جامعة بنها تطلق قافلة طبية لرعاية كبار السن بشبرا الخيمة    جولدمان ساكس يتوقع استمرار صعود أسعار الذهب بدعم استثمارات القطاع الخاص    أسعار اللحوم اليوم الخميس 2 أكتوبر 2025 في أسواق الأقصر    البنتاجون يخطط لإجراء اختبارات عشوائية للجنرالات والموظفين، ما القصة؟    الأهلي يدخل معسكرا مغلقا غدا استعدادا لمباراة كهرباء الإسماعيلية    انقلاب ملاكي بصحراوي الإسكندرية يسفر عن وفاة 3 أشخاص    القبض على سيدة تهدد زوجة شقيقها بأعمال السحر والشعوذة في الشرقية    قتيلان وجرحى في جنوب المغرب خلال احتجاجات تلتها أعمال شغب    عاجل- تعليم الجيزة: فتح فصل حالات الإصابة بفيروس HFMD الأحد المقبل بعد استكمال التعقيم    سبب تعرض كبار السن للنسيان والاكتئاب.. طبيبة توضح    الصحة: لا يوجد فيروس اسمه HFMD.. وأعراضه لا تشكل خطرا صحيا    مصر والسودان يجددان رفضهما الإجراءات الأحادية في نهر النيل    جنة أم نار.. هالاند يتحدث بصراحة عن خوفه من الموت    لماذا يحدث الإغلاق الحكومي الأمريكي؟    مقتل شخصين في اليوم الخامس من الاحتجاجات في المغرب    وزراء مالية دول "مجموعة السبع" يتفقون على تكثيف الضغط على روسيا بشأن أوكرانيا    الوطنية للانتخابات: انتخابات النواب على مرحلتين والسبت تلقى أوراق الترشح    رابطة الأندية توضح سبب عدم معاقبة جماهير الزمالك وحسين الشحات بعد القمة 131    راموس بعد إسقاط برشلونة: نحن الأبطال ويجب أن نثبت ذلك في الملعب    الزمالك يعود للتدريبات اليوم استعدادًا لمواجهة غزل المحلة    مصطفى عبده يكشف تفاصيل اجتماع الخطيب مع لاعبي الأهلي قبل القمة    النواب يناقش اليوم تقرير بشأن اعتراض الرئيس السيسى على الإجراءات الجنائية    المستشفيات التعليمية توقع بروتوكول تعاون مع جامعة المنصورة الجديدة لتدريب طلاب الطب    النشرة المرورية.. كثافات متوسطة للسيارات بمحاور القاهرة والجيزة    موقع وزارة التربية والتعليم.. التقييمات الأسبوعية عبر هذا الرابط    إيلون ماسك يقترب من عتبة أول تريليونير في العالم    وفاة الشيخ بشير أحمد صديق كبير القراء فى المسجد النبوى عن عمر ناهز 90 عاما    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 2 أكتوبر 2025 فى المنيا    هل الممارسة الممنوعة شرعا مع الزوجة تبطل عقد الزواج.. دار الإفتاء تجيب    وزيرة التنمية المحلية فى جولة مفاجئة لمنظومة جمع قش الأرز بالدقهلية والقليوبية    تعليم أسيوط: تسليم الكتب الدراسية للطلاب دون شرط أو قيد    استشهاد 3 فلسطينيين وإصابة 13 آخرين جراء قصف إسرائيلى وسط غزة    «الرعاية الصحية» توافق على إنشاء وحدتين لزراعة النخاع بمجمعي الأقصر الدولي والسويس الطبي    مصرع وإصابة 11 شخصا إثر حريق هائل يلتهم عقارًا في فيصل    الإغلاق الحكومي الأمريكي، هل يطيح بالدولار وتصنيف واشنطن؟ «فيتش» تجيب    السودان: سنجري مراجعة تفصيلية لملف السد الإثيوبي    «الداخلية»: القبض على مدرس بتهمة التعدي بالضرب على أحد الطلبة خلال العام الماضي    مصرع شخص وإصابة 5 في حادث انقلاب ميكروباص بالشرقية    ترامب يقرر اعتبار أي هجوم على قطر هجومًا على أمريكا    عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الخميس 2-10-2025 في الصاغة بعد ارتفاعه 60 جنيهًا    أودي تعتزم طرح أول سيارة إس.