أنا هو القيامة والحياة. ( قراءة في رسالة القدّيس أغناطيوس الأنطاكي إلى أهل روما). إنّ آباءنا القدّيسين نجوم ساطعة ومتلألئة في سماء حياتنا، تعكس لنا نور المسيح الحيّ وتنثر في نفوسنا ورود المسيح السّيّد حتّى تزهر أبداً بكلمته الحيّة. وكما أنّ كلمة السّيّد هي الأمس واليوم وغداً، كذا هم آباؤنا، الّذين أدركوا قيمة حضورهم كأعضاء في جسد المسيح، ما زالوا يغذّون فينا بهاء الرّبّ وصورته المجيدة. - ظروف الرّسالة: إذ سمع الأمبراطور تراجان عن غيرة القدّيس أغناطيوس الأنطاكي على انتشار المسيحيّة، استدعاه ودخل معه في حوار من جهة " يسوع المصلوب"، انتهى بإصداره الأمر بأن يقيّد أغناطيوس القائل عن نفسه أنّه حامل في قلبه المصلوب، ويُقاد إلى روما العظمى، ليُقدَّم هناك طعامًا للوحوش الضّارية. إلّا أنّ فرح القدّيس أغناطيوس كان عظيماً، فلطالما انتظر أن تأتي هذه السّاعة، ساعة اللّقاء بالسّيّد الحبيب. خرج القدّيس في حراسة مشدّدة من عشرة جنود، وقد صاحبه اثنان من كنيسته هما فيلون وأغاتوبوس. وإذ رأى الجند حبّ الشّعب له والتفافهم حوله عند رحيله تعمدوا الإساءة إليه ومعاملته بكل عنف وقسوة. وصلوا إلى سميرنا حيث استقبله القديس بوليكربس أسقفها كما جاءت وفود كثيرة من كنائس أفسس وتراليا وماغنيزيا، فاستغلّ الفرصة وكتب رسائل لهذه الكنائس كما كتب رسالة بعثها إلى روما، الّتي نحن بصددها الآن، إذ سمع أنّ بعض المؤمنين يبذلون كلّ الجهد لينقذوه من الاستشهاد. - أسيرٌ بالمسيح الحرّيّة: ( أتوق أن أسلّم عليكم في قيود لأجل المسيح يسوع، إن كانت مشيئته نحوي أن أحسب مستحقاً لبلوغ القصد، لأنّ البداية كانت يسيرة لعلّي أنال نعمة لألقى مصيري دون تدخّل، فإنّني أخشى محبّتكم الّتي قد تسيء إليّ، لأنّه ما أيسر أن تحقّقوا ما تريدونه، لكن من العسير عليّ أن أصل إلى الله إن لم توفروا لي هذا.) تفيض من هذه الكلمات المصبوغة بالحبّ الكامل للرّبّ، عذوبة وسلاماً سماويّين غير ممنوحين إلّا من لدن المسيح. " سلاماً أترك لكم، سلامي أعطيكم، ليس كما يعطيه العالم أعطيكم أنا، لا ترهب قلوبكم ولا تضطرب" ( يو 27:14). إنّه السّلام المنبثق من الحبّ الخالص والكامل، ذلك الحبّ الّذي لا يعرفه العالم. فمنطق هذا الحبّ يتعارض بشدّة مع الحبّ البشريّ المتعارف عليه؛ إنّه الحبّ الله، المنزّه عن كلّ أرضيّ والمتعالي عن كلّ رغبة بالدّنيويّات. إنّه الانجذاب الكلّيّ إلى الحبيب الأوحد. رغبة القدّيس أغناطيوس بأن يكون أسيراً للمسيح تفوق كلّ رغبة، وخوفه الوحيد هو أن يعيق أحبّاؤه خطواته القليلة المتبقّية نحو الرّبّ. وكأنّي به وصل إلى مشارف الأخدار السّماويّة ويخشى أن يمسك به أحدهم ويشدّه إلى أسفل. ويدرك قدّيسنا العظيم أنّ محبّة شعبه تشبه إلى حدّ بعيد محبّة بطرس الّذي اندفع لاعتراض طريق الرّب وهو ذاهب إلى أورشليم، حيث الألم والموت: " حاشاك يا