الدكتور رمضان حسين الشيخ منذ أن خلق الله عزّ وجل الإنسان على هذه الأرض وهو يعمل؛ فالعمل هو أمر مهم جداً للإنسان منذ قديم الزمان، ولا يهمّ نوع العمل وماهيّته لكن من المهم أن يكون عملاً شريفاً مقصده الرّزق الحلال، فقد كان أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام يعملون في مهن مختلفة، كما قال عزّ وجل: "يا أيّها الرسل كلوا من الطيّبات واعملوا صالحاً"، فكان أوّل الأنبياء سيدنا آدم عليه السلام يعمل مزارعاً، وسيّدنا نوح عمل نجاراً، وإدريس عليه الصلاة والسلام كان خياطاً، ونبيّ الله موسى عليه السلام كان راعياً للغنم، كما جاء في الذكر الحكيم : "وما تلك بيمينك يا موسى * قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآربُ أخرى"، وخاتم الأنبياء والمرسلين سيّدنا محمد عليه الصلاة والسلام فقد كان راعياً للغنم. يؤثّر العمل، بلا أدنى شك، في اقتصاد مجتمعنا المصري، كما يؤثِّر كذلك في البيئة الاجتماعية، حيث يطاولها تحسينا شاملا ومناسبا لأفراد المجتمع، تحقّق مستويات عالية من القبول، والرضا، وتوفر لهم أجواء معيشية هانئة وكريمة، فضلا عن فتحه مجال الإبداع والإسهام في بناء المجتمع على مصراعيه، ومن ثمّ الشعور بالانتماء إلى مجتمع يعمل وينتج ويتطور. إن التحدي الذي نواجهه اليوم يتطلب منا جميعاً تضافر الجهود والتركيز على بناء الإنسان البناء الصحيح، وجعل ثقافة العمل شعاره وغايته ووسيلته في آن واحد... لذلك تأتي فلسفة العمل في المرتبة الأولى من الإيمان، واليقين التام بأهميته في إعلان الهوية الإنسانية، وفي تأكيد الكيان والوجود، كذلك في إثبات حق الإنسان في إعمار الأرض، ومسؤوليته عن ذلك، وهذا ما أقرته الأديان السماوية.. ولأن العمل عبادة؛ فقد خوّله ذلك حمل أمانة وجوده البشري على الأرض، كما يعني وفاءً بمسؤوليته التي فرضها الخالق، جلّ وعلا، على عباده؛ حيث إن مَنْ يؤدّي العمل يؤدي الأمانة فهو، في الوقت نفسه، يتواصل دائما وأبدا مع الله سبحانه جلّ شأنه. وتعني فلسفة العمل، فضلا عن كونه عبادة، نمط حياة لا يفرّق بين دين، أو مذهب أو وطن أو عرق وأنه يمتد مع عمر الإنسان أينما كان، وصدق الرسول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حينما قال: 'إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَفي ِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا؛ فَلْيَغْرِسْها'، حيث يعلّمنا - صلى الله عليه وسلم - دروسا عظيمة من أعظمها الإيجابية في حياة الإنسان؛ إذ لا بد أن يكون إيجابيا، يشارك في هذه الحياة بكل ما يستطيع، وبقدر ما يمكنه، ولو كان ذلك في آخر لحظات الحياة؛ والعمل هو الرباط الجوهري بين الإنسان، وأخيه الإنسان وهو اللغة المشتركة الجماعية التي تجمع الإنسانية في نسيج متناسق يتحقق من خلاله تبادل الحاجات وتداول المنفعة، وإصلاح حال الحياة بوجه عام، والعمل إعلان عن الذات وتحريك للطاقة، أنا أعمل إذن أنا موجود وهو تجديد لنمط الحياة من أجل كسر الجمود والحد من الكسل