من قصيدته «قطعة سكر واحدة»، يقول (عمرو عادل): أصهر كل الآناء فتستحيل قطعة سكر واحدة أفتتها أملأ جيوب الحرف الطفل أحاول أن ألقم العالم الحرون بعض السكر يمكن النظر لهذه الأسطر الشعرية التي جاءت في ديوانه ((الصباح لا يأتي ملونا)) عن دار الأدهم، بأنها مثالا لذلك الشعور المتسرب للقارئ أثناء القراءة، إنه شعور بتسلل احساس ما إلى داخلك، إنها كتابة نافذة للأعماق، تتشكل الحروف في صور وخيالات تأخذك لحلم كبير، لا تشعر بأنك تراه وإنما بأنك تعيش فيه. يقول الشاعر في تكملة القصيدة: يخور في وجهي فأركض فزعا نحو الحلم الرحيب والحرف في أثري يركض من جيوبه تتساقط الحبات نمر على البنفسج نطعمه البقايا تمتلئ حويصلاته بالعطر لقد أكد الشاعر منذ مدخل الديوان في مفتتحه على الدور والرسالة التي يؤمن بها تجاه الشعر باتخاذ موقف تجاه العالم، ورغم أن الرؤية المتخذة هي رؤية اصلاح العالم بالحلم، بتشكل الحروف، رغم أنها رؤية ((شاعرية)) في حد ذاتها أكثر من كونها رؤية واقعية، إلا أن المزاوجة بين ألفاظ الواقع، وتراكيب التراث، وتراكيب الأسطورة، حققت صورة محلقة، صورة نراها في مخاطبة الشاعر للحي بأن ينزل من غيهبه ومن زلزال الملأ الأعلى إلى الواقع، يقول الشاعر في مفتتحه: أيها الحي متى تهب من غيبهك الكثيف؟ ممتشقا زلزال الملأ الأعلى تنفث سرجا في الطريق تذيب أصابعك في قرح العالم ملحا فتندمل تأخذ بتلابيب الخراب تصلبه في مطفأة العدم. إن هذا الصنيع – ملأ الجروح بالملح – قد نعده موازيا لمواجهة العالم بالحروف والكلمات لدى رؤية الشاعر، رغم أنه صنيع ينتج عنه ألم شديد، إلا أنه ألم الشفاء. وفي قصيدته شباك الحبيبة، صنع الشاعر مفارقة بين الحبيبة التي تنتظر المحبوب لكي يأتي لها في الواقع، ووفق معطيات الواقع – قد نفكر في شبكة/ مهر/ مراسم اجتماعية/ وغيره من معطيات الواقع التي قد يكون الحبيب يبحث عنها ويحاول أن يأت بها الأن -، إلا أن الشاعر سيدهشنا عندما يكشف أن المعشوق قد سُرق من محبوبته، لقد علق في حلم ولم يستطع أن يخرج منه، حلم راوده عن نفسه وعن محبوبته في أثناء السفر، وبينما محبوبته تنتظره، هو يحاول أن يبحث عن باب لصرح الحلم، ولا نعلم إن كان يبحث عن باب للخروج من الحلم، أم للولوج فيه أكثر، وفي مسيرته وبحثه، امتلأ العاشق بالغناء، فخف وزنه، وصار يحلق مع الفراشات، ليرشف معها ((غنج المدى)) وفق تعبيره، يقول: يرتفع صوت في الليل جنب شباك الحبيبة الأزرق "قد سافر صاحبنا يبحث عن باب في صرح الحلم لتمتلئ روحه بالغناء يخف وزنه، ويحلق حيث الفراشات ترشف غنج المدى" وينهض في وجه الحبيبة جدار فتلعن الصوت الخشن الذي سحق الحلم تلعن اللص الذي سرق القلب تلعن كل الأشياء ثم تبكي يمتاز شعر عمرو عادل بالصورة المدهشة، الصورة التي تشعر بخفتها ورائقتها في الوقت