في تصريحاته لبوابة الوفد تحدث الفنان محمد صبحي في الفن والسياسة، وحملة المليار لبناء العشوائيات، وكانت هناك فِقرة عن قطر، بدت لي مقحمة إقحامًا في الحوار، فهي خارج السياق الذي يركز على شؤون مصرية داخلية. وأنا أتفق مع ما قاله الأستاذ صبحي عن الأوضاع في مصر، لكني اختلف معه فيما قاله عن قطر. صبحي فنان واعٍ، ومثقف، فكيف يقع فريسة للتبسيط، والتسطيح، والتجهيل، مثل مصريين آخرين عندما يهاجمون قطر دون فهم، أو إدراك، أو عمق، أو رصانة في الرؤية والتحليل. وللأسف فإن ما يكتب في الصحف، والمواقع، أو ما يقال في الفضائيات عن هذا البلد متهافت، وساذج، ولا يمت للواقع بصلة، بل يثير الاشمئزاز، لأنه يكشف عن أناس لا يقرأون، ولا يعرفون، ولا يدققون في معلوماتهم، ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث عن المعلومات، والمواقف الصحيحة حتى يستقيم التحليل، ولا يشتط، لذلك فإن القطريين يسخرون من هذه النوعية من المصريين التي يطلق عليها النخبة، ولا يلقون لها بالاً، ويسيرون على طريقهم دون الالتفات لهذا الغثاء، وإذا كانت النخبة بهذا المستوى المتواضع في المعرفة، وفي التحليل، فكيف يحزن محمد صبحي على ضياع الريادة من مصر، بل الطبيعي إذن أن تفقد مصر ريادتها لأن نخبتها ليست على مستوى الحفاظ عليها. لا يليق بهذا الفنان المثقف ألا ينتقي حتى ألفاظه، عندما يتهم قطر ب "سرقة الريادة"، هل الريادة تسرق، أم تصنع بالجهد، والعمل، والإنجاز، والإبداع؟. ولماذا تسمح مصر لبلد آخر أن يسرق ريادتها منها إذا كانت حريصة عليها؟. ولماذا لا تحافظ مصر على صك ملكية هذه الريادة المقدسة، ولا تضيعها ؟. مثل هذه الرؤية القاصرة النرجسية تكشف عن عمق الأزمة في نمط تفكير نوعية من المصريين لا يريدون النظر حولهم لرؤية تجارب الآخرين بانفتاح وتسامح، والعقلية المصرية لن تتقدم طالما مازالت تتحكم فيها وتحكمها عقدة الريادة، وكأنها حكر عليها وحدها، وكأنه ليس من حق الآخرين المجتهدين أن يتقدموا الصفوف ويكونوا روادًا أيضًا، فالساحة تتسع دائمًا للاعبين كثيرين، وليس للاعب المصري وحده .مثلا هل يهاجم الأمريكان الصين لأنها تصعد كقوة اقتصادية كبرى، وتهدد مكانة بلدهم باعتبارها رقم واحد في الدول الصناعية الكبرى، وهل يتأزم اليابانيون من صعود الهند في آسيا، ومنافستها لهم، ولماذا لا تلومون جنوب إفريقيا لأنها قفزت على مصر في القارة، وتتصدر زعامتها؟. هل مطلوب من الأشقاء، وغير الأشقاء في الشرق الأوسط ألا يكونوا روادًا وهم يملكون القدرة على صنعها انتظارًا للشقيق الأكبر الذي يفرط في ريادته بإرادته، ولا يريد أن يعمل على استعادتها؟. هناك دول في المنطقة نجحت في توظيف قدراتها وإمكاناتها وأعلنت عن وجودها، وخصوصًا في الخليج، وهذه الدول تتقدم على مصر، وتتجاوزها، وقد لا تستطيع مصر اللحاق بها إذا ظلت واقفة في مكانها تبكي الريادة التي تتفلت منها، بل وتنظر طويلاً خلفها إلى تاريخها دون أن تتطلع إلى مستقبلها. على المصريين بعد الثورة أن يتوقفوا عن البكاء على اللبن المسكوب، وأن يدرسوا