سحبت الولاياتالمتحدة آخر وحداتها القتالية من العراق نهاية الشهر الماضي بعد احتلال دام سبع سنوات، وأبقت على 56 ألف جندي تتركز مهامهم على تدريب الجيش العراقي والمساعدة في الأمور المدنية ومكافحة ما يسمونه بالإرهاب. ومن المنتظر إتمام الانسحاب مع نهاية العام المقبل، لإسدال الستار على أحد أكثر الحروب جدلاً في العصر الحديث بسبب المغالطات السياسية والإعلامية التي صاحبتها منذ البداية وحتى النهاية. ويعلم الجميع ما ساقته الولاياتالمتحدة وحلفائها من مبررات واهية لشن الحرب التي كانت محل سخط وانتقاد شديد من الرأي العام العالمي في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، وكنت أعتقد أن الولاياتالمتحدة ستكف عن هذه المغالطات التي يفهم الجميع فحواها، إلا أنها سارت في نفس الاتجاه بشكل غريب عندما أكدت على أن الحرب حررت العراق وجعلت الولاياتالمتحدة أكثر أمناً... وأبرز هذه المغالطات ما تضمنه تقرير بثته قناة ال CNN الإخبارية الأمريكية الشهيرة بضعة مرات على مدار الأيام القليلة الماضية بعنوان "تغيير المهام.. العراق الجديد""Changing places.. the new Iraq"، ومن يقرأ أو يسمع العنوان يشعر بشيء من التفاؤل والبهجة للوهلة الأولى وخاصة من لا يدرك حقائق الوضع في العراق.. تضمن التقرير معلومات ناقصة حرَّفت الكثير من الحقائق التي يدركها الكثيرين.. ولذا فإن هذا العنوان الجذاب كان عنواناً مناسباً لما تضمنه التقرير لكنه خالف الحقائق المعروفة والمتداولة في الكثير من وسائل الإعلام إلى حد كبير. وقد جذبتني العديد من العناصر الرئيسية لهذا التقرير الذي أعدته المراسلة المتميزة والحسناء أروى دامون Arwa Damon التي غطت أخبار الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق، يتمثل أول هذه العناصر في الصورة العامة التي رسمتها أروى للعراق، فقد صورت العراق قبل الغزو بأنه بلد بائس يفتقد إلى الحرية ويصاحب هذا الكلام المشهد الشهير لإسقاط تمثال الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وبعد الغزو أصبح بلد حر ديمقراطي ويصاحب هذا الكلام صورة مكان جميل أخضر وحركة دائبة في البناء والإعمار في إشارة واضحة إلى تحسن أحوال العراق بشكل جذري على أيدي واشنطن. العنصر الثاني: يتمثل في الحديث عن مهمة الجيش الأمريكي حيث صور التقرير الجنود الأمريكيين بأنهم ضحايا الحرب، إذ تخلوا عن سعادتهم واستقرارهم وتركوا أوطانهم وأسرهم من أجل تحرير العراق وسقط منهم ضحايا في هذه الحرب، ولكنهم أدوا مهمتهم التي جاءوا إلى العراق من أجلها. فالتقرير إذاً جعلهم ضحايا وأبطال حرروا العراق، وهذا يخالف الحقيقة تماماً وإذا كنا سنتجاوز ونعتبرهم ضحايا فهم ضحايا غطرسة وتكبر وعناد إدارة بلادهم التي شنت حرباً مغرضة أودت بحياة بعضهم وأصابت الكثير منهم... أما الضحايا الحقيقيين فهم العراقيين سواء القتلى أو المصابين أو المشردين والمتأثرين سلبياً بالغزو وأعدادهم بالملايين. العنصر الثالث: وهو الوضع الأمني في العراق، تميزت مراسلة القناة التي قدمت التقرير ببراعة وذكاء ومهنية عالية جعلتها تحاول تمرير المعلومات والأحداث على المشاهدين دون أن يدركوا فحواها، حيث كانت تسير في أحد الشوارع العراقية الهادئة وهي تقول لم يكن ممكناً السير في الشوارع هكذا في الماضي، ولم يكن أي شيء من هذا موجود من قبل في إشارة للحركة التجارية والنظام الموجود في الشارع الذي كانت تسير فيه. كما استعانت بأحد المسئولين العراقيين وهو محافظ مدينة الرمادي الذي أكد لها أنهم يثقون في الجيش الأمريكي أكثر من ثقتهم بجيشهم، بهذا الكلام البعيد عن الواقع يكون التقرير قد تغافل عن السيارات المفخخة وضحايا أعمال العنف المستمرة المجهولة المصدر والتي لا نعرف لها سبباً إلا الاحتلال الأمريكي. العنصر الرابع: يتمثل في النساء العراقيات التي لم تنساهم مراسلة ال CNN حيث صورتهم قبل الغزو بأنهم نساء ترتدين العباية السوداء وتغطين وجوههن، أما الآن فهن بلا حجاب وترتدين الملابس الغربية الضيقة والقصيرة. والنساء اللاتي صورهم التقرير لا تمثلن المرأة العراقية بالطبع ولكن الاستعانة ببضع سيدات جاء لتسويق فكرة تحرير المرأة على أيدي الأمريكيين، ولعل هذا أحد سقطات التقرير الذي ركز على جملة لأحد السيدات قالت فيها ‘‘إن الفرصة أصبحت قائمة لأن يحكم العراقيين أنفسهم'' وكأن العراقيين لم يحكموا أنفسهم من قبل وكأن أمريكا قد منحتهم نعمة تستحق عليها الشكر والتقدير! إن مغالطات التقرير تكشف الإخفاق الأمريكي في العراق والذي دعاهم إلى الانسحاب من بلد كانوا يظنوا أنهم سيبقون فيه، ولم تجد أمريكا وسيلة تحفظ بها ماء الوجه إلا تشويه الحقائق إعلامياً وتسويق أفكار لن تنطلي إلا على من لا يعرف ومن لم يتابع ما دار في العراق على مدار سبع سنوات مضت، فالحرب بدأت بأكاذيب جورج بوش ورفاقه وتنتهي بمغالطات أوباما، ولو كانت العراق كما يقولون فلماذا انسحبوا إذاً؟!