تعيش النخبة في مصر أزمة حقيقية .. أو قل وكسة أو نكسة أو مصيبة حقيقية .. وعلى من يشكك في مقولتي هذه .. عليه أن ينظر حوله ويتامل ، ويقرأ لي تفاصيل هذا المشهد العبثي الذي تتراجع فيه مصر في كل شئ .. حتى على المستوى القيمي والاخلاقي .. فمابالك في قيم المجتمع والمستقبل .. نحن العرب ، لا بل نحن المصريون ، واسمحوا لي أن أوجه حديثي إلى أهل بلدي .. فأنا أستهدف المصريين بهذا الحديث .. ولاسباب محض شخصية ، او جد شخصية ، لايمكن البوح بها الان. نحن في مصر دون باقي الخلق لدينا نخبتان . نخبة الداخل ، ونخبة الخارج .. والمصيبة كبيرة في هذه النخب ، التي ساهمت وبقدر كبير من الجهد والتخطيط في وجودنا مصر والمصريون في ذيل قائمة الدول المتقدمة ، وفي صدارة الدول المتخلفة والنامية . حيث ساهمت النخبتان في تحقيق ماوصلنا اليه من مكانة .. فنحن في مصر ، الدولة الوحيدة الطاردة للكفاءات ، والمهارات ، واصحاب الابداع في كافة مجالات الحياة .. علينا أن ننظر الى الصورة ، او الخريطة الاجتماعية والعلمية والسياسية والاقتصادية وكذلك الاعلامية .. ماذا نرى ؟ كل شئ في تراجع .. النخب المصرية في الخارج تساهم في نهضة وبناء الامم من حول مصر ، واقصد هنا النخب كل من يعمل في الخارج فهو نخبة ، وهو ماهر ، وهو متميز والا ماسافر وما حرص العرب والغرب على استقبال حشود العاملين المصريين من العاملين بالخارج للتواجد على أرضها والعمل بها . النخبة التي اعنيها هي كل عامل او خبير ، طبيب ، مهندس ، محاسب ، صحفي واعلامي ، حتى العمال .. بكل صنوف اعمالهم وتخصصاتهم .. لولا كفاءتهم وعلمهم واخلاصهم .. ما عملوا بالخارج وما استمر البعض منهم الى اكثر من عشرين وثلاثين عاما .. ويعملون في ظروف بيئية واجتماعية ونفسية اصعب ما تكون .في هذه البلاد . وبنفس القدر ، يعمل اعضاء نادي النخبة الذين بقوا في البلاد ، على تخريبها وتجريفها ، وتشتتها واضعافها .. فلاهم تمكنوا من تعويض الفاقد الذي مثلته النخبة التي غادرت البلاد بحثا عن لقمة العيش وغيرها ، فهناك من سافر لغير حاجة الا الراحة النفسية ، او هربا من ضغوط ، او سعيا نحو تحقيق الراحة النفسية والجسمانية له ولعائلته .. فليس كل من سافر ، سافر يبحث عن المال ..وقد يستغرب البعض كيف لي أن اقول بذلك .. فانا اقول الصدق ، وانا شاهد عيان على ما اقول . المهم .. علينا أن ننظر ألى اداء بعض النخب في مصر ، وهم كثر .. هل يعجبك اداء الثوار ، والنخبة الثورية التي قادت ثورة شعبية غير مسبوقة في تاريخ مصر المعاصر . هل يعحبك اداء الساسة في ميدان السياسة ، هل يعجبك اداء اعضاء مجلسي الشعب والشورى في ميدان العمل التشريعي والرقابي . هل يعجبك اداء المجلس العسكري .. في تشكيل ادوار السياسة المصرية .