يو.في ذات 7 مقاعد العام المقبل    معركتك خسرانة.. كريم العدل يوجه انتقادات حادة لمخرج فيلم «اختيار مريم»: انتحار فني كامل    بقرار جمهوري.. اليوم مجلس الشيوخ يفتتح دور الانعقاد الأخير من الفصل التشريعي    البابا تواضروس الثاني يترأس قداس تدشين كاتدرائية الأنبا أنطونيوس والأرشيدياكون حبيب جرجس بأسيوط الجديدة    المسرح المتنقل يواصل فعالياته بقرية نزلة أسطال بالمنيا    بلاغ أم يقود لضبط مدرس متهم بالاعتداء على طفل فى الأهرام    عبدالله مجدي الهواري: «بحب الفن ونفسي أبقى حاجة بعيد عن اسم أمي وأبويا»    الدكتور محمود سعيد: معهد ناصر قلعة الطب في مصر وحصن أمان للمصريين    دعاء صلاة الفجر ركن روحي هام في حياة المسلم    4 أهداف.. تعادل مثير يحسم مواجهة يوفنتوس أمام فياريال بدوري أبطال أوروبا    رئيس مجلس المطارات الدولي: مصر شريك استراتيجي في صناعة الطيران بالمنطقة    حماية العقل بين التكريم الإلهي والتقوى الحقيقية    الحمل بيحب «الروايات المثيرة» والحوت «الخيالية».. ما نوع الأدب الذي يفضله برجك؟    «مقتنعوش بيه».. ماجد سامي: كنت أتمنى انتقال نجم الزمالك ل الأهلي    محافظ الشرقية يكرّم رعاة مهرجان الخيول العربية الأصيلة في دورته ال29.. صور    «التضامن الاجتماعي» بالوادي الجديد: توزيع مستلزمات مدرسية على طلاب قرى الأربعين    أرسنال بالعلامة الكاملة في الإمارات ينتصر بثنائية على أولمبياكوس    مدير معهد ناصر: اختيار المعهد ليكون مدينة طبية لعدة أسباب ويتمتع بمكانة كبيرة لدى المواطنين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصص وحكايات من زمن جميل فات - أناس عرفتهم
نشر في شباب مصر يوم 08 - 02 - 2015

والده، عبد المنعم، كان ضابطا بالجيش. كمندان بحيرة قارون. متزوج من ابنة تاجر قطن ميسور الحال من مدينة الجيزة. الأب له أربعة أبناء صغار، ولدان وابنتان. منهم عادل، بطل حكايتنا هذه.
عندما قامت الثورة المصرية عام 1952م، ووجد الثوار أن الكمندان عبد المنعم، كان يستقبل جلالة الملك فاروق، عندما كان يذهب للصيد في بحيرة قارون، قاموا بفصله بدم بارد من الخدمة، بدون مكافأة أو معاش.
لم يسمح له بالعمل في الحكومة، لأنه من ضباط العهد البائد، الذين خرجوا في التطهير. حفي الرجل بحثا عن عمل شريف يناسب قدراته، يمكنه من إعالة أسرته الصغيرة، لكن دون جدوى. الدنيا عصلجت معاه.
باع عفش بيته، وترك سكنه، وأقام هو وأسرته في غرفة واحدة، بسرير واحد وحمام مشترك فوق السطوح. يشربون من صنبور مشترك، ويطبخون طعامهم في أحد أركان الغرفة.
لم تتحمل زوجته، هذه الحياة البائسة، فتركته مع أولاده وذهبت هي لكي تعيش في بيت والدها التاجر. ظل هو يبحث عن عمل بدون فائدة. أنفق كل ما معه من نقود، وبدأ يعيش على ما يجود به أقارب زوجته، وكان حماه متوفيا.
ظل على هذا الحال مدة عامين. بعد وساطة أهل الخير، وجد وظيفة بائع في أحد فروع شركة بنزايون لبيع الأزياء والمنسوجات، قطاع خاص، بمدينة فاقوس، التي تقع شرق الدلتا.
