ذاك السور البني ..الآجوري .. تتوسطه باب كبيرة من حديد أسود ..وراءه كنت أنتظر أبي مساء كل يوم ..ربما بعد العصر .. لم يكن الانتظار طويلا .تسبقه عصرونية بكوب حليب مركز محلى و خبر تتوسطه قطعة شكولاتة .. مرّة أم أكثر.. يوم أم أكثر؟ لا أتذكر ..إلا يوما واحدا ..حيث جاء من حملني على كتفيه - و معه اثنين أو أكثر يهتفون و يغنون فرحين بي ..- حملني إلى قسم والدي بمدرسة ابن خلدون حيث وجدته ينتظرني بوزرته البيضاء و طربوشه التركي الأحمر . رائحة الطبشور الأبيض لا زالت تلاصق خياشمي ..تذكرني بيوم مضى ..حيث كنت في ربيعي الرابع ..فهل ذاك الزمن الجميل راح و انقضى؟؟؟ عمارة بن عبود .. قرب الباشوية .. بباب التوت ..بمدينة تطوان ..درب طويل ..أرفع رأسي لأرى نافذة درج الطابق الثالث ، هناك كانت صديقتي و جارتي الاسبانية تبتسم . تنتظرني للعصرونية بشقتها . لقد هيأت أمها كل شيء . شقتي بها غرفة أمام الباب مباشرة، و صالة و غرفة نوم والدي و مطبخ ..لا أتذكر كل التفاصيل . لكن بعض الذكريات تأتيني من حين لآخر . كرائحة الخبز الافرنجي الساخن المدهون بالزبدة الصفراء الهولندية و كأس حليب ببودرة الكاكاو بمطبخ صديقتي. لم تكن رائحة مطبخها كمطبخنا ..كنت أجد متعة في البقاء معها . كذلك عندما تأتي عندي للعب معي . عندي أم عندها لا فرق .. كنت أحسها أختي و ابنة خالتي . ما أحسست يوما إلا وسط عائلتي مع جيراننا المسحيين و اليهود ..مما ساعدني على إتقان اللغة الاسبانية و التفوق في الروض رغم كوني من المغاربة القلائل الذين أتقنوا اللغتين الاسبانية و العربية في سن مبكرة. والدي من المدافعين عن اللغة العربية و أنصارها . منذ الحرف الأول ، نتعلمه بلغة الضاد ..نطقتُ ..أبي ..ثم أمّي ..ثم باقي المفردات باللغة العربية .. كانت الدارجة ممنوعة منعا باتا ..كل الكلمات تترجم الى الفصحى ونتعلمها بنطقها السليم و مخارج حروفها و نتعلم معانيها و مرادفاتها و كل ما يلم بها .. هكذا علّمني أبي أنا و شقيقيَّ مخلص و لبيب ، عدّة دروس قبل الدخول الى المدرسة العمومية . مقتطف من \" خطوات بالأبيض و الأسود \"