" انظروا أيّة محبّة أعطانا الآب حتّى ندعى أولاد الله، ونحن بالحقيقة أبناؤه. من أجل هذا لا يعرفنا العالم، لأنّه لا يعرفه." ( 1يو 1:3). يكفينا التّأمّل بجزء من المحبّة الإلهيّة الممنوحة لنا بيسوع المسيح حتّى نبدأ بالعمل فوراً على تغيير أمور كثيرة في حياتنا وتبديل تصرّفات نسلكها وأفكار ننتهجها وأوهام نتبعها، تعيق مسيرتنا نحو الرّبّ. ويدعونا القدّيس يوحنا في هذه الآية إلى النّظر إلى حجم المحبّة الّتي خصّنا بها الآب حتّى نُدعى أبناء له. وكلمة ( انظروا ) تُستخدم لمعاينة هذه المحبّة بالنّظر أي أنّها محبّة حقيقيّة فعليّة وظاهرة للعيان، وليست محبّة نظريّة أو كلاميّة. والعبارة الأقوى نقرأها في رسالة القدّيس بولس إلى أهل روما ( 8:5): " ولكن الله برهن عن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطأة مات المسيح لأجلنا." ( برهن) أي أثبت أو بيّن أو أظهر لنا بالدّليل القاطع هذه المحبّة حتّى نلمسها لمس اليقين، ولا تبقى محبّة الله بالنّسبة للإنسان مبهمة أو فكرة بل تكون فعلاً حقيقيّاً. عندما يقول القدّيس يوحنا في نفس الرّسالة ( 8:4): " من لا يحبّ لا يعرف الله، لأنّ الله محبّة"، لا يستخدم هذا التّعبير ( الله محبّة) كتحديد لطبيعة الله المجرّدة، بل هو حصيلة تأمّل عميق للرسول يوحنا في عمل الله الخلاصي، خصوصاً في شخص ابنه يسوع المسيح. " الله محبة"، لأنّه أعطانا ابنه الوحيد لنستطيع أن نكون له أبناء، نرث معه الحياة الأبديّة. نحن لا ننظر هنا إلى محبّة مجرّدة، بل مجسّدة في حضور يسوع المسيح ابن الله بيننا الّذي هو أوضح ظهور لمحبّة الله لنا." الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر." ( يو 18:1) ولئن أُعطينا أن نكون أبناء لله، يترتّب علينا أن نظهر في حياتنا كما يليق بأبناء الله. كما يترتّب علينا أن نسعى جاهداً لأن يفخر بنا أبونا السّماويّ انطلاقاً من هذه المحبّة الّتي على الرّغم من أنّها فائقة الإدراك، إلّا أنّها تحيا في قلوبنا بقوّة لأنّها محرّك لحياتنا. فمن لا يحبّ لا حياة فيه وبالتّالي يبقى في الموت، لأنّ المحبّة هي الله والله هو الحياة. لأجل هذا لا يدرك العالم أهمّيّة هذه المحبّة وفعلها القويّ والمؤثّر بشدّة لأنّه لا يعرف الله، أي لم يصل بعد إلى معرفة الله الحقيقيّة. ولا يفهم التّحوّلات الإنسانيّة الّتي ينتقل بها الإنسان من الظّلمة إلى النّور لأنّه لا يعرف المحبّة وبالتّالي لا يعرف الله. بل ولن يصل الإنسان إلى الحقيقة الّتي هي " الله" ما لم يجتهد للسّلوك في المحبّة. وكلّ سعي أو بحث أو نشاط فكريّ وعمليّ يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة يفشل ما لم تكن أصوله في المحبّة. ولأجل هذا لا يعرفنا العالم، أي أنّه لا يفهم سرّ وداعتنا وتواضعنا وتسامحنا وثباتنا بل يرفض أن يفهم، لأنّه لم يتيقّن بعد أنّ الله محبّة ولأنّه ما زال متمسّكاً بالإله الّذي على صورة الإنسان. من هنا ينبغي أن نعمل باستمرار وبصدق على تنمية هذه المحبّة فينا والابتعاد عن كلّ ما يسيء إلى أبينا، كأبناء عرفوا أهمّيّة محبّة الله وأدركوا قيمة عمله الخلاصي فاستحقوا أن يكونوا أبناء له بيسوع المسيح. كما علينا أن نرمي خلفنا كل ما نعتقده سبباً لحياتنا وهو سبب لموتنا وابتعادنا عن الرّبّ، ونعمل على أن يعرف العالم أنّ الله محبّة من خلال مسيرة حياتنا. " لأننا نحن سفراء المسيح، وكأنّ الله نفسه يعظ بألسنتنا. " ( 2 كور 20:5).