رب! لا يكون لك هذا!" ( متى 22:16). لا شكّ أن بطرس أحبّ المسيح حبّاً كبيراً واعتبر أنّه لا يمكن السّماح ليسوع المعلّم والصّديق والحبيب والمخلّص أن يسلم نفسه إلى الموت. لكنّ هذا الحبّ يبقى حبّاً بشريّاً لا يرقى بنا إلى الحبّ الّذي أحبّنا إيّاه المسيح، الحبّ الإلهي. والحبّ الّذي أراده المسيح حبّ يقتحم الموت ليفتح الطّريق إلى الحياة. حبّ تنتفي فيه كلّ معاني الأنانيّة والتسلّط فيتخطّى الإنسان ذاته ليسكبها بلا خوف أو تردّد من أجل المحبوب. ( إنّني أخشى محبّتكم الّتي قد تسيء إليّ، لأنّه ما أيسر أن تحقّقوا ما تريدونه، لكن من العسير عليّ أن أصل إلى الله إن لم توفروا لي هذا.). يعتبر القدّيس أغناطيوس أنّ محبّة شعبه له تعيق مسيرته نحو المسيح، وتدعوه للخوف إذ إنّه إذا ما اجتهد في سبيل ذلك سيكون صعباً عليه أن يصل إلى الله. وهنا نتنبّه لأمر يفوتنا غالباً ونحن نواجه الصّعوبات والشّدائد والموت كلّ يوم، ألا وهو أنّنا كمسيحيّن مصبوغين بالمسيح، مدعوّون لأنّ نكون مسيحاً آخر بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من معنى. أي أن نحيا المسيح كاملاً حتّى النّهاية وأن نعيش بشراكة حقيقيّة معه قولاً وفعلاً. قد يكون الأمر صعباً في عالم يجنح إلى سجن نفسه بكلّ ما هو أرضيّ، لكنّه ليس مستحيلاً. الشّراكة مع المسيح تتطلّب جهاداً روحيّاً وسعياً دؤوباً للتّحرّر من كلّ ما يمكن أن يسلبنا كرامتنا. فلنتأمّل كم من مرّة أعاقت محبّتنا البشريّة وصولنا إلى المسيح، وكم من مرّة اعتقدنا أنّنا نحبّ المسيح وتبيّن لاحقاً أنّنا نحبّه بطريقتنا وليس كما أحبّنا؟ نحن نحبّه بأنانيّة، أي أنّنا غالباً ما نريده لنا وحدنا، وقد نحبّه لأجل أن يحقّق مشيئتنا لا مشيئته، كما قد نحبّه عند الحاجة... إنّ محبّة المسيح أبعد من محبّة كلاميّة وأعمق من مشاعر عاطفيّة آنية مرتبطة بحاجات، إنّها فعل حبّ حقيقيّ يأسرنا ويقيّدنا بالمسيح فنتحرّر. - الانجذاب إلى المسيح: ( لا أريدكم أن ترضوا الناس، بل أن ترضوا الله، مثلما تفعلون حقاً، لأنني لن أنعم مرة أخرى بمثل هذه الفرصة لأصل إلى الله، ولا أنتم بقادرين على إنجاز عمل أعظم ما لم تسكتوا وتتركوني، لأنّكم إن بقيتم صامتين وتركتموني وشأني أصير كلمة الله، لكن إن أحببتم جسدي فإنّني أصير مجرّد صوت، لا تقدّموا لي سوى أن أنسكب صعيدة لله والمذبح لا يزال قائماً، حتى في محبّة تصيرون جوقة ترنّمون للآب في يسوع المسيح. لأن الله قضى أن يُحسب الأسقف من سوريا ( أي القديس أغناطيوس) مستحقاُ أن يكون في الغرب ( روما موضوع تنفيذ الحكم) وقد جمعه من الشّرق. جيّد أن أغرب عن العالم حتى أشرق عند الله...). حينما نحبّ شخصاً حبّاً جمّاً، نسعى لإرضائه بشتّى الوسائل، ولا نلتفت لأيّ أمر يمكن أن يسبّب له حزناً أو قلقاً. هذا على المستوى البشريّ، فكيف إذا كنّا نعلن أنّنا نحبّ الله الّذي هو الحبّ نفسه؟ إنّ آباءنا القدّيسين جميعهم كانوا مدهوشين بيسوع المسيح، مذهولين ومأخوذين به حتّى أنّهم لم يعودوا يرون إلّاه. فكيفما التفتوا رأوه، وكيفما تكلّموا تلفّظوا بكلامهم وكيفما نبضت قلوبهم أدركوا أنّ المسيح يحملها بين يديه. من هنا نفهم عبارة ( إرضاء الله). هي لا تعني في المسيحيّة، تأمين مواقيت صلاة أو حفظ آيات كتابيّة أو حتّى الإحسان إلى الفقراء والاهتمام بالآخر. وإنّما هي تعني أنّ المسيح امتلك عقولنا وقلوبنا لدرجة أنّنا لم نعد نرى إلّا شخصه في كلّ شيء وفي كلّ شخص، فنقبل إليه بشغف وتولّه، وأنّنا لم نعد نشعر إلّا بحضوره لدرجة أنّه مهما أحاطت بنا ظروف قاسية أو أوضاع مقلقة ومتعبة، شعرنا أنّنا خارج إطارها المؤذي. لو تأمّلنا مشهد رجم الشّهيد استفانوس في الفصل السّابع من أعمال الرّسل الآية ( 55... 60) لفمهنا أكثر معنى أن نكون منجذبين تماماً إلى المسيح. قد ننظر إلى هذا المشهد بحزن أو شاعرية أو عاطفة مفرطة أو حتّى أنّنا نعتبر أن آباءنا القدّيسين من كوكب آخر، إلّا أنّهم ببساطة عاشوا فعل الحبّ الإلهيّ. كان قساة القلوب يرجمون استفانوس وهو ينظر إلى فوق: " ها أنا أنظر السّماوات مفتوحة، وابن الإنسان قائماً عن يمين الله". ( أع 56:7). إنّها حالة الحبّ الكامل الّتي عند أقدامها يندثر كلّ خوف وريبة، والّتي تتحدّى كلّ خطر. إلى هذه الدّرجة كان استفانوس مجذوباً بالمسيح حتّى وكأنّه لم يعد موجوداً وهو يُرجم حتّى الموت. هذا ما يعبّر عنه القدّيس أغناطيوس الأنطاكي بقوله: ( لا تقدّموا لي سوى أن أنسكب صعيدة لله والمذبح لا يزال قائماً، حتى في محبة تصيرون جوقة ترنمون للآب في يسوع المسيح. ) وكأنّه يقول: لا تمنعوني عن محبوبي الإلهي، ولا تشكّلوا حاجزاً يفصل بيني وبينه، بل دعوني أمضي إليه، واحتفلوا معي بهذا اللّقاء مرنّمين ترانيم المحبّة"... - المسيحيّة استحقاق: ( فقط تضرّعوا أن تتوفّر لي قوّة خارجياً وداخلياً حتى لا أتكّلم فقط بل أن أرغب أن أعمل ما أقوله حتى لا أدعى فقط مسيحيّاً بل أبرهن فعلاً أني كذلك، لأنني إن أثبت أنني مسيحيّ، يمكن لي أن أدعَى أيضاً مسيحياً، وحينئذ أصير أميناً حين لا أصبح بعد منظوراً في العالم... إن عملي ليس مجرد بلاغة مقنعة، فالمسيحية بالأحرى هي الأعظم حين تكون مكروهة من العالم.). التّجسّد الإلهيّ بتعريف بسيط هو أنّ الله لم يكتفِ بأن يحبّنا بل أراد أن يثبت لنا ذلك بحضوره الشّخصيّ في العالم. بالمقابل لا يكفي أن نحبّ الرّبّ بل ينبغي أن نثبت له ذلك. ولئن قبلنا الالتزام بالمسيح وارتضينا العمل بكلامه، وجب علينا أن نلتزم فعليّاً بذلك، لا أن ندّعي وحسب. وكأنّ القدّيس أغناطيوس يريد بقوله، ( لأنني إن أثبت أنني مسيحيّ، يمكن لي أن أدعَى أيضاً مسيحياً، وحينئذ أصير أميناً حين لا أصبح بعد منظوراً في العالم)، أنّ المسيحيّ لا يكون مسيحيّاً بل لا يستحقّ أن يُدعى