فاقوس، مدينة كبيرة في شرق الدلتا، تقع على أطراف الصحراء. معظم سكانها تجار من أهل البلد، أو موظفون غرباء. يمتاز أهلها بدماثة الخلق والكرم الزائد. بها بعض العائلات الكبيرة واسعة الثراء.
تبعد عن مدينة الزقازيق، عاصمة محافظة الشرقية، مسافة 30 كيلومتر تقريبا. بها مدرسة إبتدائية-ثانوية، تستوعب أعدادا كبيرة من الأولاد. بجوارها مدرسة أخرى للبنات.
شوارع المدينة والطرق المؤدية إليها، كلها ترابية غير مرصوفة. تقوم البلدية بكنسها ورشها بعربات الرش مرتين في اليوم، في الصباح ووقت العصر. الكناسون يلبسون الجلاليب ويحملون المقاطف والمقشات. كل منها عبارة عن يد خشبية طويلة تنتهي بقنو نخلة.
القنو هو مجموعة الأفرع الكثيرة التي تحمل البلح في النخلة. جاء في شعر إمرؤ القيس وهو يصف شعر حبيبته الأسود الفاحم الغزير: "وفرع يغشى المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل".
رش الشوارع والطرقات، يمنع الأتربة من التطاير في الهواء والدخول إلى المنازل والمحلات. عربية الرش، عبارة عن خزان كبير محمول على عجلتين مثل عجلات العربات الكارو، يجره بغل. به فتحة علوية لملئه بالماء، وأنبوبتين خلفيتين في وضع أفقي، مثقوبتين للرش.
يجلس السائق أعلى الخزان ويتحكم في تدفق مياة الرش. في فصل الصيف، تجد الأطفال تجري خلف عربات الرش لترطب جسمها بالماء البارد. توجد في أماكن متفرقة من المدينة، حنفيات مياة ضخمة بخراطيم طويلة لتزويد عربات الرش بالمياة اللازمة.
على شاطئي الترع ترتص أشجار البونسيانا بزهورها الحمراء، التي تتوقد وتلتهب تحت أشعة الشمس طوال فصل الصيف. السماء زرقاء صافية يشوبها قليل من الغمام الأبيض الناصع. مناظر خلابة تأخذ الألباب. لا تجدها في سويسرا ولا في أجمل بلاد أوروبا أو أمريكا.
ركب الأستاذ عبد المنعم القطار ، ومعه زوجته وأولاده، متوجها لمكان عمله الجديد في مدينة فاقوس، بعد أن شحن سريره وخلقاته ووابور بريموس وبعض أواني الطبخ، في عربة البضائع.
استلم الأستاذ عبدالمنعم وظيفته الجديدة، وسكن هو وعائلته في بيت أرضي مكون من غرفتين. بابه يفتح على حارة سد صغيرة، ويقع أمام السكن الذي أقيم فيه مع أسرتي بالدور الثاني.
تتعامد الحارة مع شارع ضيق صغير. أحد جانبيه، سور مطحن بطول الشارع ينتهي ببيت الحاج عيد البقال. الجانب الآخر، يبدأ بمنزلنا، حيث نسكن في الدور الثاني، فوق فرن أفرنجي لخبز العيش. يمتلكه الحاج حلمي صاحب البيت.
ثم ترتص مجموعة منازل من طابق واحد أو طابقين على الأكثر. يسكن بها أناس بسطاء، عسكري شرطة وعائلته، أم حامد، وهي إمرأة عجوز، تسكن بمفردها وتعيش على الإحسان والخدمة في البيوت.
يسكن كذلك، أبو حميدة الحلاق، وزوجته وابنته الصغيرة. وسائق سيارة أجرة متزوج من سيدة فلسطينية جميلة. حبشي أفندي، الموظف ببنك التسليف، يسكن هو وعائلته في أحد المنازل بالدور الثاني.
أثناء رجوعي من المدرسة في أحد الأيام، وجدت في وسط الشارع، مدفأة مكسورة من الفخار، ملقاة من بيت حبشي أفندي. بجوارها قطع متناثرة من الفحم وأرجيلة مكسورة، و"ماشة" تستخدم في تسوية قطع الفحم المتوهجة.