تجربة إمارة دبي ، وقطر، ولا أقول سنغافورة، واليابان، وكوريا الجنوبية، وماليزيا ، لتعلم دروس النجاح دون استكبار، أو عناد، فهكذا يكون الطريق لاستعادة الريادة. وبكل المقاييس تمتلك مصر التاريخ العظيم، والأرض، والسكان، والموارد، ومقومات أخرى تفوق ما تملكه هذه البلدان، لكن السؤال: أين نحن اليوم من هذه التجارب التي تطوي المسافات، وتقفز إلى الأمام ، بينما نحن مازلنا نتغنى بالريادة، والأمجاد، والتاريخ. نحن أصحاب تاريخ مجيد بالفعل، لكنه وحده لا يكفي لإطعام البطون الجائعة، ولا سبيل إلا العمل الجاد المتقن لبناء الحاضر، والدخول إلى المستقبل، ولا أظن أن الإرث العظيم الذي تملكه مصر قد يشفع لها هذا التأخر. الغريب أن يتحدث محمد صبحي وهو فنان لكل العرب عن دولة عربية شقيقة هي قطر بشكل غير لائق ، وهي التي استضافته، وأكرمت وفادته ليس في مهرجانها الثقافي فقط ، بل في زيارات عديدة له إلى أرضها، علاوة على تقديمه أكثر من عرض مسرحي فيها، وأظن أنه تجول في الدوحة وشاهد بنفسه خطواتها نحو بناء نهضة شاملة، لا تستثني الفكر والأدب والثقافة والفن، وهذا يستحق الإشادة، والتشجيع، وليس الهجوم، والتهجم. يقول صبحي في تصريحاته: " ولا تتعجب إذا قلت إن قطر لا تريد السلامة لمصر، وتريد لها السقوط، لذا تأتي بأنطونيوس باندرياس كي يقوم ببطولة أول أعمالها السينمائية، وتضخم نفسها في القضايا السياسية بمناسبة وبدون مناسبة، لكن علينا أن نستيقظ ونصحو، فالأعداء يتربصون من كل جانب، والصراع الداخلي يخدم المصالح الخارجية". أليست هذه"تخاريف" محمد صبحي؟، لكنها ليست تمثيلاً على مسرح هذه المرة، إنما هي تخاريف حقيقية ، فهو لم يقدم أي دليل حول زعمه أن قطر لا تريد السلامة لمصر، بينما العكس هو الصحيح فهي تحتضن 130 ألف مصري يعاملون فيها أفضل ما يكون، ويحولون المليارات إلى مصر، وهي أعطت مصر 500 مليون دولار لدعم موازنتها الحالية، وهي قررت استثمار 10 مليارات دولار في مصر لتنشيط الاقتصاد، وإنقاذه من أزمته بعد الثورة.وقطر دعمت الثورة المصرية، وكانت "الجزيرة" هي صوت الثورة إلى العالم، وقامت بدور مشهود فيها، وكان لهذه القناة الدور الأبرز في "موقعة الجمل"حيث أنقذت المتظاهرين بالتحرير من مذبحة جماعية من خلال البث المباشر للعالم من الميدان. لا أود أن يكون المصري جاحدًا خصوصًا من نزل ضيفًا على قطر يومًا، ومن يقف هذا البلد إلى جانبه في محنته بحكم روابط الأخوة والعروبة. ولا يعقل أن تسقط مصر كدولة، أو يسقط الفن المصري من مجرد فيلم تنتجه قطر، ويقوم ببطولة أنتوني بانديراس. مصر هي مهد السينما والفن في المنطقة، ومازالت هي رائدة هذه الصناعة، لكنها تفرط في هذه الريادة أيضًا، فهل يلام الآخرون في الدوحة، وأبو ظبي، ودبي، لأنهم يبنون صناعة سينما، ويقيمون مهرجانات عالمية. وأظن أن السينما الأمريكية الأشهر عالميًا وهي صناعة ضخمة تغزو العالم بفضل عقول وكفاءات كثير منها غير أمريكي. وسيكون الأمر كارثيًا لو كان صبحي يصنف قطر ضمن الأعداء الذين يتربصون بمصر من كل جانب حسب قوله ،فهذه