عندما نمارس الكتابة نصير أقرب ما نكون إلى ملامسة الأنا في منعطفاتها و تجاويفها البعيدة, على اعتبار أننا لا نلجأ إليها إلا بعد انسداد كل القنوات المؤدية إلى ذواتنا الموغلة في العمق و الصمت و التخفي. فبالكتابة وحدها نُحقق الأنا التي هي ال نحن , و يكون ال نحن بالقوة و الفعل قد تَحَقق. إن الكتابة هي ممارسة ما يشبه الحفريات في الذاكرة ,و أعطابها في الذات, و كبواتها في الكينونة و تفاصيلها, فهذا ديدن الكتابة في تشظياتها و تمظهراتها,و هذا ما يفسر حاجتنا إليها كقدر وجودي يمارس علينا غِواياته و يحملنا نحو مجاهل اللذة بالمفهوم الذي يمنحها ( رولان بارت ) الناقد الفرنسي لما يسميه بلذة الكتابة أو بلذة النص Le plaisir du texte أو بالأحرى لذائذ الكتابة كما يحلو لي أن أسميها, و التي نلهث وراءها باستمرار, مبدعين و قراء .. على حد سواء. و حين تسلمت ديوان الشاعر أبي شيار *أوتار النزيف* و بدأت تصفحه و القراءة, أحسست حقا أني أنزف وترا.. وترا و أنا أتقدم موغلة في لذائذ نزفه و أوجاعه المتهدلة. هذه الأوتار العازفة, النازفة من سحر بوحه المفعم بنفَس مأساوي, تفسره الهزائم المتتالية و الإحباطات المتعددة على كافة الأصعدة الشخصية و القومية و الانسانية و الاجتماعية ... و كمثال على ماذكرت,اخترت مقتطفا من قصيدة *النزف العازف* للتأمل قليلا: أنزف .. و نزيفي يعزف رأيت أناسا بلا قلب يتأرجحون في الهواء سكتوا فنطقت ناموا و تيقظت جلسوا فوقفت أنزف ..و نزيفي يعزف رأيت فتاة.. تستهلك الجسد المنهوك بالمساحيق كي تحظى بالإعجاب و التصفيق عبر طقوس العرض و الطلب و أخرى ترصع الخصر غصن زيتون و زعتر تكحل بالبارود تتخضب بأحمر الدماء تفتل ضفيرتها مقلاعا تزفه للحجر ...... إذن: فالانهيار الجماعي للقيم ,و الأحلام, و المشاريع , ينعكس بقوة في المشروع الرؤيوي للشاعر الذي اختار أن يكون صوتا للضمير الجمعي: La conscience collective باعتباره شاعرا ذا رسالة. فشاعرنا أبو شيار في هذه الأضمومة الجميلة يفكك منابع الجرحين : الشخصي و الجماعي . باختصار, أقول إننا مدعوون الى الاحتفاء بهذا الديوان الذي يضج - صراحة - بتعددية التيمات, و الإيقاعات, و الصيغ الفنية التي سبق لأساتذة باحثين في الأدب, و نقاد أكفاء إثارتها بإسهاب في مناسبات عدة . *أوتار النزيف* هو أيضا محاولة للقبض على واقع يظل عنيدا و مشاكسا, برؤية تنضَح بالألم الدفين, و الأمل الوضًاء. الديوان – من وجهة نظري - هو إدانة لانهيار القيم بكل تلاوينها, و رهان على التشبث بالشعريَ و الإنساني فينا, لمواجهة كل أشكال اليأس, و التهميش, و السقوط. إنه شمعةٌ سنشعلها سويا في ليل الكتابة وسط هذه الكآبة و الرتابة و الضجر... وأختم شهادتي المتواضعة بقولي : ان بين أيدينا الآن نصوصا سامقة .. ليس لأن حرفها ظليل.. و ليس لأن صاحبها ينحت الجمال و يعزف الإحساس فحسب.. بل, لأنه يُشعرُ القارئ بأنه اقتطف حظا باذخا بقراءتها . فلنغنم فرصة الاستمتاع بهذه المعزوفات النازفة .