والركود. وما يضمن النجاح في هذا السبيل، تغيير ذهنية المجتمع المصري وأفراده، وتصحيح ثقافة السلوك إلى العمل، التي تعتمد على الإيمان بقيمته للفرد ذاته، ولمن حوله من الناس، وعلى حسن اختيار نوع العمل بما يتفق مع القدرات والمهارات الذاتية، وتوظيف هذه القدرات وهذه المهارات، لتقديم أفضل الأداء لهذا العمل؛ جنبا إلى جنب مع وضعه في إطار يسمح بالتواصل مع عمل الآخرين لكي يتحقق روح الفريق والعمل الجماعي، وأخيرا عدم ربطه (العمل) بالمردود أو العائد أو المنفعة المادية المباشرة من ورائه بصورة حسابية مطلقة، وإنما النظر إلى العائد الآجل، وليس السريع، والنظر إلى المنفعة العامة وليس فقط المنفعة الخاصة. لذا يجب أن ندرك بأن لا شيء كالعمل يجعل الإنسان ينطلق في الحياة بلا تعقيدات، فهو الأمر الذي يرتقي بصاحبه في هذه الحياة، حتى يعتلي في لمح البصر كل فوز، ويمتلك في غمضة عين كل نجاح، وحينما نقول: العمل الدءوب، فمعناه العمل المتصل دون انقطاع، فحلقاته تكاد تسلم بعضها بعضًا، والعمل الدءوب يحمل في طياته الانضباط الشديد، ومن هنا فليس كل عمل يجعل الإنسان ناجحًا ويحوز كل سبق، والعمل الدءوب لا يأتى من فراغ، بل من نفس قوية وإرادة فتية وهمة سابقة، وسر ذلك كله في التفكير الإيجابي، وطرد كل مظاهر السلبية الداخلية، التى تحول بينه وبين الاستمرار، فربما تواصلت الأعمال ثم فجأة تتوقف أو يختفي الحماس لها، هنالك يجب أن نفتش في طريقة تفكيرنا، هل هي دافعة ومتفاءلة ومتحمسة، أم هي يائسة محبطة تؤثر السلامة وتخشي من المغامرة. لقد سئل النمساوى أرنولد شوارتزينجر الذي كان صبياُ ضعيفاً وأصر على تمارين كمال الأجسام وقضى لذلك ساعات في البيت، حتى أصبح بطلاً في كمال الأجسام، ثم أصبح أعلى نجوم السينما أجراً، ثم أخيراً حاكماً لولاية أمريكية، لقد سئل في لقاء تليفزيوني عن سبب هذا النجاح المستمر فقال: "العمل الدءوب، والانضباط الشديد، والتفكير الإيجابي". إذن العمل هو ما يبني الحضارات والأمم، وهو سبب نهضتها وازدهارها، فنجد في أيّامنا هذه أنّ الدول المتقدمة جميع أفرادها في عمل دؤوب ومستمر، ولأهميّة العمل فقد حثّنا ديننا الحنيف عليه في القرآن الكريم، كما في قوله عزوجل : "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"، وفي السنة النبويّة الشريفة، كما في قوله عليه الصلاة والسلام : "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإنّ نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده". بل ويعزز العمل روح التعاون والتكافل بين الناس، وذلك لأنّ الكثير من الأعمال لا يمكن للفرد الواحد أن ينجزها؛ بل هو بحاجة إلى شريك أو عدّة شركاء كي يتمكّن من إنجازه، فيتعلّم الفرد هنا كيف يحترم شركاءه ويقدّر جهودهم، ويبادلهم مشاعر الأخوة والحب، ليكون ذلك هو البذرة الأولى في تكافل المجتمع وتراحمه، ويتعلّم الفرد من العمل كيف يتعامل مع الآخرين ويكون لبقاً معهم؛ فالعمل يهذّب الأخلاق، وينمّي المهارات الاجتماعيّة لدى الفرد، كما يجعل الإنسان أكثر اختلاطاً ومعرفةً بالآخرين، الفرد الذي يعمل بجد وإتقان ليكسب قوته من عرق جبينه فإنّ الله عزّ وجل يجزيه بالأجر والثواب، فالعمل أيضاً عبادة. عزيزي القارئ.. تذكر دائماَ إن قطع أشواط النجاح يتوقف على قوة التغلب على العقبات، ومواجهة المشكلات، وتذليل الصعاب، وتحمل الآلام، وامتصاص التعب والإرهاق، وتجاوز كل فشل بجعله نقطة انطلاق جديدة، مما يعمل على تجديد الحياة، وبعث الحيوية في الأعمال، ومن ثم جنى الثمار بأقل جهد، وبأسهل الطرق، وبأيسر تكلفة، وبأسرع وقت، وربما حينما نضرب المثل بالمشهورين من الناجحين على مستوي العالم يقرب إلينا الصورة بغض النظر عن فكرهم أو خلقهم أو نهجهم، فهذه كونداليزا رايس التحقت بالجامعة وهي تبلغ من العمر 15 عامًا، وتخرجت وهى في سن 19 عاماً، وعندما بلغت 41 عاماً كانت رئيساً للجامعة، ثم اختيرت مستشارًا للأمن القومي في أمريكا، ثم وزيرة خارجية، ومن العجيب أيضًا أن تاريخ عائلتها يقول إنها الوحيدة التى سلكت في جيلها طريق التعليم! ولعل المقام يفرض علينا أن نذكر للتدليل على الدول التي تقدمت بالعلم والعمل، وأصبحت الآن في مصاف الدول المتقدمة، ومن أهم هذه الدول اليابان، وألمانيا اللتان خرجتا من الحرب العالمية الثانية مدمرتين اقتصادياً ومحتلتين عسكرياً، ولكنهما كانتا تملكان الأهم من ذلك وهو العقول البشرية، والإرادة الصلبة، فانتهجتا سياسات وبرامج علمية تخدم واقعهما العملي، وانتهجتا أساليب عملية تتفق وما تفرضه عليهما ظروف المرحلة، ولم تتخلّيا عن التخطيط الإستراتيجي بعيد المدى، حتى وصلتا إلى مكانتهما المتقدمة بين الدول، وكذلك تجربة ماليزيا والتي تُعدّ بحق تجربة يُحتذى بها، فهي لم تكن منذ ثلاثة عقود من الزمان شيئاً مذكوراً؛ إذ كانت من الدول الفقيرة، ولكنها بتوفيق من الله، ثم بالتخطيط الإستراتيجي الفعّال، وبإرادة شعبها، نجحت في نقل التكنولوجيا المتقدمة، وعملت على تطويرها، وتسخيرها لخدمة واقعها، حتى نجحت فيما خططت له، والشاهد على ذلك مركزها الاقتصادي الآن بين دول العالم، وكذلك تركيا وما حققته من تقدم اقتصادي مشهود في السنوات القليلة الماضية . إن كان التفكير الصحيح والإرادة القوية والتخطيط السليم من عوامل النجاح، وهذا حق - فإنها لا تحقق النجاح وحدها.. بل لابد أن تُترجم إلى نشاط وعمل يتفق وقدرات الفرد وصفاته الشخصية، فضلاً عن إمكاناته المادية، وهذا النشاط وذاك العمل سوف يحقق النجاح شريطة ألاّ يحيد عن الخطة الموضوعة بعد تفكير عميق ودقيق . إذا أردت – أيها الرجل، وأيها الشاب، وأيتها المرأة، وأيتها الفتاة - أن تحقق – أو تحققي - النجاح في أي مجال فلابد لك من السعي الدؤوب، والأخذ بالأسباب الحقيقية، والعمل الجاد المتفاني، كي تحقق هذا النجاح المنشود.. فالعمل الجاد والمستمر يكسبانك الخبرة والمهارة، واللتان تمكّنانك بدورهما من إنجاز أعمالك بمرونة ويسر وفاعلية، فضلاً عن تمكينك من التغلب على الصعاب التي قد تعترضك أثناء تأديتك لعملك . ما أحوجنا الآن إلى نشر مفهوم ثقافة العمل في بلادنا، وجميع الجوانب المؤثّرة والمتأثّرة بالعمل، وبمن يستفيد من العمل سواء كان موظفا أم عاملا أم صاحب عمل، أم متلقيا للخدمة أم المجتمع ككيان واحد له صيغة اقتصادية وإعلامية واجتماعية وسياسية، وتشمل ثقافة العمل عددا من المجالات التي تتأثّر بمستوى ثقافة العمل، حيث يمكن تلخيصها في إجراءات العمل؛ وتطوير الذات؛ وبناء الأنظمة. وما أحوجنا كذلك إلى إعلاء قيمة العمل وإلى تطبيق شعار الأمل مع العمل، وذلك بعد أن تبين يقينا بأن تقدم وتطور الشعوب من حولنا لم يأت اعتباطا، ولكن بالعمل الدؤوب المدروس، وأن نهضة الأمم تتحقق بالعمل بروح الفريق والتخلي عن الذاتية والأنانية الفردية، وأن الولاء للخالق وللوطن يعني التفاني في أداء واجب العمل وليس في الاستكانة والتقاعس والإهمال والتواكل والتبعية..! إذا اردنا نشر ثقافة العمل في مجتمعنا المصري، فيجب ان تستدعي بث روح العمل وقيمته في نفوس أطفالنا ونشأنا وشبابنا بنشر ثقافته، وبإظهار القدوة أمامهم من أجل ضمان تقديرهم، وتدريبهم علي العمل منذ الصغر، وكذا التأكيد على سياسة الثواب والعقاب في مجالات العمل المختلفة لضمان الجدية في التنفيذ، جنبا إلى جنب مع تشجيع العمل الخلاق وتفجير الطاقات الإبداعية من داخل الأفراد، وعدم الاعتماد على مجرد الأداء التقليدي الرتيب للعمل. إن من متطلبات زرع ثقافة العمل لدى الشباب المصري هو التأكيد على أن العمل مقدس وأن أية مهنة محترمة ومصانة ولصاحبها كل التوقير والإجلال ما دامت تمنعه من الذلة والسؤال ومد اليد، وأن يكون رقما في سجل البطالة، أيضا بيان أن المهن الحرة قيمة مضافة وعنصرا مهما في حياة كل الأمم، إن في بلاد كثيرة يربح السباك أكثر من أستاذ الجامعة، كذلك الدهان والنجار، إنني أطالب المؤسسات التربوية والدينية في مصر بأن تغرس في نفوس الناشئة حب العمل، وتعمق مفاهيم الإنتاج والجد والعرق، مع إعطاء القدوة والأسوة من الأنبياء عليهم السلام وغيرهم من الرموز المنيرة التي كانت تأكل من عمل يدها. وإذا كنا نشاهد العشرات من القنوات الرياضية والدينية والثقافية والاقتصادية وغيرها، فلماذا لا تكون لدينا محطة فضائية تحمل اسم "ثقافة العمل أو الإدارة" وتناط بها مهمة نشر هذه الثقافة وتعميقها والحث على فضيلة العمل البذل والكد والعرق. عزيزي القارئ.. علينا أن ندرك أن العمل مهما كان هو تاج يزين رأس القائم عليه، ولذا لا داعي من الخجل منه أو الاستحياء، فكل عمل شريف مصدر فخر لصاحبه ويعد ترسا في ماكينة الإنتاج الكبرى التي ترفد الاقتصاد القومي وتسهم في تحريك ماكينته بقوة.. علينا أن نجعل الناس تحب العمل وتتناغم معه وتشعر بسعادة بالغة وهي تؤديه حتى تكتمل منظومة التنمية الشاملة في أرجاء مصر الحبيبة. الدكتور / رمضان حسين الشيخ متحدث تحفيزي وموجه شخصي ومهني باحث وكاتب في العلوم الإنسانية وفلسفة الإدارة الخبير الدولي في التطوير المؤسسي والتخطيط الاستراتيجي مصمم منهج فرسان التميز لتغيير فكر قادة المؤسسات [email protected]