الدكتور أحمد عبد الهادى أهرب إليها عندما تخنقنى الحياة ... أعود إليها كلما واتتنى الفرصة ... ألقى بنفسى بين أحضانها عندما أشعر بالجفاف وقسوة الحياة .... أستمد منها القوة والعنفوان عندما تحاصرنى لحظات من الضعف والجبن ... ألوذ إليها عندما أشعر بالخوف ... إنها السمارة قريتى العزيزة الساكنة هناك فى قلب مصر ... بمركز تمى الأمديد بمحافظة الدقهلية .... دوما كنت أردد : لايشعر بقيمة الوطن إلا من تنائى وتباعد وتغرب ... ولايشعر بالعشق إلا من أحب باخلاص ... ولايشعر بقيمة الحب إلا من إكتوى بنار الهجر والبعاد .... وقد عشقت السمارة إلى حد الجنون .... ففوق أرضها لعبنا وهرولنا ... وحلمنا .... دوما كنت أهوى إستذكار دروسى سائرا بين الحقول التى تحيط القرية من كل جانب ... هذه العادة لازمتنى منذ سنوات عمرى الأولى فى الدراسة الإبتدائية وظلت معى حتى الآن .... فعندما أرغب فى الإنتهاء من أى كتاب أهرب وسط الزروع وسط الحقول ... ولا أعود إلا وقد إنتهيت من قراءة الكتاب ... وسط هذه الزروع كتبت آلاف الحكايات والقصص وقصائد الشعر وتعلمت المشاعر النقية والعشق البرئ .... وسط هذه الحقول وفوق أرض السمارة عشقنا كل شئ جميل وتعلمنا كل شئ جميل .... فوق تراب السمارة تعلمنا كل الأشياء الجميلة ... فوق تراب السمارة تعلمنا معنى السياسة وكيف تمردنا على كل رموز الحزب الوطنى الحاكم آنذاك ... وواجهناهم بقوة رغم عمرنا الصغير ... فوق أرض السمارة تعلمت الصحافة حيث كنت أصدر مجلة حائط باسم " الفكر الثقافى " وأعلقها على محطة القرية الرئيسية وتضم المجلة تحقيقات تكشف عن فساد الكبار وكيف أحدثت المجلة ضجة كبيرة إلى درجة أن عمدة القرية رحمة الله عليه فكرى عبد الرحمن أصدر قرار بمصادرة المجلة عن طريق وقوف عدد من خفراء القرية على محطة القرية ومعهم تعليمات واضحة وصريحة بتكسير المجلة فور تعليقها وكان ذلك أغرب قرار بالمصادرة فى تاريخ الصحافة ... فوق أرض السمارة دق القلب لأول مرة وهو صغيرا لايزل وأحب بجنون وأغلق ضفافه على السر وإكتفى بمشاعر ضمتها الأورده وكل العروق .... من فوق أرض السمارة إفترقنا وتباعدنا وتوجهنا لمدينة المنصورة للدراسة بالمرحلة الثانوية ثم الجامعة ثم نعود لها فى ليالى الصيف الجميلة وخلالها نهرول ونضحك وسط الحقول ووسط الشوارع التى ترامت واسعة أمامنا تحمل خطواتنا الفتية فى حنان ورقة . فوق أرض السمارة شخصت أبصارنا للمدى البعيد فهجرنا الأهل والصحاب وإنطلقنا نشق الحياة بصدور فتية وأحلام بريئة ... تصادمت بنا الحياة وتشابكت وتعقدت .... إقتربت وتباعدت ... كثيريين سقطوا ... وآخرين حاولوا .... وبعضنا نجح .... وبعد مرور السنوات الطويلة نعود إليها الآن ..... يا الله ..... لازال قلب الطفل الذى أضمه داخلى يدق بقوة لازال الطفل يتطع للأفق لازالت مشاعر هذا الطفل خضراء لازال كل شئ كما لو كان قد تركته فقط بالأمس هنا لازالت الشجرة شاخصة فى عنان السماء هنا تلاقينا هنا ترقرقت دموع بريئة ... هنا كانت القصائد هنا المشاعر والأحاسيس ودقات القلوب قد بدأت هنا تشابكت أيدى بريئة تشق ظلام الليل على ضفاف ترعة القرية وسط حقول وصيف قائظ وحرارة لم نكن نشعر بها هنا كانت القصائد هنا خطا الطفل خطواته الأولى هنا ... المدرسة التى كنت أهرب منها خوفا من عصا المدرس هنا محطة القرية التى شهدت أحلى الذكريات هنا الصحبة والرفاق هنا بيت العائلة الذى شهد تجمعنا هنا ... وهنا ..... كل شئ فينا تغير هدتنا أحزان الحياة وشقاء الأيام التى خلت ... لكن الغريبة أن الطفل لازال يحبو داخلى ويهفو دوما لأرض شهدت ذكرياته وأحلامه ومشاعره وأحزانه .... إكتشفت بعد سنوات طوال أن السمارة لم تكن أبدا قرية ضمتنا بل هى وطن عاش فينا وحملناه داخل قلوبنا .... تحياتى لكم من قلب السمارة ....