نفسه، وما إن تنظر لها في مجمل القصيدة، إذ غالبا ما يقيم حالة من حالات السرد الشعري، والتي تصبح فيها الصور المدهشة التي يقدمها مرتبطة ومتضافرة مع صور أخرى، تتصارع مع بعضها البعض أحيانا، لكن دون أن يصل الأمر إلى تشتيت القارئ، وإن كنت أرى أن هذا الديوان يحتاج إلى تركيز شديد في القراءة. واللفظة الأكثر تكرارا طوال الديوان هي لفظة - الحلم - ، والملاحظ أيضا أن الصورة الشعرية التي يتم بناؤها تأتي بتقنية تشعرك أنك في حلم، فهي صورة يتم رسمها بطريقة مركبة، بتقديم جزء منها في سطر شعري، ثم اكمال تراكب الصورة في سطر آخر، من امثلة ذلك: ((ثياب جدي/ آخر الرسائل القديمة فوق مشجبها العتيق))، ((أملأ جيوب الحرف الطفل/ أحاول أن القم العالم الحرون/ بعض السكر))، ((في مخلاته عناد/ يلقح به أعتاب البيوت))، وسنلاحظ هنا أن الصورة تمتد أحيانا إلى عدة أسطر شعرية كاملة، ومع كل سطر تكتسب الصورة جانبا أخر، وزاوية جديدة. أما في قصيدته (( من مذكرات عامل بمزرعة دجاج))، فقد قدم لنا الشاعر مجموعة متنوعة من الصور التي يتم دمجها ما بين الواقعية السحرية، والاسطورة الخيالية، وكأنه يحمل ميزانا بين الأمرين، فلا هو يريد لقصائده أن تكون أسطورية، ولا هو يرفع قدمه من السحرية مشخصا بها الواقعية، فمن مفردات الدجاج يشكل صورته التالية: الدجاج كسول جداً لا يفعل شيئاً سوى الأكل والزك وهزّ مؤخراته الطرية فتمتلئ المدينة كلها بالريش ريش على كل جدار ريش على كل قلب ريش على وجه الشمس المدينة تغرق في ريش ناعم ..... .. كل مساء. أضع بيضة في الحنجرة ، بيضتين في العينين ، في الأذنين أجلس قرب الدجاج الذي يجترُّ طعم الكسل طعم اليوم الواحد طعم الإرث الباهت وذكرى التنقل بين المزارع ..... وما بين الخيالين، المحلق في عالم الاسطورة والضارب في سحرية الواقع، والذي يصل بالشاعر أن يقول: فأمي لا تعلم أن أقدامي قد التصق بها خطو غريب. أسقطته قافلة للجن مرت قرب دارنا في المساء ومن خلال سحرية الواقع جاءت رؤية الشاعر للثورة على النحو التالي: ( ثورة ) حلمت أنى صرت ذئبا أقتل كل الدجاج الأحمق أقتحم الفلك الرخو أقتل الأشباح التي ترعى الدجاج . بمخلبي القوى المراوغ أمزق آفاق الريش .. وأركض فرحاً متأبطاً مصيري . ربما نشعر في الديوان أن الشاعر ما يزال يستكشف مدارات الشكل في الكتابة، يستكشف محاولات تجديد الإيقاع ليتناسب مع الصورة المحلقة التي يقدمها، محاولة التعمق أكثر نحو بعد فلسفي لا هو متعالي عن الواقع، ولا هو مبتذل، على أية حال الجهد والشاعرية الموجودة في الديوان لا شك تؤكد على أننا أمام مولد موهبة تكشف عن نفسها في ديوانها الأول في طريقها للنضج واستكمال التكون، والنص المقدم يستحق من القارئ المجازفة بقراءة الديوان والتفاعل معه وسيكتشف أنه نص يجعل قارئه يعيش فيه.