بوابة شموس نيوز – خاص خروج الغواني في الثامن من مارس عام 1919، تم اعتقال الباشوات "سعد زغلول"، و"محمد محمود"، و"حمد الباسل"، و "إسماعيل صدقي"، وخلال ساعات قليلة تم ترحيلهم إلى جزيرة مالطة، تنفيذا لأمر نفيهم الذي أصدره رئيس حكومة لندن، وأرسله للسلطات العسكرية البريطانية في القاهرة، وبالرغم من التضييق على الصحف ومنع نشر أي أخبار تتعلق بالوقد المنفي، لمجرد أنه يتبع الطرق السلمية لاستقلال بلاده، إلا أن الخبر انتشر بأسرع ما يمكن أن ينتشر لو ان الصحف نشرته، فقامت القيامة في طول مصر وعرضها، الأمر الذي جعل السلطة الانجليزية تصاب بالجنون الفعلي، فانطلقت في الشوارع والميادين، تطلق الرصاص على أي تجمع، حتى أنهم أطلقوا النار على المصلين الخارجين من مسجد الحسين، فقد ظنوهم متظاهرين، وقتلوا منهم العشرات وجرحوا المئات، الأمر الذي كان يزيد من وقود الثورة. لكن أغربب ما سجله المراقبون في هذا الشأن، هو خروج النساء إلى الميادين هاتفات بصوتهن الرقيق الذي كان يزلزل قلوب جنود الاحتلال. المؤرخون لهذه الفترة، لا يستطيعون إلا أن يتوقفوا بكل فخر، أمام سقوط أول شهيدة مصرية في تاريخنا الحديث، ألا وهي السيدة "شفيقة بنت محمد"، التي سقطت مضرجة بدمائها الطاهرة وهي تهتف بصوتها الذي غطى على أصوات الرجال: الاستقلال التام أو الموت الرؤام. نحن نتذكر أحيانا هذا الشعار بقدر غير قليل من الاندهاش من استخدام المفردات المعجمية المهجورة في الهتاف، فنحن نعرف أنه من أبسط أشراط الشعار أن يكون سهولا ومفهوما حتى تصل رسالته بيسر، فما بال أجدادنا الثوار يستخدمون كلاما من قبيل "الزؤام"، الذي لا شك أن كثيرا من عامة الشعب الذين هتفوا به لم يكونوا يدركون معناه، والحقيقة أن أجدادنا الثوار كانوا أبناء حقبة تعلي من قيمة الخطبة السياسية، وكان الثائر الحقيقي، هو هذا الذي ينفعل كثيرا، ويحرك يديه أكثر ،ويقطب من جبينه حتى يكاد ينفجر عرق قورته، وهو يقول كلاما يشعر الناس بصدقه، بغض النظر عن فهمه، كذلك كان المحامون في المحاكم يخطبون بالطريقة نفسها، وكان "يوسف وهبي" و "نجيب الريحاني" على المسرح يتبعون هذا المنهج الحماسي، فيظفرون بالنجاح ويكللون بالفوز. وقد تحقق الموت الزؤام للسيدة "شفيقة بنت محمد"، والزؤام هو السريع، وقد ماتت بالفعل سريعا، ربما قبل أن تكمل باقي حروف الكلام، وكانت وهي مائتة، ضامة أصابعها على علم مصر. أما مشهد جنازتها، فقد كان أجل من يوصف، وأكبر من أن يعاين، فقد خرجت طوائف الشعب المصري كله لتشيع جثمان أول شهيدة في الثورة المصرية، هذه الشهيدة التي فتحت الباب على مصراعيه، لنساء مصر، أجمل نساء الكون، وأرقهن، وأعظمهن جلالا وشموخا وفداء، فسقطت نسوة أخريات شهيدات ليضوئن في سماء الحرية كما يليق بالأقمار المشعة، وهكذا، سقطت السيدة "عائشة بنت عمر" والسيدة "حميدة بنت خليل"، والسيدة "نجيبة بنت السيد إسماعيل"، والسيدة "فهيمة بنت رياض"، أما عدد الجرحى منهن، فقد فاق عن الحصر. واستمرت المظاهرات، تزداد، وتكبر، حتى لم تبق طائفة في البلاد لم تشارك فيها، بمن فيهم الأطفال