نحن لا نقابل مثل هذا المشهد كثيرا في حياتنا العادية. لذلك اعترانا الفضول وشئ من العجب. فبدأنا نسأل عن السبب. تبين أن الأخ حبشي، وهو فعلا من أصل حبشي، بسمرته وقصره ونحافة جسده، قد أغراه بعض الأصدقاء بشرب الحشيش في بيته.
الأخ حبشي، آخر ما يمكن أن يفعله، هو تدخين سيجارة شحاته. حكاية عمل برتيتة تدخين حشيش في بيته، لم تراوده أو تخطر على باله في يوم من الأيام. لكنه وافق تحت ضغط الإحراج والكسوف، والأمل في قضاء ليلة ممتعه على السرير.
لكن الأمور لم تسر على ما يرام، وكما يجب. يبدو أن حبشي أفندي، قد فوجئ في تلك الليلة بنكسة غير سارة، وخيبة أمل كبيرة، لم تكن في الحسبان. لقد حدث له أمرا، لم يصادف مثله منذ زواجه.
غضب حبشي أفندي من فشله وضعف قدراته، غضبة مضرية، وأخذ يصب الشتائم واللعنات على الشيطان الرجيم وأصدقاء السوء، الذين كانوا السبب. ثم ذهب عاريا، وهو في كامل ثورته، إلى المدفأة والأرجيلة ولوازمها، وألقى بكل ذلك من شرفته إلى قارعة الطريق.
في نهاية الشارع، قهوة بلدي، يمتلكها صالح، شاب في الثلاثينات، يسكن فوقها هو وزوجته وأطفاله. القهوة تواجه بيت الحاج عيد البقال، يمر أمامهما شارع بمحازات النهر. ويقتطع كل من صاحب القهوة والبقال، حديقة صغيرة من حرم النهر. أخذاهما بوضع اليد.
الأول يستخدم حديقته كإمتداد لقهوته، وشرب الحشيش بعيدا عن أعين الشرطة. الثاني يزرعها بأشجار فاكهة وزهور. قام في أحد الأيام بربط ابن أخيه الحرامي الشاب بأحد أشجارها، عقابا له على سرقته نقود عمه من الدكان.
في منتصف أحد ليالي الشتاء قارسة البرد، استيقظت أسرتي بأكملها، وربما الشارع كله، على صوت أم حامد الحاد، يشق سواد الليل، ويفلق زخات المطر المنهمر. صوت لا ينسى يقول: "قتلوا صالح يا ناس يا هوه"، "قتلوا صالح ياناس يا هوه".
كان صالح يركب سيارة أجرة، محملة بترب الحشيش، يقودها سائق. في هذا الوقت المتأخر من الليل، وأثناء المطر، مرا على نقطة مرور.
عندما طلب عسكري المرور منهما التوقف وتفتيش السيارة، إنطلق السائق بالسيار بأقصى سرعتها. فقام العسكري بإطلاق رصاصة واحدة من بندقيته الأنفيلد القديمة، لتردي صالح قتيلا. لقد كان يجلس في المقد الخلفي.
في نهاية الشارع الضيق، من الناحية الأخرى، وعلى الناصية يوجد محل بقالة أحمد هندام. بجواره محل حلاقة يستأجره أبو حميدة. وهو رجل في الخمسينات من العمر.
زائد الوزن ويمتد كرشه أمامه. يلبس بالطو أصفر ضيق بتاع العساكر فوق جلباب أفرنجي، وطاقية صوف لها قرنان، يكبسها حتى تغطي أذنيه. ضعيف النظر، يلبس نظارة كعب كوباية. ويقوم بتحسس وجه الزبون للتأكد من طول شعر ذقنه.
يبدو أن عملية الحلاقة موش جايبة همها. فقام أبو حميدة بوضع قدرة فول مدمس على الرصيف أمام الدكان. عندما تقف أمامه، يرمقك بنظرة، ثم يسألك: "حلاقة والّا فول".
مرة أو مرتين في الشهر، نسمع الصوات والصريخ آتيان من بيت أبو حميدة. ثم نسمع صوت عربة الإسعاف، التي تقوم بحمله إلى المستشفى. ماذا جرى؟
يتضح في كل مرة، أن أبو حميدة زود العيار حبتين، وأكل ما تبقى من قدرة الفول. مما أصابه بعسر الهضم والانتفاخ.