مسيحيّاً إلّا إذا برهن عن مسيحيّته بالفعل، وذلك من خلال العيش في هذا العالم مدركاً أنّه ليس منه. بمعنى آخر، ألا ينقاد بسلوكيّات العالم المناقضة لعمل المسيح. وعندها من البديهيّ أن يكون مكروهاً من العالم، بل إنّ بغض العالم له يساوي برهان مسيحيّته الحقّة. المسيحيّة ليست لقباً نحمله في أوراقنا الرّسميّة وإنّما هي عيش كامل بالمسيح وللمسيح. والمسيح استحقاق، ويجدر بنا أن نسعى بكلّ حبّ ولهفة إلى السّماح له بولوج أعماقنا حتّى لا يتبقى فيها مكان إلّا له. - الّذوبان بيسوع المسيح: ( إنّني وبإرادتي الحرّة الذّاتية أموت من أجل الله ما لم تعيقوني أنتم وأتوسل إليكم لا تشفقوا عليّ بلا لزوم، دعوني أصير طعاماً للوحوش المفترسة، بهذا يمكنني أن أصل إلى الله، أنا حنطة الله، تطحنني أسنان الوحوش الضارية لأثبت أنني خبز نقي، وأفَضِّل أن تهيجوا عليّ الوحوش المفترسة ليصيروا لي قبراً، فلا يتبقى من جسدي شئ، حتى لا أثقل على أحد بعد رقادي. وحينئذ أصير تلميذاً حقيقياً ليسوع المسيح، حين لا يرى العالم جسدي بعد. صلوا إلى الرّبّ عني، حتى أبرهن بهذه الأدوات أن أصير ذبيحة لله ... إذ أتألم سأكون حراً من أحرار يسوع المسيح وسوف أقوم حراً فيه ... كأسير أتعلّم ألا أشتهي شيئاً..) لا يعتقدنّ أحد أنّ المسيحيَّ يستسلم إلى الموت بفعل الخوف أو عدم الدّفاع عن النّفس. ولا يقبل على الموت كفعل انتحار وهروب من العالم، وإنّما المسيحيّ لا يرى في الموت أصلاً إلّا ولادة في السّماء، وعبوراً نحو الحياة الحقيقيّة. المسيحيّ يقبل الموت بإرادة حرّة بمعنى أنّه متى حانت السّاعة وبأيّ شكل من الأشكال يكون جاهزاً للقاء سيّده. ليس من أحد يعرف كيفيّة موته، ولكنّ المسيحيّ يعلم أنّ في هذه السّاعة سيأتي سيّده وحبيبه ليُدخله إلى الفرح الأبديّ. وهذا القبول ساعة الموت هو فعل إرادة حرّة رغبة منه بلقاء المسيح الحبيب وجهاً لوجه. لا تثمر السّنابل ما لم يتمّ دفن حبّة الحنطة في التّراب، ولا يُزهر الإنسان ويتلألأ ما لم يُزرع في التّراب. وكأنّي بي أقول أنّ الموت هو أن تُزرع أجسادنا في تراب هذا العالم حتّى نزهر في الله. إنّها الحرّيّة، حرّيّة أبناء الله، المولودة بالحبّ والمتحقّقة بالمسيح. ( إذ أتألم سأكون حراً من أحرار يسوع المسيح وسوف أقوم حرّاً فيه ... كأسير أتعلّم ألا أشتهي شيئاً..). يقول المغبوط أغسطينوس: " جلست على قمّة العالم حينما أصبحت لا أخاف شيئاً ولا أشتهي شيئاً." وحده حبّ المسيح يمنحنا الحرّيّة الكاملة، فالأحرار بالمسيح هم من أيقنوا أنّ كلّ ما في هذه الأرض لا يستحقّ أن يمتلك نفوسهم وعقولهم، فحبّ المسيح يساوي حرّيّة الإنسان. من أحبّ المسيح تحرّر فكريّاً ونفسيّاً وروحيّاً ولا يعود يأسره أيّ شيء، ولا يستعبده أيّ شيء، لا خوف ولا شهوة ولا رغبة ولا أيديولوجيا ولا مجادلات فارغة. من أحبّ المسيح معنيّ فقط بالحبّ والحرّيّة. - حياتي هي المسيح والموت ربح لي: ( لا أطراف الأرض ولا ممالك هذا الدّهر تنفعني. خير لي أن أموت ليسوع المسيح عن أن أحكم أطراف الأرض. إيّاه أطلب، من مات عنّا، إليه أتوق من قام لأجلنا، داهمتني آلام المخاض، احتملوا معي، إخوتي وأخواتي: لا تمنعوني عن الحياة، لا تشتهوا موتي، لا تقدّموا للعالم من يريد أن يكون من خاصّة الله أو تغوونه بالماديّات. دعوني أستقبل النور الصّافي، لأنّني حيث أصل هناك أصير إنساناً. دعوني أتمثّل بألم إلهي. إن كان منكم من يمتلكه في داخله ليدرك هذا الشخص ما أصبو إليه، ويتعاطف معي عالماً ما يمكن أن يعوقني. ) كلّ ما في هذا العالم ومهما بلغ من أبّهة وتقدير وعظمة ومجد لا يساوي شيئاً أمام اللّقاء بالحبيب. وكلّ ما على هذه الأرض من فرح وسعادة وسرور وغبطة لا يملأ القلب ولا يروي ظمأه إلى فرح المسيح. كلّ ما في هذا العالم باطل، يسقط بلمح البصر وأمّا حبّ المسيح فحيّ أبداً. الحبّ في المسيح هو الحياة، والحياة خارجاً عنه موت والموت فيه حياة، وإذ أراد محبّي القدّيس أغسطينس التّوسّط لعدم تنفيذ الحكم فيه، اعتبر أنّهم يمنعونه عن الحياة ويشتهون موته. وكأنّ موته الحقيقيّ لن يكون بافتراس الوحوش له، وإنّما باعتراض محبّيه طريقه. (دعوني أستقبل النور الصّافي، لأنّني حيث أصل هناك أصير إنساناً.) ملكوت السّماوات هو حيث تكتمل إنسانيّتنا. ففي هذا العالم سنبقى خاضعين للنّقص والضّعف، وأمّا هناك فسنكون كاملين إذ إنّنا سنحيا الشّراكة الإلهيّة الّتي أرادها من أجلنا المسيح. تلك هي كرامتنا، وهو أنّ الله أراد أن يشركنا في الحياة الإلهيّة، فحريّ بنا أن نبقى مجذوبين إلى فوق بدل أن نحني رؤوسنا منغمسين في التّراب. ( دعوني أتمثّل بألم إلهي). المحبّ يشارك حبيبه في كلّ شيء، ويحتمل معه كلّ شيء وبالتّالي لا يكون المحبّ صادقاً إلّا إذا اشترك بكلّ فعل من أفعال الحبيب. من تألّم من أجلنا ومات عنّا وقام لتكون لنا الحياة، يستحقّ أن نشاركه آلامه ونموت معه حتّى نقوم معه. الحبّ شركة حقيقيّة بين الحبيب والمحبوب، ولا يكون الحبّ كاملاً إلّا بالشّراكة. ( يريد رئيس هذا العالم أن يأسرني ويفسد نواياي التقية، لذا يجب ألا يساعده أحد من الحاضرين، بل عوضاً عن ذلك قفوا إلى جانبي، أي إلى جانب الله، لا تتحدثوا عن يسوع المسيح بينما تشتهون العالم، لا تسمحوا أن يسود الحسد بينكم، وحتى عند وصولي وإن توسّلت أنا نفسي إليكم لا تنساقوا وراء كلماتي، بل صدقوا عوضاً عن ذلك الأمور التي أكتب اإليكم عنها. فإنّني رغم أني لا أزال حياً، فإنني في حال الحبّ والاشتهاء للموت بينما أكتب إليكم. لقد صلب حبّي الشّهواني وما عاد في داخلي أي نار لاشتهاء الماديات، بل يتكلم في باطني الماء الحي قائلاً: "تعال إلى الآب". لم أعد أتلذذ بطعام فاسد أو بلذة هذه الحياة، أريد خبز الله الذي هو جسد المسيح من نسل داود، والشراب