العبارة تحتاج لتفسير منه لأن العدو معروف وهو فقط إسرائيل، أما أي بلد عربي أو إسلامي فلا يمكن أن يكون عدوًا لمصر أبدًا مهما حصلت خلافات أو أزمات. وعلى المستوى السياسي، هل يمنع أحد مصر أن تظل محافظة على زعامتها للعرب؟. وما القول في أن بلدًا يتخلى بإرادته عن موقع القيادة الذي مازال شاغرًا مما يجعل الآخرين يسعون لملئه؟. أين هو الدور السياسي لمصر سواء قبل الثورة، أو بعدها؟. هل ينكر أحد أن مصر هي التي فرطت في كابينة القيادة، وقزمت من دورها، وتقوقعت داخل حدودها، فأعطت الفرصة للأتراك، والإيرانيين، والإسرائيليين للبروز كقوى إقليمية تريد تقاسم النفوذ في المنطقة. وهنا عندما يتحرك الأشقاء مثل قطر والسعودية وغيرهما لملء الفراغ أليس ذلك أفضل من أن يملأه طرف من الثلاثة السابقين؟. هل كانت هناك سياسة خارجية واضحة لمصر خلال عهد مبارك، بل والمدهش أنه بعد الثورة تفقد مصر ماكان قد تبقى لها من دور خارجي . لكن بالمقابل هناك دبلوماسية قطرية نشطة ومتحركة ، تجوب العالم شرقًا وغربًا، وليس الإقليم فقط، دبلوماسية ملأ السمع والبصر، وهي من تقود العمل العربي حاليًا بكفاءة واقتدار ، وكلمتها لها تأثيرها في مختلف العواصم، إذا قالت أنصت لها الجميع. لا يتسع المجال هنا لذكر إنجازات الدبلوماسية القطرية، فهي قبل أيام جمعت بالدوحة الرئيس محمود عباس، ورئيس حركة حماس خالد مشعل لمواصلة طريق المصالحة الفلسطينية، فهل كان عليها ألا تفعل ذلك لرأب الصدع الفلسطيني الداخلي حتى تفرغ مصر من مشاكلها الداخلية، أم يجب أن يوجه لها الشكر لأنها تساهم في حل أزمة فلسطينية معقدة؟. قطر نجحت في التوصل لاتفاق سلام في دارفور بعد عامين من الوساطة الشاقة، فأين كانت مصر رغم أن السودان جزء من أمنها القومي ومجالها الحيوي؟. قطر أبرمت اتفاقًا للمصالحة في لبنان، وهو الملف الأعقد الذي فشل العالم كله فيه، فأين كانت مصر رغم أنها كانت يومًا فاعلا في هذا البلد، وفي منطقة الشام؟. قطر تدعم الربيع العربي، في تونس، ومصر، واليمن، وفي ليبيا ساهمت إلى جانب "الناتو" في إنقاذ الشعب الليبي من الطاغية، بينما مصر تعللت بالحفاظ على عمالتها في ليبيا، وقطر تقف إلى جانب الشعب السوري الذي يذبح يوميًا، فأين مصر الثورة من مجازر الأسد؟. للأسف غياب تام ، انظروا حولكم أولاً قبل أن تلوموا الآخرين لأنهم يعملون. قطر تنشط في كل مكان حتى صارت جزيرة الحوار، والوساطات، والمصالحات ، وصارت حديث العالم، ومحط اهتمامه. قطر أطلقت مبدأً جديدًا في السياسة الدولية وهي أن تأثير ومكانة الدول لم يعد يقاس بالمساحة، ولا بعدد السكان، إنما بالدور الذي تقوم به، وبالقدرة على الإنجاز، وبالإصرار على تحقيق الأهداف أيًا كانت مصاعبها وتعقيداتها. قطر تتقدم الصفوف الآن ، نفوذها يتزايد، وهذا الأمر جاء طبيعيًا، فالحتمية التاريخية أن من يعمل يجد، ومن يزرع يحصد ، المجد ليس من نصيب الكسالى، إنما هو قدر مستحق للناشطين والفاعلين. نحن المصريين لا يجب أن نظل أسرى التاريخ، وعقدة الريادة، وإلا خرجنا من آخر باب للمستقبل.