في واجهة الحارة السد، بيت أرضي بحوش. يسكنه الحاج عامر وزوجته الحاجة أم العزم. الحاج عامر وزوجته، كانا يعملان، كطباخ وخادمة، في قصر أحد البشاوات بتوع زمان بالقاهرة.
الحاج عامر كان طويل القامة، قارب التسعين من العمر. وزوجته، كانت تمشي منحية مثل الرقم ستة، ربما كانت في الثمانينات. كل عام، في موسم عاشوراء، كنت أجد الحاج عامر يدور على كل بيوت الحي، ليعطي كل بيت طبق عاشوراء، المطبوخ بالقمح واللبن والزبيب والمكسرات.
في الجهة المقابلة من دكان أحمد هندام، يوجد جامع المأمور. هذا هو الاسم القديم للجامع، الذي لا يعرفه سكان الحي الآن. ربما سمي كذلك، لأن مأمور المركز قام بجمع التبرعات والإشراف على بنائه، أو ربما يكون قد تكلف هو ببنائه.
كانت تتزين مئذنته بالمصابيح الكهربائية طوال شهر رمضان. منظر خلاب أثناء الليل. وكان الأذان من مئذنته بالصوت العادي دون ميكروفونات أو إزعاج. شيخ الجامع، كان الشيخ علي من خريجي الأزهر، أعمى البصر وعاجز النظر، لكنه كان ضليعا بأمور الدين.
بجوار قوة صالح، توجد معصرة سمسم. يُربط فيها رجل مكان البغل، لإدارة حجر المعصرة. أمام بابها منطقة غامقة اللون بسبب اختلاط الزيت بتراب الشارع. ابن صاحب المعصرة كان معنا في المدرسة.
قام صاحب المعصرة بشراء المطحن الموجود في الجانب الآخر من الشارع الضيق. المطحن بني على مساحة لا تقل عن الفدان، وكان ثمن الشراء ألفين جنيه في ذلك الوقت.
كان هناك شاب أبيض أحمر الوجنتين زائد الوزن في العشرينات، يلبس الجلباب الأبيض المكوي. يضع في أصابعه الخواتم الذهب ويقوم بتصفيف شعره ودهنه بالفازلين. لا أعلم علاقة هذا الشاب بالمطحن، ربما يمت بصلة القرابة لصاحبها.
في يوم من الأيام، ذهب هذا الشاب إلى الغرفة التي بها ماكينة المطحن. ماكينة المطحن تعمل بالسولار، وتنقل الحركة عبر سيور طويلة إلى أماكن الطحن.
لسوء حظ هذا الشاب، شبك طرف جلبابه بأحد السيور. فجذبته الماكينة إليها وعصرته عصرا، وهو يصرخ بأعلى صوته. لكن صوت الماكينة كان عاليا ولم يسمعه أحد، سوى صبي صغير لم يستطع مساعدته. مشاهد الرعب ليست مقصورة على أفلام هتشكوك و"بوريس كارلوف".
عادل، الابن الأكبر للكمندان عبد المنعم، كان يقربني في السن. كان لا يزال في المرحلة الإعدادية، وكنت أنا في المرحلة الثانوية. تعرفت عليه بحكم الجوار. وبدأت صداقتنا عام 1955م.
كان شابا وسيما خجولا دمث الخلق، نحيفا طويل القامة. كنا نلعب رياضة النط بالزانة، أنا وأخي الأصغر وأخوه الأصغر. وكان يأتي كل صباح، لكي يرافقني في رحلة الذهاب للمدرسة، وينتظرني للعودة سويا إلى المنزل.
كان يأتي إلى سكني، فيجدني لازلت نائما في السرير. فيضحك من كل قلبه ويقول: "هو أنا كل مرة أجدك في السرير؟ ما في مرة، ولو بالغلط، أجدك مستعدا للذهاب للمدرسة؟" فتجيب والدتي، رحمها الله، "قل له يابني، مغلبني في صحيانه كل يوم".
نتبادل الحديث ونحن في طريقنا إلى المدرسة. يحدثني عن القاهرة وجمالها، وعن عائلة جده التاجر بالجيزة. وعن الأفلام الأجنبية، التي كان يعشقها ويعرف أسماء أبطالها وبطلاتها.
نصل إلى المدرسة، فنجد البوابة قد أغلقت. فيضحك ويقهقه، ويقول: "والله ما حد حيبوظ تعليمي ومستقبلي إلا أنت". ثم نظل نترجى عم رجب الفراش، الذي يلبس الجلباب البلدي والطربوش، لكي يفتح البوابة الحديد لكي ندخل. فيقول:
-أنتم الإثنين بالذات، لا.
-ليه يا عم رجب الله لا يسيئك.
-لأنكم كل يوم تأتيا متأخرين.
ثم يعطينا، عم رجب، درسا في فوائد الاستيقاظ المبكر وحفظ المواعيد.
-معلهش يا عم رجب أصلنا كنا سهرانين بنذاكر.
-أبدا، لن تدخلوا، إلا بعد أن يحضر أولياء أموركما.
-ياعم رجب الله يهديك.
-وأخيرا يرق قلب عم رجب، ويفتح الباب، بعد أن يتأكد من أن ناظر المدرسه غير موجود بالحوش.
في يوم عيد، قررنا، أنا وصديقي عادل، الذهاب إلى العاصمة لدخول السينما هناك. سينما فاقوس، كانت دار واحدة، تعرض أفلام عربي أبيض وأسود. أما في الزقازيق، فكانت توجد في ذلك الوقت أربع دور عرض، تعرض أفلام أجنبية بالألوان.
أخذنا الأوتوبيس ووصلنا إلى الزقازيق، في وقت بين العصر والمغرب تقريبا. وجدنا فيلم حصار طروادة معروضا في سينما أمير الصيفية. الفيلم أجنبي طويل جدا. انتهى العرض حوالي الساعة الواحدة صباحا.
لم نجد مواصلات للعودة في هذه الساعة المتأخرة من الليل. الجو كان باردا جدا، فقررنا الذهاب للجامع للنوم فيه حتى الصباح. وجدنا جامع أبو خليل مغلقا.
ذهبنا إلى محطة القطار، وجلسنا على كنبة خشبية على الرصيف. بعد نصف ساعة تقريبا، جاء موظف بالسكة الحديد لكي يسألنا عن سبب وجودنا على الرصيف بينما لا توجد قطارات في تلك الساعة. وطلب منا مغادرة المكان.
خرجنا من المحطة، وأخذنا ندور في الشوارع، ثم عدنا إلى نفس المكان. فوجدنا الموظف قد غادر الرصيف. أنتظرنا أول قطار ذاهب إلى المنصورة. أخذنا القطار ونزلنا في مدينة هيها. ثم ذهبنا إلى بيت جدي لكي نكمل نومنا، ونتناول شيئا من الطعام.
والد عادل، كان يعمل في فرع بنزايون بمدينة فاقوس كبائع. الأم لم تكن تعمل، كما هو الحال بالنسبة لمعظم ستات البيوت في ذلك الوقت. الدخل لا يكاد يكفي شراء الخبز الحاف لأربعة أفراد.
لاحظت مرة، أنها طلبت من ابنها أن يقتصد في أكل الخبز حتى يكفي باقي الأسرة. مرة أخرى وجدتها تسند رأسها بكفها وذراعها في الشباك وهي تبكي. لاشك أنها الغربة، والحاجة، والخوف من المستقبل.
لقد كانت هذه السيدة، تحضر مع زوجها، عندما كان كمندانا بالجيش، مسرح يوسف وهبي. هاهي تعيش غريبة، لا تستطيع إطعام أولادها بدخل زوجها المتواضع. وبعد أن كانت تحضر حفلات أم كلثوم الحية، أصبحت تنتظر أغنية لها، تزاع من راديو صغير في دكان البقال المجاور لسكنها.
لكن القدر لا يرحم، ولا قلب له. عندما تمطر السماء، فهي تمطر بغزارة وبقسوة. بدون سابق إنذار، تم الاستغناء عن الزوج، الكمندان سابقا. حاول فاعلوا الخير التوسط لعوته لعمله، لكن دون فائدة.