الذي أريده هو دمه، الذي هو المحبة عديمة الفساد.). كلّ ما يعيق هذا الحبّ ليس خيراً لأنّه يقطع على المحبّين لقاءهم الأبديّ، ويشدّهم إلى أسفل بدل أن يرتفع بهم إلى فوق. الحبّ هو الموت في الآخر والحبّ الكامل هو الموت في المسيح حتّى الحياة. (لا تتحدثوا عن يسوع المسيح بينما تشتهون العالم، لا تسمحوا أن يسود الحسد بينكم، وحتى عند وصولي وإن توسّلت أنا نفسي إليكم لا تنساقوا وراء كلماتي، بل صدقوا عوضاً عن ذلك الأمور التي أكتب اإليكم عنها.) الإيمان بالمسيح لا يحتمل المساومة، إمّا أن نحبّ المسيح ونسير في طريقه وإمّا لا. هذا الإيمان يفترض تجسيد المسيح في حياتنا وسلوكنا ومحبّتنا وفكرنا وإنسانيّتنا بشكل عام. لا يمكن أن نتحدّث عن المسيح أو أن ندّعي أنّنا مسيحيّيون وقلبنا مجذوب إلى ماديّات العالم. بمعنى آخر الحديث عن المسيح ليس نظريّات فلسفيّة، وتحليلات منطقيّة، وإثبات صحّة أيديولوجيّات. الحديث عن المسيح هو تجسيد الحبّ في كلّ لحظة حتّى يخلص العالم. - أين شوكتك يا موت؟: ( ما عدت أريد الحياة بحسب معايير البشر، سيكون هذا هو حالي، لو رغبتم في ذلك فارغبوا حتى يرغب الله فيكم! بهذه العبارات القصيرة أطلب منكم هذا فصدقوني!... صلوا لأجلي لأبلغ الهدف، أكتب إليكم لا حسب منظور بشري، بل بحسب فكر الله. فإن كنت أتألم فلأنكم أردتم ذلك، وإن تمّ رفضي، تكونون كمن يكرهني. وداعاً حتى نلتقي أخيراً، في طول أناتنا، بيسوع المسيح !) " أما يسوع قبل عيد الفصح، وهو عالم أنّ ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، إذ كان قد أحبّ خاصته الّذين في العالم، أحبّهم إلى المنتهى". ( يو 1:13). إنّ المسيح مات لأجلنا بل حبّاً بنا، وإذا كنّا نحبّه كما أحبّنا فحريّ بنا أن نموت لأجله بل أن نموت حبّاً به. الطّريق إليه وإن بدا موتاً هو طريق الحياة، والألم حبّاً به وإن بدا وجعاً فهو فرح تام وكامل. " الذي تزرعه لا يحيا إن لم يمت". ( 1 كور 36:15). ما لم نمت حبّاً بالمسيح لن نزهر في الأرض الجديدة والسّماء الجديدة. هذا ما أدركه آباءنا القدّيسين، وكذا كانت مسيرتهم الإيمانيّة البطوليّة، إذ أحبّوا المسيح حتّى الموت، فأعطوا معنى لكلّ ألم وكلّ ضيق وكل اضطهاد لأنها كلّها حبّاً بالمسيح، ورغبة عميقة منهم باللّقاء به. وهكذا يجب أن نحيا ونفهم أنّ الموت ليس سوى لحظة يأتي السّيّد ليضمنا إليه ويرفعنا إلى المجد. وإذا سُئلت ما هو الموت حبّاً بالمسيح، قلّ هو اعتبار أيّامنا الأرضيّة قصيرة حتّى نحبّ المسيح كما ينبغي، فنتوق لأيّام أزليّة حتّى نحبّه حبّاً كاملاً. وإذا سُئلت ما معنى أنّ المسيح مات وقام، قل إنّ الّذي به كان كلّ شيء، والّذي به يبتدئ وينتهي كلّ شيء أحبّ الإنسان حتّى المنتهى فدخل الموت حتّى تزهر الحياة. وإذا داهمك الموت فاعلم أنّك بلغت الرّبح الكبير وما هي إلّا خطوة وتذوب في كيان الله إلى الأبد.