100% ل 3 طلاب.. إعلان أوائل الابتدائية الأزهرية بأسيوط    التلفزيون الإيراني: انفجارات قوية تهز مدينة نطنز وتصاعد أعمدة الدخان من موقع نطنز النووي    بعد ضرب إيران.. كاتس يعلن الطوارئ في كل الأراضي المحتلة    مطار طهران وبعض الأحياء الراقية.. مناطق استهدفها الهجوم الإسرائيلي على إيران    الجيش الإسرائيلي: استهدفنا عشرات الأهداف العسكرية داخل إيران    فيديو كشف جريمته القديمة.. الداخلية تضبط متحرشًا بالأطفال ببورسعيد    إسرائيل تشن هجوما على إيران وانفجارات قوية تهز العاصمة طهران    طريقة عمل الكوارع، بمذاق مميز ولا يقاوم    هبوط عيار 21 لأدنى مستوياته.. مفاجأة في أسعار الذهب والسبائك اليوم الجمعة بالصاغة    الرئاسة الفلسطينية: قرار وقف الحرب يجب أن يتبعه تنفيذ حل الدولتين ومساءلة إسرائيل عن جرائمها    كأس العالم للأندية - باريس ضد راعي البقر وبطل بلا تسديدة والوحيد بلا لقب.. حكاية المجموعة الثانية    الأهلى يتحرك لخوض التدريبات استعدادا ل إنتر ميامى فى مونديال الأندية (صور)    «بيطلع عيني».. تعليق مثير من كوكا بشأن مشاركته بدلاً من علي معلول    3 أيام متتالية.. موعد إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والبنوك والمدارس (تفاصيل)    تعرف على برامج الدراسة بجامعة السويس الأهلية    محافظ المنيا يوجه بسرعة التعامل مع حريق محدود بمركز «جنة التخصصي» دون خسائر بشرية    وفاة صديقين أسفل عجلات القطار بقنا    محامي عروسين الشرقية يكشف مفاجأة    دينا عبد الكريم تلتقي بالسفير حبشي استعدادًا لجولة كبرى لبناء قواعد للجبهة الوطنية من المصريين بالخارج    تدريب على الإنعاش القلبي الرئوي الأساسي (BLS) وفقًا لمعايير جمعية القلب الأمريكية AHA    صورة الوداع الأخيرة.. قصة عائلة هندية قضت في الطائرة المنكوبة    أتلتيكو مدريد يرفع عرضه لضم ثيو هيرنانديز واقتراب الاتفاق مع ميلان    قمة شباب بريكس للطاقة: دعوة لتحول عادل وشامل بقيادة الأجيال الشابة    محافظ كفر الشيخ: تنفيذ 9 قرارات إزالة على مساحة 800م2 بمركز دسوق    تعرف على موعد صرف مرتبات العاملين بالدولة والزيادة الجديدة    محمد شكري: لم يتواصل معي أي شخص من الأهلي    محمد هاني يتحدث عن.. المنافسة في المونديال.. وانضمام زيزو إلى الأهلي    جمال حمزة: الزمالك واجه صعوبات كثيرة.. ويعاني من مشكلة هجومية    شاهد، لحظة تتويج سيراميكا كلوباترا ببطولة كأس الرابطة للمرة الثالثة    حمدي فتحي: احترم ميسي ولا أخشاه.. ونمتلك فريقًا لا يقل عن أندية أوروبا    مريم الثالثة على "ابتدائية الأزهر - مكفوفين": أختي كانت عيني بشوف بيها    جامعة السويس تعلن تفاصيل برامج الجامعة الأهلية الجديدة    وظائف بمستشفيات جامعة عين