الصغار، والشيوخ الذين يتعكزون على العكاكيز الخشبية. ويتوقف المؤرخون أمام مشهد باذخ الروعة، وكأنه مخطوف من كادر سينمائي، فأمام فندق الكونتننتال، كانت السيدات المتظاهرات يملأن الآفاق كلها، منهن الماشيات، ومنهن الراكبات على عربات الكارو، ومنهن السيدة "ألفت هانم بنت راتب"، وهي راكبة عربتها التي يجرها الحصانان الوطنيان، كانت تلوح بعلم مصر، فانقض عليها أحد جنود الاحتلال، وحاول أن ينتزع العلم من يدها، ويلقيه على الأرض، ويقف بجزمته عليه، لكنها تشبثت به كما تتشبث بالحياة، فجن جنونه، وهاج هياج الثور الأحمق، وزاد من هياجه تصفيق الناس للسيدة الجليلة، فراح يضرب ببندقيته على يدها حتى تترك العلم، لكن العلم قد أصبح جزءا من ذراعها، واختلط دمها الأحمر الذكي النازف من أثر الضرب الثقيل بلون العلم الأخضر، والناس تصفق وتشجع المرأة الباسلة، بمن فيهم بعض الأجانب الذين أدهشهم موقف المرأة العزلاء، حينها، هجموا على الجندي الأحمق، ليبعدوه عنها، فانضم زملاؤه الجنود الانجليز لنجدته، وأبعدوا المتدخلين، واستفردوا بالسيدة وحدها، وظلوا يضربون العربة، لكنها انطلقت بالثائرة المنتصرة، وفي يدها علم مصر ، بعد تساقط جنود الاحتلال تحت العربة. الشاعر "حافظ إبراهيم"، راقب هذه المظاهرات النسوية البديعة، وكتب قصيدته التي يقول فيها: خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعهنه فإذا بهن تخذن من سود الثياب شعارهنه فطلعن مثل كواكب يسطعن في وسط الدجنه وأخذن يجتزن الطريق ودار سعد قصدهنه يمشين في كنف الوقار وقد أبن شعورهنه وإذا بجيش مقبل والخيل مطلقة الأعنه واذا الجنود سيوفها قد صوبت لنحورهنه فليهنأ الجيش الفخور بنصره وبكسرهنه. وأرجو ألا يتباد إلى ذهن القاريء أي لبس بخصوص كلمة "الغواني" التي استخدمها "حافظ إبراهيم" في مطلع قصيدته، فهذه الكلمة، في ذلك الوقت، لم تكن كلمة سيئة كما هي الحال الآن، ونحن نعرف أن المفردات اللغوية كائنات تتطور وتختلف دلالاتها من جيل لجيل، فالغانية، التي يقصدها الشاعر هي المرأة التي تستغني بجمالها عن الزينة والماكياج والحلي، أما الآن، فكلمة "الغانية" في عرف الجميع، هي العاهرة، وقد استخدمها الشاعر "أحمد شوقي" بمعناها الجميل أيضا، حين قال: خدعوها بقولم حسناء والغواني يغرهن الثناء أتراها تناست اسمي لما كثرت في غرامها الأسماء. كان من الطبيعي أن يعود "سعد باشا زغلول" ورفاقه الباشوات من المنفى، بعد أن أدرك الساسة الانجليز أنهم لا يستطيعون مواجهة ثورة المصريين، حينها خرجت النسوة لملاقاة "سعد"، تتقدمهن السيد "هدى هانم شعراوي"، وما إن أقبل "سعد"، حتى التفت "هدى شعراوي" إلى رفيقاتها، ونزعت البرقع عن وجهها، فنزعن البراقع عن وجوههن، وشهدت مصر للمرة الأولى، أقمارا مضيئة تمشي في الشوارع. كان الأمر أكبر من كونه نزع برقع الوجه، وإنما نزع كل القيود التي تكبل المرأة عن مواصلة حقها في الحياة. إشارة: الصور بالترتيب: سعد باشا زغلول، محمد محمود باشا، حمد الباسل باشا، إسماعيل صدقي باشا، هدى هانم شعراوي، أحمد بك شوقي، حافظ إبراهيم