ماذا يفعل الزوج بعد فصله من عمله؟ أخذ في بيع عفش بيته قطعة قطعة. ثم هداه تفكيره أن يخلي إحدى الغرفتين اللتين يسكن فيهما، ويستخدمها كدار حضانة للأطفال. حضانة بابا عبده.
استمر الحال كذلك مدة عدة شهور. خلالها، جاء أخو الزوجة لزيارة أخته وعائلتها في غربتها. لكنه لم يسعد بوضع الأسرة والحياة التي تعيشها أخته مع زوجها وأولادها. فنصحها بالعودة إلى القاهرة بأسرع ما يمكن.
عادت الأسرة إلى القاهرة. لم يكمل عادل صديقي تعليمه، واكتفى بشهادة الإعدادية. بعد حياة شاقة وكفاح مرير. تمكن الأب من إيجاد وظيفة في شركة لتجارة الورق ككاتب.
في نفس الوقت، وجد عادل وظيفة في شركة بنزايون بالقاهرة، وهي نفس الشركة، التي فصل منها والده من قبل.
مرت السنون، وتخرجت من الجامعة، ثم توظفت بمؤسسة حكومية بالقاهرة. وبينما أنا أسير في شارع الألفي بالقاهرة، إذا بي أجد عادل صديق الصبا يسير على الرصيف.
قوام ممشوق، يلبس البدلة الكاملة والشعر المدهون فازلين والحذاء اللامع، كعادته. وقد كان يشبه إلى حد كبير كمال الشناوي ولكن بدون شارب.
لم نفترق منذ ذلك التاريخ، واستمرت صداقتنا إلى أن تركت مصر وهاجرت إلى الولايات المتحدة. في أول شهر رمضان من كل عام، كان يأتي إلى سكني بالقاهرة، ويدعوني على الإفطار، أنا وأخي، في بيت عائلته بالجيزة. لم يستثن عاما.
لا يمكن أن تشعر وأنت تحادثه، إلا أنك أمام إنسان متعلم واسع الثقافة والاطلاع، بالرغم أنه لم يحصل إلا على شهادة الإعدادية. لم أعهده يكذب أبدا، أو يتنصل من وعد، قد إلتزم به، أو مارس النميمة في حق أحد. أخلاق رفيعة بكل المستويات.
ذهب في مأمورية تبعا لعمله إلى مدينة السويس. قابل هناك فتاة عذراء بيضاء شقراء. في خلال أسبوعين، تم زواجه منها. وسكن معها في شقة صغيرة في عقار قديم خلف جامعة القاهرة. تفتح شبابيكها كلها على المناور.
لسوء حظه، كانت زوجته من النوع العصبي شديد الغيرة والأنانية. جعلت حياته جحيم في جحيم. جعلته يمشي يكلم نفسه في الشوارع. كان لا يجد من يشكي له همه سواي، صديق عمره.
كنت أواسيه، وأطلب منه الصبر والتحكم في انفعالاته. وخصوصا بعد أن أنجب طفلة صغيرة جميلة. وكانت زوجته تغضب وتترك له ابنته وتذهب إلى عمها في السويس، بعد أن تركت عملها.
ثم هاجرت إلى الولايات المتحدة في أواخر عام 1969م، وتركته على هذا الحال. في أول زيارة لي لأرض الكنانة، جاء لزيارتي في بيت أخي بأحد أحياء القاهرة.
جلسنا في الشرفة نتبادل أطراف الحديث حتى الصباح. لاحظت علامة في أسفل رقبته. عندما سألته عن سببها، قال أنه قام باستئصال جزءا من الغدة الدرقية.
في زيارتي لمصر التالية، بعد سنة أو سنتين، في أوائل السبعينات، أخذت أخي الأصغر وذهبنا للسؤال عنه في مكان عمله بشركة بنزايون. سألنا الموظفين، فلم نجد أحدا يعرف مكانه.
أثناء خروجنا، تبعنا ساعي يعمل بالشركة. سألنا، هل تبحثون عن عادل عبد المنعم. أجبت نعم، منفضلك. فأجال، هل أنتم أقاربه؟ فقلت، لا. بل أصدقاؤه. فقال: حياتكم الباقية، لقد توفى منذ سنة تقريبا. إنا لله وإنا إليه راجعون".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.