شمس.. الشروط والتقديم    بالأسماء.. وزير البترول يصدر حركة تنقلات وتكليفات بشركات القطاع    نتيجة الشهادة الإعدادية 2025 برقم الجلوس محافظة الغربية (فور إعلان الرابط)    «غدروا بيه».. جنازة «أحمد المسلماني» تاجر الذهب في البحيرة (صور)    شكّ في سلوكها .. مسن يلقي مادة كاوية على ابنته في الغربية    شديد الحرارة والعظمى في القاهرة 38.. حالة الطقس اليوم    رسميًا بعد الزيادة الجديدة.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 13 يونيو 2025    منة شلبي ترقص ب"الصاجات" في حفل زفاف منة عدلي القيعي (صور)    محمد دياب عن فوز فيلم «هابي بيرث داي» ب3 جوائز: شكرًا لكل اللي شارك    تعامل بحذر وحكمة فهناك حدود جديدة.. حظ برج الدلو اليوم 13 يونيو    الآلاف يشيعون جثمان تاجر الذهب أحمد المسلماني ضحية غدر الصحاب في البحيرة (فيديو وصور)    تكريم نوال عبد الشافي عن أغنية " هي جت عليا" في مهرجان international fashion awards    سلمى أبو ضيف تعلق على رقصها مع زوجها.. ماذا قالت؟    تحلّ بالواقعية والوعي المالي.. حظ برج الجدي اليوم 13 يونيو    موعد إجازة رأس السنة الهجرية 2025.. عطلة رسمية للقطاعين العام والخاص    بكم الطن؟ سعر الأرز اليوم الجمعة 13 يونيو 2025 في الأسواق    مسؤول إسرائيلي بارز يحدد موعد الضربة المحتملة على إيران    محافظ قنا يناقش تحديات القطاع الصحي ويضع آليات للنهوض بالخدمات الطبية    القومى للبحوث يعقد مؤتمره السنوي بشعار «من الرؤية إلى الواقع.. لغد بصحة أفضل»    مدرسة السكة الحديد فى الجيزة.. تعرف على شروط التقديم والمستندات المطلوبة (تفاصيل)    محافظ قنا: وضع لوائح انضباط على مداخل المستشفيات لبيان حقوق وواجبات المرضى    الأزهر للفتوى يعلق على شغل الوقت باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي    وفد عمل مصر الثلاثي يُشارك في منتدى «التحالف العالمي للعدالة الإجتماعية»    ملك زاهر توجه رسالة مؤثرة من داخل المستشفى    حكم توزيع لحوم الأضحية بعد انتهاء أيام عيد الأضحى    آداب الرجوع من الحج.. دار الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طرق التفكير المنتج والفعال

"إن الأفكار في أيةِ أمة من الأمم هي أعظمُ ثروةٍ تنالُها الأمة في حياتِها إن كانت الأمةُ ناشئةً، وأعظمُ هبةٍ يتسلمها الجيل من سَلَفِه إن كانت الأمةُ عريقةً في الفكر المستنير." وردت هذه العبارةُ في مقدمةِ مقدمةِ النظام الإقتصادي في الإسلام، وهي غاية الروعة،حفظتُها من كثرةِ استحضارِها، والمرادُ بالأفكار هو وجود التفكيرِ العمليِّ عندَ الأمةِ في وقائعِ حياتِها، فتبدعُ باستعمالِه لحلِّ مشاكلِها، منتجةً من تكرارِ التفكير العمليِّ بنجاحٍ طريقةَ تفكيرٍ منتجة.
