء النقابة. مواقف حدثت بعد قيام صحيفة الأهرام بمبادرتها يوم الأحد الماضي تؤكد سلامة توجهنا وما دعونا إليه لوقف التصعيد الضار بالمهنة وبالصحفيين، وسعينا بوضوح إلي الوصول إلي حلول تحفظ الدولة والنقابة معاً، وقلت في كلمتي الافتتاحية «لا كرامة لصحفي في دولة تكسر هيبتها.. ونحن دعاة حوار ونقاش ولسنا دعاة صدام ودعاة وحدة ولسنا دعاة انقسام». وفوق كل ما سبق نقولها صراحة «نحن دعاة احترام الدستور والقانون ولسنا دعاة فوضي أو دعاة الخروج علي القانون». وبالمثل أيضا «نحن دعاة لحماية كرامة الصحفي وكرامات الناس وحرمة النقابة. ونحن أبناء مهنة ونقابة لها قدسيتها ولها احترامها لا تقبل انتهاك حرمتها سواء من الأمن أو من أعضائها». أقول إن مواقف بعض الصحف والقنوات التليفزيونية برهنت في الأيام الأخيرة علي أننا لم نقبل أن نكون قطيعا يسير وراء قرارات غير شرعية سميت زورا بقرارات الجمعية العمومية، ودعونا إلي مراجعة ما صدر من توصيات عن اجتماع النقابة لدرء مخاطر صدام لا معني له يمثل مصلحة لمن يريدون إشعال حرائق في جسد الوطن ولا يخدم القطاعات الأوسع من الصحفيين أو المجتمع المصري برمته. لم نتجاوز عندما طالبنا بضرورة استجلاء حقيقة وجود زميل صحفي وشخص آخر غير نقابي في المبني، بينما كان هناك قرار ضبط وإحضار من النيابة العامة خاصة أن الشخص الآخر من المحرضين بوضوح علي القتل والتصفية علي مواقع التواصل الاجتماعي ويجسد بحق حالة من الفوضي الضاربة في أوصال الوطن وظاهرة عفنة لا يتخيل أصحابها أن دعواتهم غير مسئولة بل ويراها نفر في نقابة الصحفيين أنها دعوات لا تمثل خروجا علي القانون أو نشرا للكراهية أو تحريضا صريحا علي القتل (!) ومازلت أطالب مجلس النقابة بأن يوضح لنا لماذا اختار التصعيد قبل أن يفتح حوارا مع الجهة المسئولة عن أمن المجتمع.. وهي مسئولية قبل أن تكون اختيارا.. وهي أمر واجب علي نقابة تدافع عن الحقوق والحريات فلا يجوز أن تغلق الباب علي نفسها ويطلق بعضهم كلاما غير مسئول يحرض المجتمع علي أجهزة أمنية تواجه في كل دقيقة اختبارات دقيقة لقدرتها علي تأمين المواطنين، وتدفع من أرواح أبنائها كل يوم شهداء ومصابين هم رموز وعلامات مضيئة لا يسلط الإعلام الأضواء عليهم لأنهم ليسوا علي أجندة من يسعون وراء الإثارة ومن ينتعشون في برامجهم وصحفهم علي أصوات الفوضي في الشارع (!) لقد دعوت إلي اجتماع الأسرة الصحفية في الأهرام بعد عودتي إلي القاهرة مساء الخميس قبل الماضي من الفرافرة - حيث كان هناك من يزرع ويحصد ثمار جهده علي بعد مئات الكيلو مترات - لأجد ضجيجا يهدد مسيرة وطن ينشد شعبه التنمية والبناء، وعدت من دبي مساء الأربعاء الماضي لأشارك صباح أمس في الاحتفال بافتتاح 32 مشروعا جديدا ينفذه رجال نذروا أنفسهم للبناء والإعمار بينما لايزال أصحاب الضجيج مستمرين في صب الزيت علي النار. غاية القول في ظل عدم تحريك المواقف في الأزمة القائمة أن فضيلة التراجع عن مواقف متشددة هو أمر سيحسب للجماعة الصحفية، ويعيد لها قدرا من سمعة مهدرة علي سلالم النقابة وعلي أوراق صحف لم تدرك خطورة التصعيد وفي استديوهات فضائيات لم تستوعب أن الحرف يقتل وأن الكلام عبر الأثير ليس كلاما في الهواء بل هو رسالة لابد أن نحسن تقديمها إلي جمهور عريض ينتظر منا الصدق والموضوعية والحياد قدر ما نستطيع، ولا يريد أن يرانا في مواجهة السلطة السياسية أو سلطة فرض القانون لأنها ساعتها تهبط الصحافة ومكانتها من نظره ويعيد التفكير في موقفه منها وربما تسقط في امتحان الثقة لو تخيلت أنها ند للسلطة وليست رقيباً أو عيناً فاحصة تبصر مجتمعها. لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام