أحمد حسن شاعر مصري صاعد, في العقد الثالث من عمره, لم يكد ينشر ديوان الفاتح مدينة شرق الوريد حتي انهالت عليه الجوائز, ولهجت به ألسنة القراء العرب, وهو لايزال يقطن قريته في جوف الدلتا, لم يعد الاعتراف والتواصل أمرا يتوقف علي موقع الشاعر او نشاطه, فهناك عوالم رقمية جديدة تضج بالحركة وتزخر بالمفاجآت, وشعر أحمد حسن ينتمي إلي التيار التعبيري الجاذب للجمهور, فهو يمتلك إيقاعا عارما وخصوبة طينية فواحة, مقدود من لغة مجازية كثيفة, تتشابك فيها عناقيد الصور البكر بتلقائية محببة. وكأن يستهل تشعير الكون وقلب موازينه لتتوافق مع تدفق نبضة العنيف, يتناول مثلا تجربة الحزن التي تراكمت حولها في الذاكرة الشعرية قصائد بالغة العذوبة منذ صلاح عبد الصبور حتي اليوم فيقدم رؤيته اللافتة قائلا: عندما يحزن شاعر/ تلبس الشمس من الغيمات جلبانا طويلا والأراضي يتعكزن علي ضوء كفيف. لاتري موضع حرف حين تمشي في الدفاتر عندها الصفصافة العزباء تنسي شعرها المفرود كرباجين في أكتاف ماء الترعة الأم التي ربت عيال الحقل... عندما يحزن شاعر/ يتخلي الماء عن حقل يتيم في القري الأخري علي السطر/ ويرمي طائر في بطن ذئب رغبة الريش وتبني أسرة الفلاح في الفدان ياناس متاجر والمفارقة اللماحة في تشكيل المعني هنا هي تبادل المواقع بين حزن الشاعر وانقلاب أوضاع الطبيعة والحياة في القرية المصرية, فالمقاطع التالية تعدد مظاهر المسخ الذي تعرضت له كائنات الريف الطبيعية والإنسانية, وتتطلب كل جملة في هذا النسيج المتواشج المشحون بالدلالة ان نتذوقها ونعتصر حلاوتها وندهش عندما تختزل تحولات القرية في بضع كلمات تمثيلية يسيرة مثل: وتبني أسرة الفلاح في الفدان ياناس متاجر حيث يعود الشعر إلي نبعه الأول في قوة التركيز وكثافة التصوير وشحن المشاعر بصيغة النداء الجالية للختام الموسيقي. وشاعرنا لايتدثر دائما بهذا الرداء الإيقاعي المنهمر, فهو أحيانا يتخلي تماما عن القافية, ويسترسل في شعر التفعيلة عندما تغلب عليه شهوة السرد التي لاينجو منها شاعر شاب, مثل قصيدته المعنونة حمرة علي شفة البحر الأبيض المتوسل. ولاحظ هذه المفارقة الصاخبة وهو يحكي بلسان مهاجر غير شرعي ذاب دمه في موجات المتوسط وهو يتوسل ويتسول الحياة الكريمة فيقول: أمي الحبيبة؟ ربما يرسو علي شطين في كفك بعض من دمي يوما... ولن تتنبهي طبعا لحمرته التي ضاعت بذاكرة المياه مع انشغال الموج بالتفكير في جلد الرياح له وجلد الموج ينزفه الدم الأبيض أو ربما هربت إلي شطآنك الأسماك من عقب الرصاص هنا وفيها ماتبقي من لحوم بنيك يابلدي الذين ترسبوا في القاع... وهنا تلمس احتدام مأساة هؤلاء المهاجرين الذين أخذت القرية المصرية تلفظهم في العقود الأخيرة علامة علي نضوب معين الحياة فيها وضيقها بطموحهم الشبابي المتوثب, عندئذ ينسي الشعر ذاكرة قوافية, ويتواصل ساردا تفاصيل المشاهد وذبذبات المشاعر وحركات المعني في مطولة مغموسة في الأسي, ومفعمة بشعرية مغايرة, لايناسبها الغناء ولايليق بها العويل, فتظل مضخمة بالوجد والحب والتحنان. إني أكاد أري هذا اللون من الشعر التعبيري الذي تنبو عنه أحيانا حساسية أنصار التيار الحداثي, وهي تؤثر تدريب الأذن علي الهمس, وتعويد البصر علي الرؤية بالليل, وترويض الذائقة العربية كي تتمرس باصطياد فراشات الشعر الهاربة في ظلال التراكيب المشتتة يقدم في حقيقة الأمر لونا آخر من الحداثة التي تشعل جذوة القصيدة, وتلجم خرس المجاز, وتجدد رقعة شعر التواصل الجمالي الذي يرحب به القراء, ويعثرون فيه علي عوالمهم المتماسكة وتجاربهم المتبلورة, يتصدي الشاعر فيه للتعبير البليغ عن شجون ذاته وهواجس جماعته, فيقول أحمد حسن بعفوية بالغة: غرست طعم عذاب الناس في كلمي عملت ربان موسيقي, ورب رؤي هربت أزهار عمري, دون علم أبي عملت مايمكن العشاق حين رأوا يابنت روحي أقمت العرس في سحري إني بذلت جفوني في رضاك فإن فساعديني أعبر صبري أخيلتي وكنت أرويه صبرا فاستوي خضرا أعولها, وربت في دفتري صورا لكان أنبني, لو شم ماسطرا في العشق ذنبا, ومهما كفروا كبرا تزوجي الحرف حتي تبهجي السحرا أعرضت أكثر فارضي بالذي كثرا إليك في ليلتي, إني أكاد أري يعيد إلينا الشاعر في هذا المقطع سيرة كامل الشناوي ونزار قباني في تجسيد الدلالات بالحركة اللافتة, ولمس المشاعر في وترها الحساس, عندما يحاور النصوص العالقة في ذاكرة جمهوره, بفضل طزاجة المقاربة وأصداء الغناء, فيسقي كلماته بماء الشعر النضر, ويتخذ موقفا يعيد فيه الثقة بأهمية الموسيقي في توليد الحالات الشعرية, مبرهنا بصفة عملية علي أهمية استيعاب التجارب الشعرية السابقة, والطموح لأن يصبح ربان موسيقي ورب رؤي بعد أن يكون قد غرس طعم عذاب الناس ونعيمهم أيضا في كلماته. نحن حيال شاعر صاعد, لامجرد أمل واعد, وهو إذ ينهج الأسلوب التعبيري فإن يحقق به مستوي من إنضاج التجربة لايقل أهمية في حداثته عن أصحاب الأساليب التجريدية المغايرة.