ولو سُمح لي أن أضيف عبارةً تعريفيةً للأفكار هنا، الأساسيةِ الشاملةِ، التي تلزم أمتنا للنهوض، لَقُلت هي كل فكرة جاءت حَسَبَ طريقة الإسلام في الدرس، أي كل فكرة لا يدرسها الدارسُ إلا وهو معتقد بأهمية بحثها، من جهةِ كونِها فكرةً عملية، تحل مشكلة حقيقيةً موجودةً في الواقع، مدفوعةً بالقوة الروحية، فتراه نتيجةَ اعتقاده بأهمية المشكلة قد انكبّ عليها انكباباً، بما وَفّرَ لها الاعتقادُ في نفس الدارس من قوةٍ دافعة مثيرةٍ ملتهبة، وهمةٍ عالية، فحشد لها كل حزمٍ وعزم، وصبرٍ ورغبة، ووقتٍ وجهد، ومالٍ إن تطلب، فلا يرضى لنفسه بأنصاف الأجوبةِ لمشكلته العملية، ولا يقنع بالكلام النظري العام الذي لا أرجلَ له تمشي على الأرض، بل يراه كلاماً فارغاً مخدراً، لا يحرك ساكناً، ولا يُشبع جائعاً، فيكون فكره إذاً بطبيعته عميقاً دقيقاً، بعيداً عن التفلسف، ملازماً للدليل والبرهان، ينبض بالحياة.
فكل فكرة عملية عميقة تحل مشكلة في الواقع، يُتوصل إليها من هذا الطريق تُضاف إلى أختها، فكرةً فوقَ فكرة، هكذا، حتى يتكرر النهج في التفكير، ويتراكم الفكر العملي، فيتدرب العقل على رياضة حلِّ المشاكل بكل جدية، فتتكون بهذا طريقة التفكير المنتجة، التي تأخذ بيد الأمة إلى النهضة، ذلك أن النهضة الراشدة هي ارتفاع فكري مُؤَصَّل، ومفصل، يرعى الوقائع ، ويحلُّ المشاكلَ التفصيليةَ، لطبيعتِه السياسية، فلا يقفُ عند حدود الشعارات والعموم.
إن التفكير العملي المنتِج، ينظر في مشاكل الواقع، فهو إذاً لا يستورد المشاكل لنا من القرن الرابع الهجري مثلاً، ويشغلنا بحلول لها، أو يستورد للمجتمع مشاكل تُولد في الكتب وتستقر فيها ، أو يستورد مشاكل من غير مجتمعاتنا، ليشغلنا بالتفكير فيها. فيكفي مجتمعاتِنا ما فيها من مشاكل، فلا حاجة لأن نضيف لها مشاكل فوق مشاكلها، من خلال طريقة التفكير هذه المعاكسة للنهوض .
فطريقة التفكير المنتجة، هي طريق النهوض، تَنْكَبُّ على الواقع فتفهم مشاكلَه، وتلجأ إلى المبدأ، فتأخذ منه تفصيلاً بعد تأصيل، تُنزله على الواقع فتعالجه. فهي بذلك مضادة للجمود في الفكر، فإن عرضت مشكلة الملكية العامة مثلاً، كان الجواب من المبدأ تفصيلاً بعد تأصيل، فلا يكتفي الذهن بالوقوف عند المتبنى المفصل، بل يذهبُ الفكر إلى ما بعده تفصيلاً واجراءً. فإن في المتبنى، تحت كل فكرةٍ فكرة، والقارئ الجيد للمتبنى هو الذي يمضغ المتبنى مضغاً ولا يبلعه بلعاً، فإن قرأ ساعةً تدبّر ما قرأ ساعتين، فهنا في مثال الملكية العامة يُحرَّك الفكرُ عملياً وبعمق في مشاكل الملكية العامة الواقعية، مثل اهدار الملكية العامة عند توزيعها، من معدن عِدٍّ لا ينضب،وماء وغابات ونفط وإلخ، وهاك مثالاً آخر، خذ مسألةَ قضاء الحسبة، الذي ينظر في (كافة القضايا) ،التي هي حقوق عامة، ولا يوجد فيها مدعٍ، على ألا تكون داخلةً في الحدود والجنايات، هل انتبهتَ لعبارة (كافة القضايا)، كم هي عامة، إنها تشمل محلات الحلاقة، و تشمل المراكز الصحية وتشمل الرقابة على الأبنية، والرقابة على حركة المرور، والرقابة على الأغذية، والرقابة على الأدوية، وغير ذلك، هل كل ذلك سيكون بيد محتسب من نوع واحد يعلم في كل هذه المجالات، أليست طريقة التفكير المنتجة تحرضنا على البحث والكتابةفي التفصيل والاجرائيات؟!