وادارة شؤون البلاد هل يعجبك اداء الوزراء في وزارة الجنزوري .. في تخفيف أعباء الحياة على جموع الشعب المصري . هل يعجبك اداء النظام الامني وزارة الداخلية مثلا وحالات الانفلات الامني والسياسي والاجتماعي في مصر . هل يعجبك اداء هيئات التدريس في جامعاتنا ، وادارات الجامعات المصرية التي تراجع ترتيبها على مستوى العالم ، والتي اخلت مكانها لتحتله اسرائيل ، وبعض الدول التي لم يكن لها تاريخ يذكره بشر . هل يعجبك اداء المعلمين في مدارسنا ، وقد اصبح المعلم اضحوكة ، بعد أن دب الفساد في جسده ، وتسلل الى عظامه والى عقله . هل يعجبك اداء المثقفين ، والاعلاميين والصحفيين ، ومن يعملون في حرفة الادب والفكر والثقافة .. ذلك أنني أرى انهم ساهموا في اقرار حالة التراجع ، والانسحاب من الحياة الثقافية والفكرية ، والتاثير في ثقافة وادب العالم . هل يعجبك اداء رواد الصناعة والزراعة في مصر اليوم ، فقد بات الجميع وكانهم اعجاز نخل خاوية ، فلا الزراعة تقدمت ولا الصناعة ساهمت في دفع حركة المجتمع المصري الى الامام . هل يعجبك اداء اهل المعمار والعقار وعلى الرغم من شهرة المصري باعتباره البناء الاول في التاريخ والاهرامات والاثار المصرية شاهدة على ذلك .. لكننا نجد العمارات وقد انهارت على رؤوس ساكنيها ، والطرق تخسف بما يقف عليها الى اسفل سافلين ، والمنشات وقد انهارت قبل انقضاء عمرها الافتراضي .. هل يعجبك رواد العمل الرياضي في مصر ، وقد تراجع ترتيب فرقنا الرياضية سواء على المستوى القومي أو مستوى الاندية .. والتراجع مستمر ، وبدأنا ننسحب في المشهد العالمي في الرياضة والفن والادب والسينما وغير ذلك من مجالات الابداع . ان مصر مقبلة على مرحلة الجفاف النخبوي .. او القحط النخبوي ، فقد نضبت ابار الابداع في كل المجالات .. علينا ان نفكر في الحال التي وصلنا اليها ،وعلى الرغم من قيام الثورة التي كانت اعتراضا واحتجاجا على ماحدث للشخصية المصرية على مدار ستين عاما وعلى وجه الخصوص الاعوام الثلاثين الماضية من تراجع قيمي جعلها شخصية هامشية متراجعة سلبية ، عدوانية ، فارغة ، ومريضة .. هذه الشخصية التي لم تقدر على ايقاع الهزيمة بها كل جيوش الارض ، وكل انواع الاستعمار التي فشلت في غزو الشخصية المصرية وفي تحقيق الانتصار عليها .. تمكن السوس النخبوي من الايقاع بهذه الشخصية ويكاد يجهز عليها .. منذ اكثر من ثلاثين عاما كتبت مقالا نشر في مجلة الكاتب المصري حول محاولة نابوليون بونابرت غزو الشخصية المصرية وسعيه الحثيث الى تحقيق ذبلك الانتصار بشتى الطرق حتى ولو اعلن اسلامه ومشاركته احتفالات الازهر .. وجلبه للمطبعة الشهيرة وتزوج العديد من قادته من بنات بعض الاسر المصرية بعد اسلامهم..وتحقيقه الفشل الذريع في ذلك .. لكن للاسف الشديد بعد هذه السنين الطويلة .. نجحت النخبة المصرية في الايقاع بالشخصية المصرية .. ومن ثم جعلها موضوعا لمثل هذا المقال وغيره ، وأنا أكتبه وانا شديد الاسف والاعتذار لهذه الشخصية العظيمة التي تمثلها مصر بالنسبة لي .. والتي من اجلها كتبت كتابي الاخير " مصر التي في خاطري ؟" . طه محمد كسبه [email protected]