وهاك مثالاً ثالثاً،حين نقول بأن الدولة تقوم بالمشاريع الاقتصادية التي يعجز الفرد عن القيام بها وتكون الجماعة في حاجة لها كالصناعات الثقيلة وصناعة الأسلحة وكذلك تقوم الدولة بالمشاريع المرتبطة بالملكية العامة كاستخراج النفط والمعادن، إن تحت هذه الفكرة أفكاراً كثيرة منها، كيف نضبط القطاع العام لتوسعه كي لا ينزلق في بيروقراطية بغيضة ، وما هي الكيفيات في التحفيز وتقدير أجرة العامل كي لا ننزلق في مشاكل عمالية. ومن هي الجهة التي يوكل إليها التخطيط لتحديد المشاريع التي تلزم الجماعة، كل هذا يحتاج إلى فكر عملي تفصيلي عميق، ولا يصح من السياسي المفكر أن يعتبر نفسه مكتف بالموجود، فإن ذلك هو الجمود، بل إن السياسي المفكر انشائي ارتقائي بطبعه لغلبة طريقة التفكير المنتجة عليه.
نرجو أن تكون هذه الأمثلة الثلاثة، وغيرها كثير، قد أحدثت رجةً في الفكر، ونبهت إلى ضرورة الانشاء والارتقاء في الفكر التفصيلي والاجرائي، كما نبهت إلى خطورة الجمود والوقوف عند حد الموجود.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ". أخرجه البخاري ومسلم وأحمد، ما أعظمَه من تشبيه، لِمَ لا يكون مَثَلُك أنتَ ومثل المفكرين السياسين من قبلك، كمثلِ رجلٍ بنى بيتاً حسناً جميلاً، إلا موضعَ لبنةٍ تَنْتظرُها الأمةُ اليومَ في غربتها، فتكونُ أنتَ من يضعُ اللبنة، أنت من يضعُ بصمتَه، أنت اللبنة، فيكملَ ما بدأه عظماء أمتنا من بناء عظيم، فتكون انشائياً ارتقائياً بحق، إياك أن يمرّ الفكر عليك فَتُسلّمه كما استلمته، بدون تدبرك الخاص، واحذر أن تستحوذ عليك فكرةُ أن وظيفتَك هي فهم المُنتَج الجاهز من الفكر ، فلو تمكنت هذه الفكرة الاجرامية بحق الفكر مِنْ ابن جِنيّ في اللغة مثلاً، لتوقف علم اللغة على ما أنتجه سيبويه والكسائي وغيره، فلا تدع الفكر والتفكير المنتج يقف عندك، مَرِّرْه واترك بَصمتَك، وإياك والدّعة والكسل والاتكاء على الأريكة، معتمداً كلّ فكر جاهز.
نعم، إن التفكير السياسي المنتِج، يدفعُنا نحوَ الكتابة والبحث، في كل فكرٍ جديدٍ يلزمُنا للنهضة، وإن لم تَتْعَبْ فيما تَكتب، لن أستمتعَ وأستفيدَ مما أقرأ، ولكن ينبغي التَّنبُه، إلى خطورةِ التحولِ الى حركة تأليفية، يأباها العمل السياسي المنتِج، فالأمرُ بحاجةٍ إلى توازن.
إن مسألة الإنتاجية، والتركيز على النفع، لا على التنظير غير العملي، مسألة تقلبُ كيان الأمم، ولا تخلو أمة ناهضة منها، وقد لازم أمتَنا التفكيرُ المنتج في نهضتها، وكان السرُّ في طريقة تفكيرهم المنتج هو الإسلام ابتداءً، الذي كون العقلية على أساس العلم لأجل العمل، وجعل العلم فريضة في كل منحىً، وأعطى العقلَ حقائق ينطلق منها، مثل (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً) رواه البخاري وابن ماجة،فاستفز الفكر للبحث، فكان الإسلامُ سبباً في الثقافة والعلم، ومحرضاً عليهما، فأبو الأسود الدؤلي ونصر بن عاصم والفراهيديّ مثلاً كان استشعارهم لخطر اللحن في قراءة القرآن وفي اللغة دافعاً قوياً للبحث في حل اجرائي عمليّ لهذه المشكلة، فكان اختراع التنقيط والتشكيل والهمزة، وكذا الشافعيّ عندما أحسّ من أهل الأهواء خطراً على فهم الإسلام وخطراً على الحديث الشريف أسس بشكل عملي حلاً بأن قَعَّد لأصول الفقه والاستنباط وأصول الحديث كتابَ الرسالة، وكذا أبو جعفر الرازي، القائل: (لا خيرَ في علم لا يطبّق في الحياةِ العملية)،برع في الفلك والجغرافيا لحاجة الفتوحات الاسلامية خاصة في آسيا، ولحاجتهم في تحديد القبلة، وبرع في حل المعادلات الرياضية ليساعد الأمة في حل مسائل توزيع الزكاة والمواريث، ولتساعد المسلمين في تجارتهم وكل ذلك حلول لمشاكل عملية. وكذا ابن الهائم الذي برع في الرياضيات خدمة لعِلمه الأصلي وهو علم الفرائض أي المواريث، والأمثلة كثيرةٌ كثيرة، المهم هنا التنبه إلى أن أبحاثهم لم تكن ترفاً فكرياً وبحثاً في الخيالات والعموميات، بل كانت عميقة عملية تفصيليّة تحل مشكلة بالفعل موجودة في الواقع، إن الإسلام كان القوة الروحية الهائلة التي حرضت علماءنا على الابداع العملي، وحرضت الدولة على حسن الرعاية بالعلماء، حيثُ رويَ مثلاً أن راتب المترجم في دار الحكمة زمن هارون الرشيد والمأمون كان يصل شهرياً إلى 500دينار ذهبي، أي فوق العشرين ألف دولار، وإن كان من العلماء كالفراهيدي من يرتضي من الدولة راتباً متواضعاً ويرفض ما عند الولاة من عطايا، فيكتفي بحبه للاسلام والمعرفة محرضاً دافعاً، وكان الإسلام دافعاً للمجتمع، من خلال نظام الصدقة الجارية (الأوقاف) مثلاً، على البذل والعطاء على دور العلم، فكانت أمتنا تنعم بالنهضة الراشدة لما لازمتها طريقة التفكير الراشدة المنتجة.
إن مسألة الإنتاجية، والتركيز على النفع، لا على التنظير غير العملي، مسألة برزت كذلك في الأمة الغربية، وقد كان الفضل لأفكار عدة عندهم تعاونت جميعاً لصعود النفعيّة في حضارتهم، حتى طغت المنفعة في البلاد فأكثرت فيها الفساد.
إن آدم سميث الرأسمالي قد عرف قيمة السلعة بمجموع المجهودات المبذولة فيها، فجاء ديفد ريكاردو الرأسمالي من بعده فأنضج تعريف القيمة، حتى قيل بأنه لم يترك شيئاً لماركس ليضيفَه، إلا أن ماركس بنى على كلام ريكاردو نظريةَ فائض القيمة، التي هزّ بها بنيان التاريخ، وهي ببساطة أن الرأسمالي يأكل عرق العامل، يأخذ الربح والربا بشكل مجاني بدون عمل، فإن كانت قيمةُ الفخارةِ التي ينتجها العامل عند صاحب العمل، عشرةَ دراهم، فإن العشرةَ كاملةً من حق العامل وحدَه، لأنه وَحده بِعَملِه من أنتج قيمتَها، وليس من حق الرأسمالي، المتكئ على أريكته، المتطفل على جهد العامل ، أن يأخذ منها درهماً واحداً تحت اسم الربح والتجارة، إذاً، رأى ماركس أن العامل يُعطي،مجرد ما يبقيه قادراً على العمل، أجراً حَدِّيّاً لا يموتُ فيه الأجيرُ ولا يحيى، أي يُعطى العاملُ مجرد قيمة قوة عمله، لا قيمةَ عمله الذي أنتجه، فكانت فكرةً ثورية بامتياز.
إن فكرة ماركس التي أخذها عن مفكري المبدأ الرأسمالي، رغم بطلانها، إلا أن ماركس استطاع تبسيطها وأن يجعل منها فكرة عمليةً مقنعةً لتَثْويرِ العمال على أصحاب العمل الرأسماليين. وهذا بحد ذاته تفكير منتج، أنتج ثورة!
على أية حال، بقيت مسألة تعريف القيمة عندهمم مدارَ جدل، حتى صعدت المدرسة النَّمْساوية، الكلاسيكية الحديثة، مدرسةُ المنفعة الحدية، فهيمنت على الفكر الرأسمالي، واعلنت أن قيمة السلعة تقوم على ما فيها من منفعة، بقطعِ النظر عن كم مِن الجهد قد بُذل فيها، انتشرت هذه الفكرة انتشاراً، جعل من المنفعة هدفاً واضحاً في الانتاج، وتعاونت هذه الفكرةُ مع الفكرةِ التي كان قد أسس لها "آدم سميث" من أن الفرد يجب أن يحقق منفعته الخاصة، وأن مصلحة المجموع ستتحقق من خلال مصلحة الفرد ومنفعته، ثم جاء "وليم جمس" ومن معه بفكرة (البراغماتية)، وهي لفظة يونانية، Progma تعني (عمل) أو (مسألة عملية)، أي أنها فكرة لا تؤمن بالتنظير، والأحكام المسبقة، وتؤمن بالنتائج والمنفعة، فسيطرت إذًا فكرة المنفعة على كل فكر عندهم، فباتت المنفعة ليست مجرد مقياس لقيمة السلعة، بل أصبحت المنفعة طريقة تفكيرهم، ومقياس أعمالهم، وباتت المنفعة والمصلحة هي رابطة بين الناس، وهي جوهر السعادة عندهم، وفي رأس سلم القيم عندهم، إن كان لديهم قيمٌ أصلاً.
نعم، لقد كانت فكرةُ المنفعةِ فكرة ثوريةً، هزت بنيان التاريخ أيضاً، وجعلت الرأسمالية متوحشة لاهثة، تركض وراء الانتاج، وتسحق الانسانية في طريقها، ولكنها بلا ريب، تقف وراء تقدم الغرب وصعوده وطريقةَ تفكيره المنتجة.
وبمناسبة الحديث عن المنفعة في الاقتصاد، نستذكرُ أن عقد الايجار في الاسلام عقد على المنفعة بعوض، وهذه الفكرة فوق شرعيتها فإنها انقلاب في التفكير ، فقد ساد مع الانحطاط عندنا التركيز على فكرة أن الأجير يسجل حضوره صباحاً ومغادرتَه مساءً، ودون الالتفات الى انتاجيته، وصارت العلاوات في الراتب تعطى على القِدَميَّة، لا على المنفعة، وغابت التعاقدية في المؤسسات الحكومية التي تركز على انتاجية الأجير، فالمعلم مثلاً، إن نُقلت حالتُه الحالية إلى حالة تعاقدية على المنفعة، فإنك ولا ريب ستحرك الجمود في كيانه، وستطلق سباقاً في المجتمع على المنافع، وسَيَتقدمُ المجتمع، وسيسود التفكير المنتج في المجتمع، وسترتفع الهمة.
إن الثروة الفكرية المبنية على طريقة التفكير المنتجة هي ثورة كبرى، تُفْضي إلى النهوض بالثروة المادية، والعلم والمدنية فضلاً عن الثقافة، فإن انكشفت عن الأمة ثروتُها الفكرية انتكست، وعمَّها الفقر والجهل والتخلف عن ركب الأمم.
وإن التلقي الفكري ضروري لهذه الثروة الفكرية لكي تنموَ وتتعمقَ، لأن التلقي الفكري يرفض لطبيعتِه النَّشطة الوقّادة اعطاء العقل اجازة، إلا عند الكُسالى، وهذا التلقي، يجعل من يسمعُ متَنَبِّهاً، مُتيقظاً، يسأل في نفسه السؤال الذي لا يفارقه، وهو "لماذا؟" ، تصور التلقي الفكري عند الطالب، في المدرسة، حين يقالُ مثلاً له أن
تساوي 7/22، فَحُرِّض هذا الطالبُ على التفكير، فوقف وتدبر، لماذا؟ فيفهم أنها النسبةُ الثابتة بين قطر الدائرة ومحيط الدائرة، فيُحدثُ ذلك ثورة في الفكر عنده، فإن عرض عليه شكل هندسي آخر يلزمه في حياته كالمثلث القائم الزاوية، راح ذهنه يبحث عن نسبة ما بين مكوناته، وهذا الذي يجعل الفكر وقّاداً منُتجاً، يربط الانسان بقيمة المعرفة والعلم، لا أن نجد الحال كما هو اليوم كارثياً، يُمزق فيه الطالب كتابَه إذا ما انتهى من الامتحان النهائي، وكأن في جَنباتِ الطالبِ الحقدَ على كتبه، وليس الشعورَ بأن هذه الكراسةَ وذاك الكتاب يحمل قيمة لكونه يحمل حلولاً لمشاكل واقعية.
والتلقي الفكري عند المفكر السياسي، لا يعتبر متعة للتسلي، بل عبادةً جدية ًيتقرب فيها إلى الله تعالى، تشمل الآراء الساسية والأفكار والأحكام الشرعية، فلا يُقبل من حامل دعوة سياسي مفكر، أن يحفظ الفكر بلا فهم، فإذا ما سألته ما الفائدة من موضوع الروح والروحانية والناحية الروحية، أو أن المبدأ فكرة وطريقة، أو غير ذلك، وأين هي المشكلة المجتمعية التي يعالجها هذا الموضوع، فإنه لا يُقبل منه الجوابُ الممجوج، فإن لم يكن قادراً على تبسيط جوابه، فهو بالغالب لم يفهم ما درس، فلْيُعِد درسَه.
وإن التلقي الفكري، يوجب قدحَ الفكر بغيره، لِيتَمَيَّز، فلا يُقبل أن يتحول الفكر المنتَج إلى صندوق نعيش في داخله، نعيد فيه تدوير الفكر، ولا نُنْتج فكراً جديداً فيه بصمة، يَشعر بمشاكل المجتمع ويحس بها. إن الفكر المنتَج المتَبنّى، الذي بين أيدينا ثروة عظيمة نفيسة، يمثل نقطة ارتكاز الفرجار الذي سَيُعيد ، وهو يتوسع، رسمَ خرائط كثيرة في الطريق. فمن يتصور بأن المتبنى كافٍ، وليس بحاجة للقراءة خارجه، فقد انغلق، ولم يفهم حتى المتبنى الذي بين يديه حقَّ الفَهْمِ، فبِضدِّها تتميز الأشياءُ، والضدُّ يُظهر حُسنَه الضدُّ، وربما يُظهر ملامح خلل وقصور ونقص فيه، والخط المستقيم تبرز استقامته عند ما يكون إلى جانب الخطوط العوجاء.
وفي الخلاصة، فإن هذه المقالة إن لم تحدث رجَّةً في طريقة التفكير وفي الفكر فتعيدَ ترتيبه، ، فإنها مقالة ليس لها فائدة، وستكون حينئذٍ بعيدةً كل البعد عن طريقة التفكير المنتجة.
(رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا، رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:286) .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.